.
في ٢٠١٢ تم صك مصطلح الجيل زِد، التصنيف الأحدث في علم الأجيال والمشير إلى المولودين في السنوات الأخيرة من القرن العشرين / مطلع القرن الواحد والعشرين. علَّم صك المصطلح بدايةً لسلسة دراسات وأطروحات ومقالات تزداد كثافةً مع اليوم، تدور حول معدلات الكآبة والانتحار وتدهور الاستقلالية الاقتصادية بمعدلات مرعبة في أوساط هذا الجيل.
حاكى الپوپ الجيل زِد، وبدأ التراب مؤخرًا مع أمثال ليل ياتي بتقديم محاكاة أعمق وأكثر أصالةً لصيحاته ومشاكله. لا يزال معظم الروك الرائج تجاريًا بعيدًا عمَّا يجري، أما في المشاهد الفرعية والمغمورة فالوضع مختلف تمامًا، وعلى وشك الإنجاب.
ظهور جيل مراهق مضطرب ومأزوم هو خبر سيئ للجميع إلا الروك. ومع انقضاء ٢٠١٧ قد لا يظل من المبكر صك مصطلح الـ زِد روك، هذا الصوت الكولاجي الآخذ بالتماسك بسرعة مؤخرًا، عاطفي ومزاجي للغاية، ميَّال للعبثية على حساب التمردية. استمرت التوليفة التقليدية المعروفة بالـ جيتار / بايس / درامز بالاختفاء لصالح خيارات توزيعية أغنى (وأقرب للپوپ)، وأصبح الاستخدام الموسَّع للسنث والآلات الوترية والنفخية شبه مقياسي. لا داعي لذكر كلمات الأغاني التي تتراوح ما بين: “الأمور ستتحسن، لأنها لا يمكن أن تسوء أكثر من ذلك جونا جِت بِتر / بروكن سوشال سين“، إلى: “صدقوني، صدقوني، الأمور ممكن تتدهور لأسوأ بكثير كثير كثير بعد ليلى ٢٠ / پريستس.”
في الأثناء شهد العام عودة كبيرة ومفاجئة للفولك روك الذي يعيش أحد أفضل أعوامه منذ الستينات، أسماء مثل فليت فوكسز وكيفن موربي وماك ديماركو وتيم دارسي، اختارت أن تكشف دفعةً واحدة عن مناجم إمكانيات غير مطروقة لهذا الصنف. بالتوازي شهد العام موجة جديدة من التقارب بين الراب والپنك، كان على رأسها أسماء كـ سليفورد مُدز وشو مي ذ بُدي وهُو ناين ناين، متعاملين بشكلٍ رئيسي مع بريطانيا ما بعد البركسيت وأمريكا ما بعد ترمپ.
أليكم الألبومات التي شكَّلت الروك ودفعته قُدُمًا في ٢٠١٧، مرتبين تصاعديًا:
هناك شيء مستعجل في ألبوم تِم دارسي الفردي الأوَّل يعطيه شخصيته المنعشة. شيء مستعجل كأن تدخل الامتحان متأخرًا وتصبح إجاباتك الأولى هي إجاباتك النهائية إذ لا وقت للمراجعة. دخل تيم الاستوديو في فترة الاستراحة بين ألبومي فرقته أوت، وأعطانا مزيجًا من السياقات والخدع الإنتاجية يقف فيها حتى ركبه في الكليشيهات ويبقى وسطه جافًا. دوَّن ما يبرع به في منطقة راحته واحتفظ بالتجارب التي شخبطها على الهامش. حاك ثوبًا من الفولك والكانتري روك بنسيج من الأصوات ما بعد الحداثية، وأجاب على كل الأسئلة الذاتية المشككة بـ “لمَ لا؟” وابتسامة. عندما نسمع الألبوم مرةً تلو الأخرى، لا نجد بدورنا سوى هذه الـ “لمَ لا؟” والابتسامة.
