.
بعد ما يقرب من أربعة قرون من تأليفها، لا تزال النقاشات قائمة حول ما إذا كان باخ ألف سويتات التشيلّو للعزف المنفرد بالفعل، أو حتى إن كان ألفها للتشيلّو من الأساس، لكن الجميع يتفق بأن السويتات تحفة كلاسيكية تحمل بصمة الباروك بامتياز، بهياكل موسيقية معقدة وتناغمات سحرية سلطت الضوء على التشيلّو كآلة قائمة بمفردها، قادرة على التنوع، والتعمق إلى نقاط بعيدة على المستوى اللحني والعاطفي. أظهر باخ فيها كيف يمكن لأربعة أوتار الاسترسال من نقطة إلى نقطة بتناغم مرن، يتطلب مهارة في التأليف والأداء، وفي نفس الوقت يفتح المساحات أمام العازف للارتجال. جذبت السويتات محبي الموسيقى وعازفي التشيلّو على حد سواء، وأصبحت تُعزف وتُدرس على نطاق واسع حول العالم، لكن الأمر لم يكن كذلك حتى بداية ثلاثينيات القرن الماضي.
السويت من أكثر الصيغ الموسيقية شيوعًا في أوروبا، تخدم الموسيقى الآلاتية (إنسترومنتال) بشكل حصري، منها نضجت عدة صيغ مثل السوناتا والكونشرتو والسيمفونية. عادة ما يتكون السويت من افتتاحية مقدمة موسيقية حُرة وخصبة في تعبيريتها وتميل إلى أخذ طابع ارتجالي، تبدأ قبل العزف الحقيقي بحيث يدس المؤلف فيها فكرة أولية عن المفتاح الذي ستعزف فيه، وعن الشخصية الأساسية للسويت. في الغالب يستقبلها المستمع كأنها قطعة مستقلة عن بقية العمل. تتبعها خمس حركات على شكل رقصات تُعزف كل حركة منهم على نفس المفتاح ونفس السلم اللذان يتبعان الافتتاحية.
أضاف باخ حركة لكل سويت، في السويت الأول والثاني أضاف مينوِت رقصة إيطالية تتميز بخطواتها القصيرة، يغلب عليها الحركية، لكنها بطيئة في الإيقاع، وعادة ما تعكس حزنًا.، للثالث والرابع أضاف بوريه رقصة فرنسية خفيفة ويغلب عليها سرعة الإيقاع.، للخامس والسادس جافوت رقصة فرنسية مرحة، عادة ما تكون سريعة ورشيقة الحركة..
في سويت باخ للتشيلو المنفرد يتبع الافتتاحية خمس حركات راقصة، ٤ سويتات تعزف بمفتاح كبير وسويتين تعزفان بمفتاح خفيض، وتتزايد السويتات في التعقيد الموسيقي والكثافة العاطفية من الأولى للسادسة.
يبلغ هوس باخ بالهارمونية في سويتات التشيلو مداه، إذ بدا من الصعب تأليف صيغة هارمونية لآلة واحدة مثل التشيلو، فكيف حقق الهارمونية بتشيلو واحد؟ هارمونية ضمنية، مُلمح إليها، أشار باخ إليها من بعيد، يزرعها عبر صوت واحد يتخلله وقفات وانعطافات خلال العزف توحي للأذن بسماع أكثر من صوت في نفس الوقت.
تتسم السويتات بالمزاجية وتتباين في مضمونها العاطفي بشكل حاد، من مناطق باردة، جنائزية ومظلمة، إلى مناطق بالغة السعادة والنشوة. يرجح المؤرخون أن باخ قام بتأليف السويتات على فترات متباعدة وتم جمعها سويًا لاحقًا، إحداهما كانت أثناء فترة سجنه الوجيزة على سبيل المثال، وأخرى كانت بعد عودته من رحلة استمرت شهرين ليكتشف أن زوجته الأولى، ماريا باربرا باخ، قد توفيت ودُفنت أثناء غيابه. بشكل عام تحضر التعبيرية والمشاعر بغزارة على مدار السويتات، لمرحلة تمكِّن من تأويل الانفعالات حسب السياق التاريخي المؤرشف والقليل لحياة باخ، ولهذا يخمن المؤرخين ارتباط كتابة السويتات بتلك الأحداث نظرًا لتقارب الفترات بين التأليف والوقائع.
أصبحت افتتاحية السويت الأولى من أشهر الأعمال الموسيقية في التاريخ، لدرجة إن بحثت باللغة الإنجليزية على جوجل عن ”أغنية التشيلو الشهيرة“ ستظهر أول نتيجة بحث، كما ظهرت في الموسيقى التصويرية لعشرات الأعمال السينمائية والتليفزيونية، أشهرهم ذا بيانست وهاوس. ترتكز الافتتاحية في جوهرها على تدفق الإيقاع والتجانس بين الأصوات الصاعدة والهابطة إلى درجة فوضوية على مدار المقطوعة، مع ذلك متناسقة في وقعها، في بناء درامي يصل إلى نقطة ذروته لينفجر بشكل متوقع مخلفًا انفعالاته، ثم تنتهي الافتتاحية بنفس الدرامية عند نقطة سكون لا تبعد كثيرًا عن نقطة الذروة.
