fbpx .
بحث | نقد | رأي

حمزة علاء الدين: النوبة، حانات مانهاتن، تقاليد الساموراي

معازف ۲۰۱۳/۰۷/۱۲

صادف يوم الأربعاء الماضي، 10 تمّوز/ يوليو، الذكرى الرابعة والثمانين لمولد الفنان حمزة علاء الدين. وبهذه المناسبة، تنشر معازف شهادة مطوّلة لصديقه عبد المجيد علي حسن عن رحلة حمزة في العالم، ومواقف الفنان الشخصيّة ورحلته الأكاديميّة ومهنته الموسيقيّة.

شهادة: عبد المجيد علي حسن

كتبت بذكرى 100 يوم على وفاة حمزة.

________________________________________________________

ما حفّزني للكتابة عن حمزة علاء الدين، إلى جانب استمتاعي وانتشائي بفنّه وأعماله كفرد نوبي الانتماء واللغة والمنشأ، هو معرفتي وصداقتي الشخصية به، والودّ الذي كان مقيماً ومتواصلاً بيننا عبر ما يقارب الأربعة عقود من الزمان.

في الثاني والعشرين من أيّار/ مايو 2006 غيّب الموت الفنان النّوبي العالمي حمزة علاء الدين، ليتوسّد ثرى سفوح وتلال ضاحية نافاتو“- Navato ، إحدى الأطراف الشمالية في مدينة سان فرانسيسكو في الخامس والعشرين منه. شيّعه إلى مثواه الأخير جمهور يزيد على الألف وخمسمائة من عشّاق فنه ومريديه على امتداد ولاية كاليفورنيا.

كان دور حمزة حاسماً في سموّ هذا النمط الإبداعي الشفيف إلى مراقٍ عليا، وذلك عندما اخترق جدران العالمية السميكة مسلحاً فقط بصوته المزماريّ المتهدّج، ووأوتار عوده ودفه (الطار) النوبي المشدود. كان ذلك عندما طرحت له شركة “Vanguard”، إحدى كبريات شركات الإنتاج الموسيقي أول إصداراته بعنوان موسيقى النوبة عام 1965. ثم أسطوانته الثانية باسم إسكاليهأي: “الساقيةبالنوبية عام 1971. لقي هذان الإصداران نجاحاً فاق كل التوقعات، إذ شكّلا آنذاك نمطاً موسيقيّاً جديداً في الساحة الموسيقيّة المعاصرة. ليلفت أنظار دوائر الموسيقيين العالميين، ويتعرّف فناننا عن قرب على فنانين فرق موسيقيّة مشهورة، من أمثال بوب ديلان، ثم المغنية المشهورة والناشطة السياسية جوان باييز وغيرهما.

تعدّت شهرة حمزة علاء الدين القارة الأميركيّة وعبرت الأطلنطي، فشارك بالأداء في المهرجانات الموسيقيّة العالميّة. ولم يفت على هوليوود الإفادة من هذا النمط الموسيقي، فكان أن تسنّى لحمزة صياغة وتسجيل الموسيقى التصويريّة لعدد من الأفلام الأميركيّة كان أهمّها فيلم The Black Stallion” للمخرج فرانسيس فورد كوبولا (1979). عدا عن العديد من الأفلام التسجيليّة الوثائقيّة عن بلاد النوبة والنوبيين.

حمزة علاء الدين يعزف الطار ابتداءً من الدقيقة 1:00 في الموسيقى التصويريّة لفيلم The Black Stallion

شهدت تلك الفترة، الستينيّات والسبعينيّات، حراكاً ونشاطاً غير مسبوقين للأميركيين الأفارقة، تمثّل في تنامي حركة السود لمناهضة العنصريّة، ضمّت إليها الحركات المعارضة لحرب فيتنام. إذ تبنّى معظمها مبادئ راديكاليّة، ورفعت شعارات قاسية، وظهرت قيادات شابّة توسّمت خطى مالكولم أكس” – الداعية الأميركي المسلم – كان أبرزها شعار القوة السوداء من أمثال آنجيلا دافيز، وستوكلي كارمايكل وغيرهما. حينئذٍ، شدّ موسيقى وغناء حمزة علاء الدين انتباه هذه الشخصيات وما يمثّلون من حركات سياسيّة واجتماعيّة فنيّة، فسعت إلى التعرّف عليه وعلى موسيقاه وأغانيه عن كثب. ليصبح حمزة شخصيّةً رئيسيّة في تحشّداتهم الجماهيريّة ومهرجاناتهم الموسيقيّة في سائر المدن الأميركيّة، مما أسهم كثيراً، ليس فقط في انتشاره الجماهيري وحسب، بل وفي استقطاب الاهتمام الأكاديمي لتدريس ما صار يعرف اليوم بـعلم الموسيقى الأثنيفي العديد من الجامعات الأميركيّة ثم اليابانيّة.