بميله الواضح نحو الدريم پوپ، لا يمكن القول إن ألبوم جاپانيز بريكفست الثاني هو ألبوم روك ببساطة وبراحة ضمير، لكنك أحيانًا ترفع الحاجز التصنيفي قليلًا لتمرر من تحته ألبومًا جميلاً كهذا تَكسبه لقائمتك. عند الاستماعات الأولى يوهمنا الألبوم بأنه نوع الموسيقى التي نشغلها في الخلفية وننساها عند الدراسة أو العمل، لكنه سرعان ما يتسلل إلى مخيلة المستمع ويحولها إلى شاشة عرض، يسقط عليها تقلباته المزاجية السلسة والأنيقة. صوت الألبوم مشتَّت وخمول بطريقة محبَّبة، تغلفه ستارة من التشويش والتثاؤب تجعله يبدو كألبوم موسيقي حجرة نوم نموذجي، لكن مع تتالي الأغاني نكتشف توزيعًا غزيرًا، وندرك أن حجرة النوم هذه تخفي أوركسترا كاملة تحت السرير، والأكثر من ذلك حنجرة مصقولة لسرد القصص.
محاولة هذا الثلاثي النيويوركي لمزج تنويعة عنيفة من الأصناف الموسيقية، من الراب والآر آند بي إلى الموسيقى الصناعية والپنك، هي أشبه بوضع قطع حديدية في خلاط فواكه، ثم تشغيله، والحصول على كوكتيل شفرات مكسورة. يستضيف الألبوم ممثلين طليقين في أصنافهم: پرينسِس نوكيا، مال دِڨيزا، دِنزِل كُري، دريم كاتشر … يطلب منهم أن يقدموا موسيقاهم كما هي، ثم يبدأ بالهجوم عليهم بقرعات معدنية مشوهة وصرخات ميتالية مسعورة وجماليات خام فجِّة. يقدم الألبوم أفضل لحظاته عندما يبدأ الموسيقيون الضيوف بالمقاومة بضراوة، مستخدمين أسلحة معروفة وكاشفين عن أسلحة سرية ليتملكوا أغانيهم.
النتيجة مركَّزة وزخمة رغم سعة الألبوم وتعاوناته. هناك أغانٍ بإمكانك أن تشغلها في نادي ليلي حتى تهري الناس رقصًا، وهناك أغانٍ بإمكانها أن تتحول لموسيقى تصويرية لفيلم وثائقي عن مِترو الأنفاق في نيويورك، لكن لا يوجد أغنية واحدة تحس أنك تريد تجاوزها ومتابعة سماع باقي الألبوم.
لا تشترك الأعمال التمردية القوية بتمردها على القوى المسيطرة، بقدر ما تشترك بكونها راديكالية، لا تساوم ولا تقبل حلولًا وسط. صدر الألبوم الثاني للثنائي جيرلپوول بالتزامن مع ازدحام الصحافة والإنترنت بإحصائيات غير مسبوقة في معدلات الكآبة والانطوائية والانتحار، إحصائيات ترسم صورة شبحية شاحبة لحياة المراهقين والشباب الألفينيين. رافضاتٍ لهذه الحياة التي تبدو كتسوية طلاق خاسرة، قررت كليو تاكر وهارموني تريڨيداد العثور على طريقة لتصفير العدَّاد والبحث عن فرص لبدايات جديدة.
عاد الألبوم إلى لحظات خلق الپوپ پنك والجيرل رايوت والروك المستقل في الثمانينات، لكن عودته هذه ليست هروبية من نوعية الحنين إلى عصر ذهبي ما، بقدر ما هي حركة تجريبية، عودة إلى لحظات بدايات معينة ومحاولة تخيل تطور موازي للواقع غير الذي حصل بالفعل. مغامرة ريك آند مورتية من نوعٍ ما انتهت بالعثور على مصنع الطاقة هذا.
