.
تعّرفت على الموسيقى عبر الأرغن البسيط في الكنائس البروتستنتية وأحيانا البيانو. في الكنيسة التي كانت ملحقة ببيتنا في السودان أو فلنقل ببيتنا الذي كان بيت قسيس الكنيسة في مدينة ود مدني السودانية؛ ارتبطت الموسيقى في سمعي وذهني وذاكرتي بالتراتيل. كنت أحب بعضها بشكل خاص وأحفظ بعض فقراتها عن ظهر قلب. في المدرسة الابتدائية كان هناك بعض المدرسين الذين يعزفون على الكمان. أحدهم تحديداً كان بارع العزف (أو هكذا كنا نظن نحن البسطاء) يعزف أحيانا في كنيستنا واضعا منديله الأبيض تحت ذقنه ورقبته؛ وطلبت شقيقتي الكبرى التي تكبرني بأربع سنوات من والدي أن يشتري لها كماناً وأن يطلب من هذا الأستاذ تحديدا أن يعلمها المبادئ الأساسية للعزف على الكمان.
حينما التحقت بالقسم الداخلي في كلية الأمريكان بأسيوط في صعيد مصر؛ واصلت إصغائي للموسيقى الدينية – يوميا – ومرتان كل يوم أحد صبحا وعصرا عبر البيانو الكبير الذي يوجد في الكنيسة الإنجيلية في أسيوط. في أسيوط استمعت لأم كلثوم لأول مرة ؛ لكن ليس بشكل رسمي، فالكنائس الإنجيلية لم تشجع الاستماع للمغنيين والمغنيات خاصة إذا ما تغنوا بالحب والشوق والغرام .. وسأظل محاصرا بين رغبتي كمراهق في الاستماع إلى موسيقى تعبّر عن الأشواق الإنسانية لكنها “حرام” وموسيقى “دينية” تعبّر عن توق الإنسان إلى التطهر والتقرب من الخالق وجناته وفراديسه. حتى اكتشفت فيروز فحلت لي المعادلة المعقدة وأقامت لي جسرا بين الدينيوي والديني بصوتها التراتيلي المصاحب ألحان تحمل السمتين الدينية والدنيوية .. أو هكذا أتخيل! من فيروز انتقلت – محافظا على محبتي الخاصة لها – إلى سعاد حسني، متجاهلا الفرق الشاسع بين حرفية فيروز وتلقائية حسني في طقاطيقها الصلاح جاهينية؛ بل أن سعاد حسني – بعد وفاتها بسنوات – رافقتني بصوتها في رحلة كتابة صعبة هي رواية ايثاكا التي اهديتها للمثليين المصريين ضحايا كوين بووت بل وكتبتها خصيصا لهم؛ وكانت أغانيها تصاحبني لأسابيع طوال لساعات متواصلة عبر الكمبيوتر وأنا اكتب الرواية الصعبة .. والحقيقة أن موسيقى ألحان سعاد حسني وتحديدا في هو وهي أفادتني كثيرا في زمن الكتابة في الرواية.
https://www.youtube.com/watch?v=3Rbobv-ZV84
أحب الاستماع يومياً – من الكمبيوتر – إلى موسيقى الجاز. ليس لي عازف أو مغني مفضل؛ لكن الجن في موسيقى الجاز يصلني صافيا؛ ابدأ به يومي الكتابي وانهيه. توقفت من فترة عن الاستماع إلى السمفونيات والكلاسيك فلم تعد ذائقتي تستسيغها بعد أن أدمنتها فترة طويلة. كما كنت قد أدمنت غيتارات أمريكا اللاتينية ثم تخليت عنها للجاز. من الموسيقات العربية والشرقية (إن جازت التسمية والتوصيف) أستمع إلى المتصوفة حتى لو لم أكن أعرف اللغة مثل الفارسية او الهندوسية. لا استمع إلى موسيقات الصين واستسيغ بعض ما يأتيني صدفة في الموسيقى اليابانية أو من وسط أوروبا الأرثوذكسية مثل التي اقتبسها مؤلف موسيقى فيلم آيز وايد شت Eyes Wide Shut في المشهد الرائع الطويل؛ مشهد الأقنعة والنساء العاريات. تستهويني أحيانا المواويل وموسيقى الربابة والأرغول المصاحبان لما فيه من شجن عميق الجذور في الشخصية المصرية وما يبثانه من نستولجيا، لكنها حالات شخصانية مرتبطة أحيانا كثيرة بلوعة التذكر والذكريات لمن يعيش – مثلي – متنقلا بين عوالم متعددة؛ جغرافية ونفسية! أحب أن اكتب وأنا استمع إلى الموسيقى بنصف أذن، خاصة الجاز.