من الإيقاعات المعلّبةللأورج، إلى استعادة دور إيقاعات الطار التقليديّة

سعيت إلى الاتصال بحمزة والتعرّف إليه شخصيّاً خلال الربع الأخير من العام 1971، وذلك عندما التحقت للعمل ببعثة السودان الدائمة لدى الأمم المتحدة بنيويورك، إذ كان حمزة يعمل آنذاك أستاذاً للموسيقى بجامعة أوستن بولاية تكساس. وكعادته في الاحتفاء بالآخرين، بادر بتلبية دعوتي لقضاء عطلة أعياد الميلاد ورأس السنة بمدينة نيويورك، فالتأم شملنا النوبي بانضمام السفير كمال أحمد داوود من واشنطن، ثم لحق بنا الدكتور أحمد صديق عثمان – الصديق الشخصي للمناضل الأميركي الأسود مالكولم أكس” – من جامعة هارفارد بمدينة بوسطن إلى الشمال الشرقي. واستحال لقاؤنا الأول ذلك إلى منتدى فنّي نوبي، ونحن نتحلّق حول هذا الفنان النوبي الأصيل وهو يغوص بنا إلى أعماق وأصول الألحان النوبيّة والسودانيّة، فننهل، ليس فقط من فيض علمه بهما، بل وبالموسيقى العربيّة ككل. فلفت انتباهنا لأوّل مرة إلى الفروقات بين السلّم الخماسي والسباعي، ثم المقامات الموسيقيّة الشرقيّة/ العربيّة من النهاوندوالرّصدوالبياتيوالحجاز كاروغيرها، وهو يستخلصها بعوده من قلب الموشحّات الأندلسيّة وأدوار سيد درويش، ثم تقاسيم من أغاني وألحان أم كلثوم وعبد الوهاب، ثم ناظم الغزالي وصباح فخري.

كان أعظم ما يثير فضولنا ويشحذ اهتمامنا في لقاءاتنا اللاحقة، هو حديث حمزة علاء الدين عن الدّف (الطار) النوبيّ، وتميُّز إيقاعه، ثم الأصوات المتفرّدة التي تصدر من القرع على مختلف أقطاره الدائرية. كانت الدهشة تأخذ منا كل مأخذ ونحن نرى الطار، الذي كنا نعتبره آلة إيقاع ذات رتابة بدائيّة، تتفجر منه على يد حمزة إيقاعات غاية في الرقّة والعذوبة والتطريب. مستمعين إلى حمزة وهو يردّد قولاً ويدلّل فعلاً بأن إيقاع الطار النوبي لهو من أعقد الإيقاعات. وأنّه، رغم تصنيفه موسيقيّاً كأحد آلات النقر، إلّا أنّه، وعندما تتداخل إيقاعاته الثلاث الأساسيّة (يقوم الغناء النوبي على إيقاع ثلاثة دفوف) يخرج جملاً موسيقيّة كاملة ذات نفاذ وتطريب عاليين، وبالذات على يد المغني الأوّل الذي تتكئ موهبته الغنائيّة، إلى جانب قوّة صوته، على تمرّسه وقدراته على تطويع كفه وأنامله في القرع على الجلد المشدود، ثم أسلوبه في معالجته للطّار