يحمل الألبوم بالنتيجة روحًا خام تبدو أنها تختبر التجارب الكبيرة في الحياة للمرة الأولى. عندما تدور أغنية ١٢٣ حول الفقد، تبدأ بهدوء ثقيل يشبه ذلك الذي يصيب الناس قبل إدراك حجم الفاجعة، ثم تنهار بأسطر جيتار إيقاعية طويلة مقتبسة من الثمانينات. عند المرور على المشاكل العاطفية في إت جِتس مور بلو، نسمع كلمات حذقة بنت وقتها، وكأنها قطعة كولاجية مجمعة من ليلة قلقة على تويتر: “العدمي يخبرك / بأن لا شيء صحيح / أرد: (أنا زيفت الاحتباس الحراري / فقط لأتقرب منك).” عندما يتحسن مزاج الألبوم ويغدو لعوبًا في كيس آند برن، نسمع غناء الثنائي الهارموني خجولًا وناعمًا، وكأنهنَّ يعضضْنَ على شفاههن السفلى بين الكلمات.
ثنائيَّة الآن والـ هنا ثقيلة على موربي، إما الآن أو هنا. عمل كيفن بالتوازي على ألبوميه الأخيرين، المنشار المغني – الذي صدر العام الماضي وهرب من المدن إلى ريف واسع ودافع للتأمل، وسيتي ميوزك – الذي صدر العام الجاري وهرب من حاضر المدن إلى مواضيها، إلى ذكريات وقصص تبدو بعيدة وشاحبة بسبب الاستخدام المستمر والمفرط لتأثيرات الصدى وللأصوات المرتجفة الشبحية في الخلفية. في كم تو مي ناو يرسل موربي دعوات تائهة لصديق/ة يريده/ا أن ي/تشاطره عزلته في وكره الماضوي، في ١٢٣٤ يرقص وحيدًا في ذكرى الخمسينات، أما في أبورد ماي ترين يحن إلى صديق طفولة اكتشف مؤخرًا أنه قضى سنوات في السجن قبل أن يموت. تذكرنا سيتي ميوزك، أطول أغاني الألبوم والتي تحمل اسمه، بالمنشار المغني، أطول أغاني الألبوم الماضي والتي تحمل اسمه أيضًا. يختلف نسيج الأغنيتين لكن البنية نفسها تقريبًا: شخص لا يمانع الرقص وحيدًا، يدور حول نفسه، يهدأ ويحتد، يقفز ويتمايل. لا تتطور الرقصة عبر تقديم حركات جديدة، بل عبر تكرار الحركات نفسها مرةً تلو الأخرى، كل مرة بمزاج وانطلاق مختلف.
لا نعرف مم يهرب موربي، لكنه هو يعرف كيف يرسل في أغانيه دعوات مغرية إلى عزلته.
هناك متعة خاصة بأن تشاهد شخصًا متعجرفًا يقطع وعودًا استعراضية تكفي لإحراجه مرات عديدة، ثم يفاجئ الجميع بتحقيقها دفعة واحدة. ألبوم پريستس الأوَّل كان فيه من هذه المتعة.
نزَّلت الفرقة ألبومها الأوَّل على باندكامپ وسپوتيفاي، مثلها مثل مائة فرقة وفرقة نزَّلت ألبومات مشابهة في نفس الشهر، استخدمت نفس الهاشتاغات #روك #پنك #احتجاجي #كس_إم_ترامپ، وعلى الأغلب نفس الثلاث فقرات الترويجية التي لا يقرأها أحد. لكن پريستس لم تستخدم أي خدع إنتاجية أو توزيعية أو تأليفية. وضعت كل البيض في سلة واحدة، وجعلت رهانها على براعتها في كتابة وتأليف الأغاني لدرجة تفصلها عن كل هذا الازدحام الموسيقي. هذه عجرفة، وفي هذه الحالة هي عجرفة في محلها بشكلٍ لذيذ.