بعد ذلك تأتي الألماند رقصة ألمانية عادة ما تتسم بالهدوء والنظام. لتحاول السيطرة على فوضوية الافتتاحية، منظمة وواضحة وغير مفاجئة. تتحرك هذه الألماند وبقية أقرانها في السويتات الست في هدوء ورقي. تأتي الحركة الثالثة مفعمة بالأمل الذي يُعطي باخ مساحة للتفكير فيه خلال الحركة التالية، السرابند رقصة إسبانية تمثل مركز ثقل في السويت، شاعرية بدرجة كبيرة وتعطي مساحة للتأمل بين الحركات السابقة وتمهد للحركات التالية.، بطيئة جدًا وتأملية، كأغلب سرابندات السويتات، تكمن في منتصف السويت للتوازن العاطفي والموسيقي، قبل الانتقال إلى الحركة التالية، المينوِت، والتي تبدأ العودة تدريجيًا للصورة التي كوّناها حتى الآن عن شخصية السويت، ملقية بظلالها على الخاتمة المرحة.
تبدأ السويت الثانية بعنف معلنة عن نفسها، بافتتاحية مثقلة بالتراجيديا، بنغمات متصاعدة عاطفية إلى حد كبير يمهد باخ طريقه عبر حركات متموجة حتى يصل إلى لحظة صمت موجزة يليها ألماند وقورة ثم كُورانت رقصة فرنسية أرستقراطية اشتهرت في بلاط لويس السادس عشر، وعادة ما تعكس الأمل والابتهاج. سريعة كالبرق، مع ذلك تكمن في صميمها لمحة من الحزن الذي بدأ به. يتجلى ذلك بوضوح عند الانتقال للحركة التالية، السرابند، والتي تؤدي وظيفتها على أكمل وجه خلال السويتات الست في أن تعطي وقتًا لتدبر ما يحدث، وفي رسم خط عاطفي فاصل بين الحركات التي تسبقها وما تليها، لتتضح الطبيعة الشاعرية لكل حركة. في هذه السويت تأتي السرابند بأناقتها وصبرها، لكن كئيبة حتى نهايتها، الأمر الذي تحاول المينوِت بعدها تخفيفه بوطأة أكثر مرحًا مع الاحتفاظ بحزنها، ويعود باخ لحركاته المتموجة في الجزء الأخير من السويت بموجة تسعى للفرح وأخرى تصر على الأسى، يلتفان حول بعضهما في مشهد بديع حتى ينتهيا سويًا على خط واحد.
في السويت الثالثة تشرق الشمس بافتتاحية متفائلة ذات مزاج ظريف، ومنها إلى ألماند خفيفة يمارس فيها باخ لعبة تغيير الإيقاع بدهاء يجذب انتباه الأذن على الفور، نلمس حتى هذه النقطة ثقة قد يكون مبالغ فيها في شخصية السويت، ومن الطابع المشمس في الافتتاحية تثب الحركة الثالثة بنغمات تنازلية سريعة، وهنا يمكن الجزم بأن السويت تبث مقدارًا من الثقة. تهدئة لوقع الأمور، وكما اعتدنا، تأتي السرابند كخط عريض في منتصف السويت، بطيئة الحركة ولديها من الحكمة ما يتطلب براعة في العزف، إذ يتعمد باخ إضفاء عدة وقفات للعازف ليحسن التصرف فيها حسبما يرى ملائمًا للسياق الموسيقي.
تتناقض الحركة التالية مع السرابند بشكل يسهل تمييزه، مع ذلك لا تزال تعاني من ثقل الحركة السابقة، اعتدنا على البوريه في السويت الأولى والثانية رشيقة وبها ما يكفي من المرح. في حركة البوريه لهذه السويت، تتحرر الموسيقى من وطأة السرابند بعد فترة، وتحديدًا خلال النصف الثاني من الجزء الثاني من الحركة، عبر نغمة شرقية قليلًا، بعد رحلة وعرة من التناقضات العاطفية يختتم باخ بالحركة الأخيرة سريعة ومفعمة بالطاقة يتناوب فيها العازف بين قفزات كبيرة كأنه في سباق سرعة.
السويت الرابعة فلسفية وتأملية إلى حد كبير، يصرّح فيها التشيلو عن قدراته وإمكانياته، بحسب نقاد الموسيقى لم تكتب مقطوعة بهذا التعقيد لآلة منفردة من قبل. تتبع السويت طريقًا بسيطًا من الناحية اللحنية والهارمونية ثم يتزايد هذا الطريق وعورة على نفس المستويين، ما يتطلب من العازف براعة متزايدة منذ الافتتاحية وحتى الجيغ رقصة أيرلندية بريطانية اشتهرت في عصر الباروك، يعود معناها لكلمة Gigue التي تعني وثَب فرحًا، لما تتسم به من حيوية في الإيقاع.. نغمات ساطعة تندفع بقوة من التشيلو على مدار الحركات، وفي سرابند هذه السويت نلمس خدعة باخ الهارمونية التي سبق ذكرها حول التلاعب الصوتي على الأوتار والوقفات ليبدو وكأن عدة أصوات تشترك في حدث ليس به غير صوت واحد.