تذكّرت حديث حمزة هذا حول الطار النوبي وقد جمعني مجلس سمر في القرية النوبيّةبالقاهرة مع الفنانين النوبيين فكري حسن كاشف وعبد الرحمن محمد صالح ومجدي محمد عبده. كان الهاجس آنذاك هو الهاجس النوبي الذي لا يبارحهم، مجمعين على قدرتهم بالتمييز ما بين المغنيين النوبيين المشهورين، والتعرّف على أي منهم بالتحديد يحيي حفل العرس في مختلف قرى التهجير المتناثرة في كوم أمبو بمجرّد أن يتناهى إلى سمعهم صوت الطار وهو يأتيهم من على بعد. وذلك قبل أن تحتل آلة الأورج مكان الطار، فتستلب من الغناء النوبي نكهته الخاصة وإيقاعه المتميّز. ورغم أن حمزة علاء الدين كان، بوصفه موسيقيّاً أكاديميّاً، يؤمن بأهميّة وإمكانيّة تطويع الآلات الموسيقيّة الحديثة للألحان والأنغام النوبيّة، إلّا أنّه لم يكن يستسغ طغيان آلة الأورجفي الغناء النوبي والسوداني الحديث. وكانت حجّته أن الإيقاعات المعلّبةأو مخزون الإيقاعاتفي الأورج لا تتضمّن إيقاعات الدف النوبي الشجيّة، ولا إيقاعات التم تمالحادقةوهي في مجملها إيقاعات إثنيّة أفريقيّة تعكسان على التوالي جلال وسكينة الانسياب النيلي في قلب الصحراء وشغب وضجيج الغابات الاستوائيّة.

من ينصت جيّداً، عند الاستماع لأعمال حمزة علاء الدين، يجد أن الطار النوبي يشكّل العمود الفقري للجسم الّلحني والجمل النغميّة، حتى وإن جاءت إيقاعاته خافتة حيناً، ومتوارية خلف الصوت الطاغي للعود أحيان أخر. الأمر الذي اقتضته اعتبارات الانتشار وصناعة الإنتاج الموسيقيّ، ثم عالميّة جمهور المتلقين.

تعدّى حمزة مجرّد القرع على الطار إلى استنباط وابتداع دفوف نوبيّة استخدم فيها مختلف أنواع الأخشاب وجلود الغزلان الأميركيّة التي كان يجلبها له أصدقاؤه من هواة الصيد. فيقوم بمعالجتها، ثم شدّها في إطارات خشبيّة كان يقوم بتصميمها على أحجام من أقطار مختلفة، وعلى أنماط تتوافق، ليس فقط مع الشكل الجمالي والعملي، بل، والأهم، مع نقاء وتناسب ما يخرج منها من أصوات تتّسق، ليس فقط مع الايقاعات النوبيّة الثلاث، وإنّما تتميز بأنها لا تحتاج إلى تحميس” (أي الشد بالتعريض إلى حرارة اللهب).

من هنا، نقول أن أعظم ما تركه لنا حمزة علاء الدين، فضلاً عن إبداعاته الفنيّة المتمثّلة في أعماله الموسيقيّة والغنائيّة، فهو حقيقة أن الإيقاعات النوبية ومعظم الفولكلور الغنائي النوبي صارتا معلماً بارزاً في علم الموسيقى الأثني، وهي مدونة في “Note” موسيقيّة علميّة ضمن مناهج التدريس في مختلف المعاهد الموسيقيّة والجامعات العالميّة. إضافة إلى الرقصة النوبيّة الجماعيّة المعروفة بـأولن أراقيد، والتي كان حمزة يقول أنّها مرصودة علميّاً، وتتضمن اثني عشر إيقاعاً متفرّداً، وهي تعدّ، في تركيبها وتكوينها، من أعقد الألحان النوبيّة التي تستعصي على الأداء السليم، إلا لمن تأتت له الموهبة المتفرّدة والأذن الحساسة. هذا إلى جانب إيقاع ما يعرف بالـ نقرشادالذي يصاحب معظم الأغاني التراثيّة النوبيّة الهادئة، والذي يتصدّر مقدّمات الحفلة من دون أن يصاحبه غناء بمثابة إعلان للقرى والنجوع المجاورة إيذاناً ببدء الحفل، تماماً كما الدقات المعهودة على خشبة المسرح قبل بدأ العرض.

ثلث المهندس، ثلث الأكاديميّ، ثلث الموسيقيّ

كان معهد ليونارد دافنشي بالقاهرة (المركز الثقافي الإيطالي حاليّاً) أول جهة أجنبيّة يتواصل معها الفنان حمزة علاء الدين، وذلك بعد أن ترك دراسة الهندسة في جامعة فؤاد بالقاهرة إلى معهد الملك فؤاد للموسيقى الشرقيّة، متخصّصاً بآلة العود، وذلك بعد أن درس علم الموشّحات الأندلسيّة وأتقن فنونها. أثمر هذا التواصل مع المعهد الإيطالي عام 1959 عن منحة حكومية إيطاليّة للالتحاق بمعاهدها الموسيقيّة لدراسة الموسيقى الغربيّة من خلال آلة القيثار. وعند وصوله إلى أميركا عام 1963، كانت موهبته الفنيّة قد اكتملت، وتشكّلت شخصيّته الموسيقيّة من خلال الأداء والممارسة مع تمام تأهّله الأكاديمي. ليبدأ مرحلة التدريس الأكاديميّ في الجامعات الأميركيّة.