يلقي الألبوم بكافة ما بجعبته منذ الأغنية الأولى أپروپرييت، بل إن العديد من ذلك، كوصلة الجاز الحر، لا تعود للظهور مجددًا. إذ يقتصر الألبوم بعدها على صوت كايتي جرير الجامح بأسلوب غرب-أمريكي نسبةً للموسيقى الغربية التي صاحبت ثقافة رعاة البقر في غرب الولايات المتحدة مطلع القرن العشرين وتوليفة الـ جيتار / بايس / طبول الإيقاعية التي استنزفت لأكثر من نصف قرن. عندما تريد الفرقة تحريك الجو تلجأ لكليشيهات مستهلكة أكثر بعد، كالغناء الإيقاعي القريب من الراب في نو بيج بانج، والصوت الجعور بشكلٍ مبالغ في جاي جاي. لكن الأغاني التسع والمقطوعة التمهيدية الواحدة التي يقدمها الألبوم بالنتيجة هي بغنىً عن أي شيء أكثر من ذلك. كل سطر في محله، كل صيحة محسوبة، وكل آلة تحفر خندقًا تملؤه الآلة التالية بشكلٍ يبعث على الرضى. كل ذلك مغلف بروح متهكمة محتدة تدور حول ثمات تمردية تتعامل مع ما هو السياسي على أنه شخصي.
كون السكون خاويًا لا يعني بالضرورة أن كل السكونات متشابهة. لا يشبه صمت المدينة صمت الغابة أو صمت وادي سايبيري مثلج، ولا يشبه صمت مصلٍ متأمل صمت شخصٍ ضجران أو صمت شخص أخرسه الألم. بهذا المعنى يقدم لنا ألبوم بيج ثيف الثاني صرحًا للقوة الجبارة. يستخدم الألبوم أصواته التقليلية كمرآة تساعد المستمع على تحسس الصمت المقابل لها، فيصبح الألبوم كأحجية يوجد ربعه في التسجيل وثلاث أرباعه في رأس المستمع.
كتبت الفرقة أحرف الألبوم بغناء أدريان لينكِر الطقوسي الميثيولوجي، وبالجيتارات التي تلعب دور موسيقى تصويرية تلتزم بالنص وبالمشهد ولا يعيبها ذلك، ثم أتى المزج ووضع النقاط على الحروف، سامحًا لهذا المزيج الاقتصادي المقنن من الأصوات بتقديمنا إلى عوالم غنية بالتفاصيل كرواية روسية، غنية بالشخصية والمزاج كقبل أولى.
في مرحلة ما، عندما كان يعتلي المنصة عاريًا، يغني لـ يو تو، ويقحم عصا الطبول في مؤخرته أمام الجمهور، كان من الصعب أخذ ماك ديماركو على محمل الجد. تم تصنيف أعماله المبكِّرة على أنها روك المتسكعين (العواطلجية) Slackers' Rock. علَّق أحد مستمعيه على يوتيوب: “ماك ديماركو لازم أكيد يفوز بجائزة: أفضل موسيقى رواق بتشغلها بالخلفية وإنت بتحل الوظايف تكاليف/وجبات دراسية وهالقصص”، واتفق معه المئات. أن يدخل ماك الاستوديو بعد ثمانية أعوام من إصدار موسيقى مماثلة ليسجِّل أكثر ألبوماته تبسيطًا واسترخاءً حتى الآن، فهي خطوة يستحسن أن يكون لها ما يدعمها.
لا تتجاوز معظم أغاني الألبوم الثلاث دقائق بكثير، وتكتفي بأسطر إيقاعية بسيطة على جيتارات هوائية، إيقاعات بدائية ثابتة، وظهورات للسِّنث كالشُّهب، عندما ننتبه إليها تكون قد اختفت بالفعل. يحاكي مزاج الأغاني شخصًا يقضي ذروة يومه منقوعًا في شمس شرفة منزله ومستغرقًا في أحلام اليقظة. الأحداث الحياتية الكبيرة التي عادةً ما تتسبب بصدمات صاخبة، تُجابه هنا بميل هادئ للتأمل والتحليل النفسي الذاتي. لكن النتيجة أبعد ما يكون عن موسيقى تسمع في الخلفية. تجرُّد الألبوم من البهرجات – توزيعيًا ودراميًا – أكسبه مباشرة وصراحة آسرة؛ أمَّا حس الدعابة الملتوي والمستخدم بتقنين، فقد أنقذه من ابتذال أن يغدو عملًا واقعيًا لدرجة غير واقعية.