تمثّل هذه المرحلة الغاية المبتغاة للكثير من أكاديميي بلادنا في هذه المجالات، إذ ما أن يحتل أحدهم موقعه الأكاديمي حتى يركن إلى دعة المنصب والمكانة الاجتماعيّة، فتبهت موهبته، وينقطع عطاؤه.

لكن حمزة اختار ارتياد الطريق الصعب، وصدرت له خلال عمره 14 أسطوانةً. عدا عن حضوره المكثف في المهرجانات الموسيقيّة المختلفة. سعى حمزة للاحتكاك، ثم التعامل والتفاعل مع الوسط الفني العالمي منذ وصوله إلى إيطاليا، حتى أنّه شارك كأحد أفراد المجاميع السينمائيّة (كومبارس) في تصوير فيلم كليوباتراالشهير (1963) بروما. وأتاح له التحامه بالوسط الفني العالمي التعرّف على العديد من الموسيقيين المشاهير، وعلى رأسهم المغنية والناشطة السياسيّة الأميركيّة جوان باييز، والتي تولّت تقديمه إلى شركة Vanguard، ليسجّل أسطوانته الأولى موسيقى النوبة” (1965). كما وشارك ببداية قدومه لأميركا بالعزف مع فرقة موسيقار الجاز الشهير ثيلونيوس مونك، وجاب معها معظم المدن الأميركيّة الكبيرة.

نيويورك، الثالثة صباحاً. حمزة يرتجل مع رفقاء القوّة السوداء

كنت أنعم برفقته كثيراً عندما يأتي إلى نيويورك زائراًوالتي لم يكن ينقطع عنها طويلاً بمسارحها ونواديها وفرقها الموسيقيّة ومراكزها ومنتدياتها التي خبرها كأوّل محطة له بأميركا عند قدومه لها من أوروبا. حتى أنّه ثمّة أماكن معيّنة بهذه المدينة لم يكن بمقدوري أن أعرف بوجودها. كتلك المقاصف والمقاهي التي تقع في الجزء الجنوبي الأسفل من جزيرة مانهاتن تعرف باسم Greenwich Village، والتي تفتح أبوابها الثانية أو الثالثة صباحاً لتستقبل روّادها من الموسيقيين العاملين في أنديتها الموسيقية، إلى جانب أولئك العاملين بمسارح برودواي الشهيرة. هناك، حيث يلتقون لتناول إفطارهم بعد انتهاء دوامهم الحرفيّ وقبل العودة لمنازلهم. كنت أصحب حمزة وهو يقصد مقاصف معيّنة كان يرتادها موسيقيو الجاز، مستقبلين إياه بالتهليل والصياح عندما يطل عليهم بوجهه الداكن السمرة تحيط به لحية سوداء مطلقة، ملوّحين له بقبضات أياديهم المرفوعة – التحيّة الشائعة والمميّزة لـالقوّة السوداء“.

وبعد أن يلتهم هؤلاء الروّاد إفطارهم وتهدأ الضجّة قليلاً، يتنادون فيما بينهم لتكوين فرقة مكتملة، ويتناول كل فرد آلته الموسيقية وينضم إلى المجموعة بعزف مقطوعة موسيقيّة من الجاز تكون قد صدرت حديثاً لأحد مشاهير موسيقيي الجاز. وعندها، يتحوّل المقصف هذا إلى جلسة ما يعرف بالـ “Jam Session” ، حيث يقوم العازفون المختارون بعزف كامل القطعة الموسيقيّة جماعيّاً، ثم يقوم كل عازف بعزف اللّازمة الموسيقيّة المميّزة للمقطوعة عزفاً منفرداً على آلته، ويقوم الآخرون بمساندته، ثم يأخذ كل فرد دوره بالتتابع. وفي هذا المشهد، يتبارى الموسيقيون، ليس فقط في إظهار براعتهم في العزف أمام زملائهم، بل وفي إبراز مقدرة كل منهم على إضافة بصمته الشخصيّة إلى اللازمة المميّزة، والمقطوعة ككل من دون الإخلال بها. وهذه ممارسة معروفة في عالم الجاز الأميركي تحديداً، ذلك أنّ الموسيقيين هنا يقومون بالعزف لمتعتهم الشخصيّة، وليس للجمهور. ومن هنا فإنّ الاستماع لموسيقى هذه الجلسات متعة لا توازيها متعة لمن له، مثلي، الحظ المتواضع بالإلمام بموسيقى الجاز وتذوقه.

أصابعه تترك إفرازات دهنيّة على أوتار العود

ينقل الناقد الفنّي لصحيفة سان فرانسيسكو كرونكيل” (1) عن بدايات تعلّق حمزة علاء الدين بآلة العود قوله: “تملّكني شعورٌ داخليّ بأن للعود نبرة صوتيّة نوبيّة، فصرت أعزف عليه لأهلي بقريتي النوبيّة. وعندما أحسست بمدى استحسانهم وإعجابهم بعزفي، أيقنت بأن لدي ثمّة شيء خاص يستحقّ تقديمه“. من هنا، يدرك المتابع للمسيرة الفنيّة لهذا الفنان النوبي بأن علاقة حمزة بالعود سبقت دراسته للموسيقى الشرقيّة وعلم الموشحات الأندلسيّة بالقاهرة. وكما يقرّ النقّاد بموهبة حمزة المتفرّدة في العزف على العود، فهناك ثمّة إجماع في الرأي، في أوساط كل من تناول أعمال حمزة بالتقييم والتحليل، بأنّها تعدّت اعتبارها أعمال موسيقار متخصص في أحد آلات التخت الشرقيّ أو الموسيقى الشرقيّة البحتة. ومن هنا يثور التساؤل: كيف تسنّى لهذا النوبي البسيط، القادم من هذه المنطقة المهملة التي ترقد في قاع بحيرة النوبة بين مصر والسودان، هذا الانتشار العالمي؟

لم أتعدّ، كوني مستمعاً عاديّاً لأعمال حمزة، ولا يشفع لي اقترابي منه وما جمع بيننا من ودٍّ حميم أن أتطاول مدّعيّاً قدرتي على الإجابة على مثل هذا التساؤل بقدر كاف من الموضوعيّة. إذ لا أرغب في أن تجرفني العاطفة فأورد حكماً انطباعيّاً يخلو من إسنادات صلبة، خاصّة ونحن بصدد علم حديث متكامل الأركان في مجال الموسيقى والغناء الإثنيّ.

لكنّني أخاطر بالقول بأنّ أيّ مبحث يدور حول هذا الأمر حري به أن ينطلق من تناول إبداعات فناننا هذا، من حيث مكوناتها الثلاثة من أعمال نوبيّة صرفة إلى جانب عزف الموسيقى الشرقية على آلة العود ثم الأداء الصوتي المصاحب لهذا العزف وبالذات الغناء الذي يصاحبه الطار النوبي. وبتقديري، فإنّ هذا هو المدخل الصحيح لتقييم أعمال الفنان باعتبارها نوعيّة جديدة ومتفرّدة، وهجين متناغم النسيج يجمع ما بين الإيقاعات والأصوات الإثنيّة الأفريقيّة والموسيقى الشرقيّة المعاصرة كما خرجت من شرنقة الموشحّات الأندلسيّة في الربع الأول من القرن العشرين على أيدي عباقرة هذا الفن، بدءاً بسيّد درويش، ومروراً بكامل الخلعي وزكريا أحمد، وانتهاءً بمحمّد عبد الوهاب.

ولعلّ النّاقد الفني لصحيفة الغارديان البريطانيّة (2) كان الأدقّ تعبيراً عندما كتب بحرفيّة عالية وهو يرثي حمزة قائلاً: “ابتدع حمزة علاء الدين ضرباً موسيقيّاً رائداً، تمازجت وتوالفت فيه أساسيّات التناغم المتصاعد للإيقاعات والأصوات النوبيّة الأفريقيّة مع الجماليّات الفنيّة المميّزة للموسيقى الشرقيّة الكلاسيكيّة“. ومن هنا، يخلص المتابع إلى أن الوعي الفنّي لحمزة تشكّل في صباه وبدايات شبابه في الأربعينيّات من القرن الماضي، وذلك عندما صار اقتناء المذياع أمراً متاحاً للقلّة من النوبيين. ومن هنا يآتي التمازج الفريد في أعماله بين فنّ الغناء النوبي بسلالمه الموسيقيّة الخمس، والموسيقى الشرقيّة ذات السلم السباعي.