في المناسبات النادرة التي يتخلى فيها الألبوم عن بساطته التوزيعية، يتخلى عنها لسبب. في أغنية مونلايت أون ذ ريڨر الطويلة بشكلٍ استثنائي سبع دقائق، نحصل على جو مسائي متأخر حيث تختلط أحلام اليقظة مع الأحلام الحقيقية في فضاء معدوم الجاذبية، تطفو فيه أصوات الجيتار والسِّنث وغناء ماركو المسترسل. أما في أون ذ ليڨِل، فيشكِّل التقاء الفولك روك مع السِّنث روك إحدى لحظاتنا المفضلة من روك هذا العام. يستخدم ديماركو السِّنث هنا كآلته الرئيسية ليخلق نسخة حديثة من جوني كاش، مزيج ريفي من تداعي الأفكار / المشاعر والأسطر الإيقاعية السهلة الممتنعة.
أصبحت ذ وور أون درجز من أهم فرق الروك حاليًا، منذ صدور ألبومها الثاني لُست إن ذ دريم عام ٢٠١٤، والذي تم استقباله عند صدوره كألبوم كبير تحتاج أن تأخذ إجازة وتلغي مشاريعك للاستماع إليه. ثم صدر أ ديپر أندرستاندنج العام الجاري وألقى بظلٍ كثيف على سابقه. الألبوم مثل متحف فني عملاق، متخم بالجمال، تستطيع استكشافه بتركيز وكأنك تتبع خريطة، وتستطيع أن ترخي عقلك وتضيع فيه، وسيلتهمك على الحالتين.
هناك العديد من المَلَكات التي لزم عضو الفرقة الرئيسي أدم جرانسويل أن يتقنها حتى يأتي بعملٍ مماثل. من ناحية، يذكرنا آدم بمعلومة قد لا تكون دقيقة بأن الرسامين الموهوبين بالفطرة يستطيعون تمييز درجات ألوان دقيقة لا يميزها الإنسان العادي. آدم يمتلك هذه الرهافة قطعًا، لا يكفي أن يجد سطر الجيتار هذا أو حلقة السِّنث تلك، بل عليه أن يخلق الدخلة الملائمة، أن تكون دخلة طبيعية كعودة رب أسرة إلى بيته، ومبهرة كرجل شرطة يركل بابًا ويقتحم. أن يختار المايكروفون أو الآلة الأنسب لتسجيله، ثم التأثيرات والفلاتر التي تظهر بحَّته أو أنينه بأفضل شكل. لذلك تطلب العمل إقامة يومية لقرابة نصف عام في الاستوديو، وتعاون مع من قد يكون المهندس الصوتي الوحيد القادر على نقل كمالية مماثلة من الأفكار إلى التسجيل، شون إڨِرِت.
لكن ملكة مماثلة قد تكون سيفًا ذو حدين. إذ أن إقامة في الاستوديو بهذا الطول قد تنتهي بسهولة بألبوم ينكسر ظهر الموسيقى فيه تحت وطأة التفاصيل والإنتاج المفرط. كان على آدم بالنتيجة أن يمتلك مخزون أفكار تستطيع دعم طموحه الإنتاجي، وهو أمر لم يواجه أي مشاكل فيه إذ دخل الاستوديو بمشاريع ٢٤ أغنية اكتفى بتسجيل عشرٍ منها. ثم كان عليه أن يعيد تعديل الألبوم بشكل مستمر ومتلف للأعصاب ليحافظ على التوازن الدقيق بين تعقيد الأفكار وتقديمها. النتيجة كانت أغانٍ ملحمية مثل ثينكينج أُف أ پلايس. رغم تجاوز طولها الـ ١١ دقيقة، بُعدها الشاسع عن الروك التجاري المألوف، واكتنازها بأفكار موسيقية وطبقات تفاصيل تحتاج إلى دليل مستخدم، حققت الأغنية قرابة العشرة ملايين سماع على الإنترنت، وأرشدت الألبوم إلى قوائم أكثر الأعمال مبيعًا في ٢٢ بلد مختلف.