ولا يكتمل الحديث عن فناننا ومدى ولعه بالعود، وتعامله معه على نحو ينم عن احترام يقارب التقديس إلّا بالحديث عن عوده الشخصي. ففضلاً عن استثماره قدراً معتبراً من المال في سبيل اقتنائه ببدايات مشواره من أحد أشهر صانعي العود الدمشقيّ في الستينيّات (نفس صانع أعواد كل من فريد الأطرش ووديع الصافي كما ذكر حمزة) فقد كان مصنوعاً في أغلبه من خشب الورد الشامي وأخشاب أخرى نادرة كان يذكرها حمزة في زهو ولكنّها سقطت من الذاكرة.

كان يتوسط العود في واجهته دائرة كبيرة يسمّيها العوادون بالـقمرة، وهي مصنوعة بكاملها من العاج الناصع البياض محفور بها أسماء المقامات الموسيقيّة الشرقيّة بخط عربي جميل. كما طُعّمت أطراف وحواشي واجهته بالعاج وقطع الأبنوس الأسود ببراعة. أما الأوتار فترقد على امتداد العود (تسمى الرقبة) على أرضيّة من الخشب المطعم بالأصداف البحرية التي تنتهي بمشدّاتها (تسمّى الصباعات) المصنوعة من الأبنوس الأحمر المعرّق بالسواد.

كانت لحمزة، عند إقباله على العزف، طقوس معيّنة: فما كانت يده تمتد إلى أوتار العود قبل أن يمسح أطراف أصابعه بالفوط الصغيرة المغموسة في الكحول الطبية. ويمرّر هذه الفوط على أوتار العود وتراً تلو الآخر. مبرّراً ذلك بأن: “أصابع المرء تترك بعضاً من الإفراز الدهنيّ على الوتر، فتؤثّر على طبيعته ونقاء الصوت الصادر منه“.

ثم يأتي صوت حمزة الأدائي ليضفي البعد الثالث والنكهة المميّزة لمجمل أعماله، إذ تميّز بنبرة متهدّجة تعكس الشّجن الداخلي الذي تملّك وجدانه، فتكاد أن تقرأها في ملامح وتقاطيع وجهه منذ أن افتقد قريته ومرتع صباه، شأنه في ذلك شأن عشيرته وأهله الذين ظلّ ملتصقاً بهم. إذ كان عشقه للنوبة – تراباً وأهلاً – هي العاطفة الكبرى التي ما خبّأها حتى انقضاء رحلة حياته. وفي صوته هذا، كان يسكب عصارة قلبه، فيخرج من بين شفتيه مخالطاً حزناً جارفاً وبأداءٍ ملتاع يظهر على قسمات وجهه حتى وهو يردد أهازيج لهو الأطفال من أقرانه أيام طفولته وهم يسبحون في النهر في قرية توشكا النوبيّة.

الرحلة الصوفيّة اليابانيّة

يشير حمزة إلى بدايات رحلته، وينقل عن أول لقاء له مع الجمهور الأميركي والغربي والعالمي في مهرجان نيوبورت للفنون الغنائيّة الإثنيّةعام 1964، فيقول: ” لم أملك، أمام هذا الجمهور الذي يربو على الـ34 ألف مستمع، إلّا أن أغمض عينيّ وأستغرق تماماً في العزف على العود. أحسست بوقع الهدوء الذي لفّ كل أرجاء المهرجان. وقلت لنفسي: لابدّ أن الحضور قد تملّكه النوم أو غادر المكان. شعرت بعدها بتجاوبهم معي وإعجابهم بما قدّمت. ومنذ ذلك الحين وأنا أشعر بارتياح عميق وأنا أعزف لنفسي أمام أي جمهور من المستمعين“.

لم يكن هذا جديداً على حمزة، فهو ينحدر من عائلة دينيّة صوفيّة عريقة، إذ كانت تتقاطع في المنطقة النوبيّة كل الطرق الصوفيّة المعروفة الوافدة من الشمال المصري أو المغرب العربي وهم يعبرون النيل في طريقهم إلى الحج.

وكما كان يستغرق في عالمه ذلك وهو يعزف أو يغنّي لجمهور مستمعيه، كان أيضاً معروفاً بحرصه الشديد وتمّسكه بأن يحترم مستمعوه عالمه هذا بحسن الاستماع والإصغاء التام في صمت لا تشوبه الجلبة أو الضوضاء. إذ كان لا يتوانى أو يتردّد في التوقّف عن الإداء متى ما أحس بنقص في الإصغاء، خاصة إذا ما صدرت همهمات أحاديث المستمعين. لم يكن يغضب أو يثور لذلك، بل كان يعلّل توقّفه عن العزف أو الغناء لمن يسأله بقوله بأن للونسةموسيقى خلفية خاصة تسمى بـ”الاستماع السهل أو المريح” – Easy Listening، وهي الموسيقى التي تتردّد في قاعات الانتظار في المطارات أو عيادات الأطبّاء أو مصاعد البنايات، وبأن ما يقوم بأدائه لا يقع ضمن ذلك التصنيف.

كان هذا من العوامل الرئيسيّة التي استقطبت له جمهور الأميركيّين من ذوي الأصول اليابانيّة خاصة، والشرق آسيويّة عامة: فهم، إلى جانب تقارب الألحان النوبيّة مع ألحانهم من حيث سلّمها الموسيقي الخماسي، فإن طقوسهم التعبديّة بمختلف أنماطها ومسمياتها تستوجب ذلك الاستغراق والإنصات الكاملين إلى جانب الرياضات الروحيّة التي يمارسونها.

وفي العام 1980، قدّمت له الحكومة اليابانيّة منحةً لتدريس علم الموسيقى الإثني بإحدى كبريات الجامعات اليابانيّة بالعاصمة طوكيو، وتحديداً لدراسة الآلة الموسيقيّة اليابانيّة التقليديّة المسماة بالـ“Biwa” التي تشبه في شكلها ووضع أوتارها وما يخرج منها من أصوات آلة العود. وهناك، أقام حمزة ما يقارب العشر سنوات، وأتيحت له الفرصة ليعزف مع أشهر الفرق الموسيقيّة، بل ويضع لها بعض معزوفاتها. ومن ثم كان تفاعله وتواصله مع الجمهور الياباني ذو الحضارة القديمة والتقاليد العريقة.

وحول هذه المرحلة من حياته، يعلّق حمزة قائلاً بأن استفاد في تعامله وتفاعله مع الموسيقى اليابانيّة التقليديّة بعمليّة تأليف وأداء أعماله الموسيقيّة بدقة وتركيز ملحوظين“. وفي هذه الفترة، التقى بزوجته اليابانيّة التي اتخذت الاسم النوبي الشهير نبرا” (وتعني الذهب الخام بالنوبيّة)، وهي موسيقيّة قاسمته حياته حتى وفاته. وقد بادل حمزة اليابانيين احترامهم وتوقيرهم لنوبيّته وتقاليدها باحترام التقاليد والأعراف اليابانيّة المماثلة في عراقتها وقدمها، وأعجب بتمسكهم بتقاليدهم رغم غرابة بعضها. وقد لا يعلم الكثيرون بأن حمزة أقدم على إزالة لحيته الكثيفة التي تميّز بها طوال إقامته بأميركا، وذلك نزولاً على بعض تقاليد السامورايالممعنة في القدم، والتي تقضي بأن يستأذن غير الياباني القادم ضيفاً إلى اليابان إمبراطور البلاد في أن يطلق لحيته أو أن يدخل البلاد بلحية مطلقة. ورغم أن هذا تقليد قديم لم يعد معمول به، إلّا أنّ حمزة نزل عند مقتضياته طواعية احتراماً وتقديراً لمضيفيه اليابانيين.

النوبيّ الذي غمرت مصر قريته بمياه السدّ العالي

تصدّرت غلاف أسطوانة موسيقى النوبةالأولى ترجمة إنجليزيّة لكلماتها، والتي قام بها الأديب الراحل جمال محمد أحمد. إذ أوعز حمزة بذلك إلى الشركة المنتجة. وكما ذكر جمال محمد أحمد لاحقاً، فقد لقي هذا المقترح قبولاً لديه، خاصة أن فكرة إصدار كتابه سالي فوحمر مختمرة في ذهن ذلك الأديب والكاتب النوبيّ. جاءت الترجمة بدايةً تعبيراً عن إصرار حمزة على عكس الصورة الحقيقية للفلكلور الغنائي النوبي، وجانباً أساسيّاً من حرصه للتوثيق والحفاظ على التراث النوبي: وهو ما ظل هاجسه الرئيسيّ.