من زمان كان المستقبل جزرة معلقة على صنارة، زمن افتراضي يستمر بالابتعاد كلما اقتربنا منه، ثم ظهر الخيال العلمي والأدب الديستوبي، وصارت لدينا تصورات متشائمة شديدة التحديد لـ “المستقبل” باعتباره زمن محدد نقترب منه دون أن يهرب منَّا. خلال الأعوام الأخيرة بدأنا الوصول إلى هذا المستقبل، فحمل وثائقي متشائم صدر عام ٢٠١١ اسم المستقبل هو الآن! لو نظرنا إلى تقلّد دونالد ترمب منصب الرئاسة في أمريكا على أنه لحظة اصطدام غمامتي الحاضر الحقيقي والمستقبل الديستوبي، لحظة بدئنا العيش في هذا المستقبل، فإن ألبوم پروتومارتر الجديد هو قطعًا الرعد المدوي، المرعب والرائع، الذي فجَّرته هذه اللحظة في التاريخ.
منذ بداية مشوارها بألبوم كله تكنيك، فيش موهبة، عثرت الفرقة على عدة مصادر طاقة بديلة لإعادة الشباب إلى الپَنك. بشكلٍ ساخر، كانت إحدى مصادر الشباب لدى الفرقة هي الاستثمار الملتهب لأزمة منتصف العمر، والآتية من مغني وكاتب أغاني الفرقة جو كايسي، الذي تعدَّى الأربعين مؤخرًا ويكبر أصغر أعضاء الفرقة بعده بعشر سنين. من ناحية أخرى هناك نشأة الفرقة في ديترويت، المدينة التي تعيش في البارات وتقابل كل ساعة عمل بساعة شرب. كي تكون مسموعًا في هذا المحيط الثمل الصاخب وغير المبالي، عليك أن تتعود رفع صوتك باستمرار. لكن ذلك وحده لا يكفي دائمًا، ويستمر الناس بتجاهلك، فيصبح صوتك ناقمًا ومحتدًا على الدوام. عندما بلغ السكر والتجاهل درجات مخيفة وجديدة في أمريكا ٢٠١٧، كان على صوت الفرقة أن يأتي أكثر حدةً ونقمة من أي وقتٍ مضى.
على سوداويته، لا يأتينا الألبوم مستسلمًا ولا مهادنًا. هناك شاعرية وتأمل ملائمين في الكلمات، زخم واندفاع ونوع ملتوي من الحماس في أسطر الجيتار والطبول، إنتاج مصقول داكن ينم عن غضب لا كآبة، وغناء ينم عن تروي لا تردد. بهذا المزيج لا يضيع الألبوم وقتًا، يبدًا مناوشاته منذ اللحظات الأولى. عندما يهجم ينهش أذني المستمع، وعندما يهرب يختبئ تحت سريرٍ من المجازات الكثيفة والتأرجحات المتوجسة للكمان. يختبئ تحت السرير كمهرج يسحبنا إلى الأسفل، حيث كل المفاهيم نسبية وكل فهم للواقع هو فهم خاص.
لم يخلُ العام من ألبومات روك قوية، لكن كراك اپ هو الوحيد الذي يستحق أن يصنَّف كعمل كلاسيكي معاصر. ألبوم واحد كافي لإجلاس فليت فوكسز على طاولة الفولك روك إلى جانب بوب ديلان. ألبوم يعرف تمامًا ماذا يريد ويمتلك ما يكفي من الشجاعة لفعله. لا يكترث لخطورة أن يبدو متحذلقًا مفرطًا بالحذلقة، لا يخاف من ألا تفهم كلماته مفرطة الاقتباس، ولا يخشى أن يهب عليه أصوليو الفولك حين قلب التوزيعة البسيطة إلى أوركسترا وترية معقدة ومتعددة الطبقات لدرجة تجعل سميعة بيورك يقولون “أوف!” عند سماعها.