وبقدر ما رأيت في حياتي وعاصرت من أفراد عائلتي وأهلي الأقربين، ثم عشيرتي النوبيّة من الذين شكّل غمر وإغراق بلادهم بمياه السد العالي نصلاً حاداً في جنوبهم، إلا أن حمزة كان أكثرهم معاناة وحزناً نتيجة حساسيته المفرطة وتعلّقه بأرض وتراب قريته توشكا خاصة، والقرى النوبية الأخرى. وفي كل أعماله وجهوده طيلة حياته بذل الجهد تجاه الحفاظ على التراث والإرث النوبي، وتوثيق أشكاله وقيمه الجماليّة، وأعرافه وتقاليده الاجتماعيّة والسلوكيّة. ومن هنا كان إسهامه الملحوظ في دفع جهود صديقه وزميله بجامعة أوستن – تكساس روبرت ألن فيرينيا في إخراج كتابه المدعوم فوتوغرافيّاً والغني معلوماتيّاً باسم النوبيون في مصر“.

ورغم ما صاحب قيام متحف النوبةبأسوان من مصاعب وعراقيل أخرّت بناءه وافتتاحه لما يقارب العقدين من الزمان منذ أن رصدت له منظمة اليونسكو الموارد الماليّة اللازمة، وخصّصت السلطات المصريّة موقعه داخل مدينة أسوان – وهي عراقيل وعوائق ما كان لها أن تنشأ أصلاً وليس هذا مجال حصرها – دعت وزارة الثقافة المصريّة ومنظمة اليونسكو حمزة علاء الدين لأداء بعض أعماله في حفل افتتاح المتحف. عندما التقيته بعدها في القاهرة لمحت في عينيه وميض رضى وسكينة تعكسان سعادة غامرة لم أعهدها فيه من قبل بذلك القدر من الشفافية والوضوح. كان مصدرها هو سعادته بقيام هذا الصرح النوبي الثقافي العملاق الذي جسد على أرض الواقع أعز طموحاته وحقق الكثير من الأهداف التي طالما سعى، وذلك من أجل الوصول إليها طوال رحلة حياته الفنيّة لتسليط الضوء على معالم الحضارة النوبيّة العريقة وتعريف العالم بها، ثم إبراز التراث الاجتماعي النوبي والحفاظ عليه ونقل فن الغناء الموسيقي النوبي من المحليّة الضيّقة وتطويره والارتقاء به إلى فناء العالميّة الأرحب. عندها فقط، أحس بأن جهده ومعاناة اغترابه الممتد أثمرا عن شيء ملموس، وبأنهما لم يذهبا إدراج الرياح.

قبلها، وتحديداً في منتصف السبعينيّات، انتابه احساس مماثل عندما دعاه الفنان السوداني اسماعيل الصلحي عندما كان وكيلاً لوزارة الثقافة والإعلام إلى الخرطوم للإفادة من علمه وخبراته. لينتقل حمزة إلى الخرطوم، مقيماً بها، ويعمل مع الصلحي، ثم يعود إلى أميركا.

عقب وفاته، دار حديث طويل عمّا إذا كان الفنان حمزة علاء الدين مصريّاً أم سودانيّاً. وما كان لمثل هذا الجدل أن يثور أصلاً، إذ أن حمزة كان قد حسمه قبل سنوات عندما سئل عن جنسيته فقال: “أنا نوبي في المقام الأوّل، ولكنّني أيضاً مصريّ سودانيّ بذات القدر والمقام، وإيطالي أميركي ياباني بسبب أنني عشت في كل هذه البلاد. لقد كنت موسيقيّاً نوبيّاً أعزف وأغني لأهلي النوبيين، وإلى الآن ما زلت ذلك الموسيقي النوبي الذي يعزف ذات الأنغام والترانيم الموسيقيّة للعالم أجمع“.

________________________________________________________

(1) http://www.sfgate.com/bayarea/article/Hamza-El-Din-Nubian-musician-who-played-with-2518339.php

(2) http://www.guardian.co.uk/news/2006/may/30/guardianobituaries.egypt

تنشر هذه الشهادة بالتعاون مع صفحة حمزة علاء الدين على الفيسبوك، ومنتدى سودانيز.

المزيـــد علــى معـــازف