جاء الألبوم بعد انقطاع الفرقة لست سنوات وتغير بعض أعضائها، كمغادرة عازف الطبول جوش تيلمات وإطلاقه مسيرته الفردية تحت اسم فاذر جون ميستي. خلال هذه السنوات، أعدَّ روبين پِكنولد عضو الفرقة الرئيسي، المغني وكاتب الأغاني للألبوم ما استطاع من بحث ومراجع أدبية، من رموز ميثيولوجية لأديان مندثرة، إلى اقتباسات موسعة إلى حدٍ ما من ثلاثية الأطروحات الشخصية والمتأملة ذاتيًا ذ كراك اپ، والتي نشرها إف سكوت فيتزجيرالد عام ١٩٣٦ بعد إيداع زوجته المصحة النفسية إثر تشخصيها بالفصام، وتحت وطأة إدمانه الحاد للكحول الذي أدَّى إلى وفاته بعد أربعة أعوام. لو أردتم أخذ فكرة عن مزاج الثلاثية يكفي قراءة السطر الأوَّل من الأطروحة الأولى: “بالتأكيد، ما الحياة إلَّا عملية طويلة من الاحتضار …”
بالتوازي مع البحث الأدبي، مكَّن روبين نفسه موسيقيًا أكاديميًا للتعامل مع التوزيع المتفاقم للألبوم، والذي فاق حجمه الأوركسترا. إذ علاوةً على قسم الوتريات وتشكيلة الآلات النفخية ومجموعة الجيتارات الهوائية والكهربائية والمعدلة وذات الست أوتار والاثني عشر وترًا، صال الألبوم وجال بين آلات الطبول والسِّنثات والآلات المبرمجة، وألقى فوق كل ذلك بـ هارپسيكورد كهربائي ظهر في أكثر من نصف الأغاني.
صارت وصارت، قرر پِكنولد أن تحمل معظم أغاني الألبوم عدة أسماء تفصل بينها خطوط مائلة، دلالةً على الأغاني الفرعية الموجودة داخل الأغنية الواحدة. ثم لم يحرم نفسه من التجريب الجريء على صعيد البنية، كاختراعه مفاصل موسيقية للانتقال بين الأغاني الفرعية المحشورة داخل الأغنية الواحدة، واستخدم تعامل سيمفوني مع بعض الأفكار الموسيقية التي تتكرر عبر توزيعات وطبقات صوت وسرعات إيقاع مختلفة.
واقفًا أمام ما قد يشكِّل أفضل أو أتعس ألبوم للعام، بدأ پِكنولد بطهي الأغاني على نار هادئة، وتولى الإنتاج بنفسه متنقلًا بين ست استوديوهات مختلفة على مدى سبعة أشهر ما بين صيف ٢٠١٦ وشتاء ٢٠١٧، كانت كافية لأن تستوعب الأغاني كل هذه التفاصيل الأدبية والموسيقية، وتنضج لتمتلك شخصيتها الخاصة. عندما تقارب أغاني كراك اپ مواضيعها المحورية تتعامل مع هذه المواضيع كمراكز تأخذ بالدوران حولها بكثافة دون إصابتها مباشرةً. يخبرك الألبوم كيف يشعر الآن لكن ليس ما جرى للتو، يصف لك شخصًا معينًا لكن يخفي شعوره إزاء هذا الشخص، ويخلف وراءه هامشًا للتأويل يضيق ويتسع تحت مد وجزر الأغاني الفرعية.
ألبومات تستحق الذكر:
سمعنا عن شون أوَّل مرة من عمله كمنتج على ألبوم طغيان لـ جوليان كازابلانكاس آند ذ فويدز، وتابعناه من وقتها. ترشَّح شون العام الجاري لجائزتي جرامي مستحَقتين، الأولى عن أفضل ألبوم روك التي ترشح لها مع فرقة ذ وور أون درجز لعمله الجبَّار في المزج وهندسة الصوت على ألبومهم الجديد، والثانية عن أفضل هندسة صوتية لألبوم غير كلاسيكي، لعمله على أحد ألبوماتنا المفضلة للعام، نو شايپ لـ پيرفيوم جينيس. إلى جانب الترشيحين، عمل شون العام الماضي على مزج ألبومي بروكن سوشال سين وذ كِلرز، وجريزلي بير وكيشا وبِنجامِن بوكر، وهما ألبومين تسمعهما وتسأل نفسك: “أوكي، مين أنتج هالألبوم؟”