السويت الخامسة هي الأكثر ظلمة، تحوم الوحدة في جميع أرجائها، تبدأ افتتاحيتها كصوت قادم من القاع، يستغيث، ثقيل للغاية يحاول الصعود، وكلما صعد بدى الصوت أكثر حسرة. الفخ الذي لن يستطيع النجاة منه في الحركة التالية، حتى الكورانت الخفيفة، تبدو كلحن حزين يتظاهر بأن الأمور على ما يرام. الافتتاحية والألماند والكورانت هم الجزء الظاهر من الجبل الجليدي، السرابند هي الجزء السفلي المختبئ أسفل المياه، تختلف في نسيجها الصوتي عن بقية أجزاء السويت، وحتى أصوات السويتات الأخرى. نسيج أثيري خشن، يسير في اتجاه لحني واحد، يغوص فيه باخ إلى أعماق بعيدة ويرتفع منها مرة أخرى ببساطة مخادعة تخلف أثرًا قاسيًا وكئيبًا، أشبه بصدمة عاطفية. يبقى ذلك الأثر في أذن المستمع وشخصية الحركة التالية، رغم محاولاتها المتقطعة للابتهاج، إلى أن تنتهي وتبدأ الحركة الأخيرة في مرواغة الثقل العاطفي بنوع من الشجن الذي يخفف حدة المشاعر، منهية تلك الرحلة الشاقة في الاستماع والتفاعل.
بعد المزاج الكئيب للسويت الخامسة، تطمح السادسة والأخيرة، أيضًا أطولهم، إلى ألوان أكثر إشراقًا، مع الاحتفاظ بفخامتها. عادة ما يقترن مفتاح دي (دو الكبير) بالانتصار والاحتفاء خلال فترة الباروك، ما نلمسه في الحماس الظاهر في افتتاحية السويت، وبينما تعد الافتتاحية بالحماس والفرح، تليها الألماند هادئة وانطوائية، ثم تنتقل الحركة التالية إلى مزاج متناقض بشخصية اجتماعية ونغمات متسارعة دوارة، إلى أن تصل إلى قلب السويت، السرابند، لتعود إلى الإيقاع البطيء في عزفه وفي تصاعده، إلى أن يسلم الراية إلى الحركة قبل الأخيرة، التي تؤكد على المزاج الطيب للسويت، ثم يختتم السويت الأخير بحركة ذات طابع لحني متراقص بنغمتين يتصاعدان ويهبطان سويًا على مدار الحركة حتى النقطة التي ينهيا عندها رقصتهما والسويتات الست للتشيلو المنفر ليوهان سيباستيان باخ.
بابلو كاسالز: رحلة تأملية
إن كان جلين جولد قد أنقذ تنويعات جولدبيرج لباخ، فإن بابلو كاسالز من أنقذ سويتات التشيلو. يدين المجتمع الموسيقي الكلاسيكي لكليهما بفتح آفاق نحو تأويلات ومداخل أكثر عمقًا لموسيقى باخ. ساد الاعتقاد قبل عزف كاسالز للست سويتات بأن التشيلو آلة باردة غير قادرة على تأدية دورها على أكمل وجه في العزف المنفرد، وأن السويتات الست الغرض منهم هو تدريب صغار عازفي التشيلو، ثم جاء كاسالز، وتحولت السويتات إلى قمة يتوجب على كل عازف تشيلو محترف بلوغها.
أتى كاسالز من خلفية موسيقية قوية، كان والده عازف أورغن أبرشية في إحدى قرى شمال شرق إسبانيا، وتعلم كاسالز البيانو منذ الرابعة، وفي الخامسة انضم إلى جوقة الأبرشية، وخلال السنوات التالية تعلم الكمان والأورغن. بدأت علاقة كاسالز المبكرة بباخ تنسج خيوطها منذ العاشرة حينما بدأ هوسه بعزف موسيقاه، وحتى وجد الصغير آلته المفضلة في الحادية عشر، عندما جاء السيرك إلى قريتهم ولمح بهلوانًا يعزف آلة أشبه بالمفهوم الحديث للتشيلو، وألح على والده، النجار في الأساس، بأن يصنع له آلة مماثلة.
في وقت لاحق دعمته والدته على دراسة التشيلو في مدرسة موسيقية، بينما اعترض أبوه، في سيناريو تقليدي، لأنه يريد لابنه أن يبرع في النجارة، لكن لحسن الحظ فازت والدته في هذه الجولة. ذات يوم في أواخر القرن التاسع عشر، وبينما يتجول كاسالز ذو الـ ١٣ عامًا بصحبة والده في إحدى مكتبات برشلونة، وجد مخططًا بعنوان ٦ سويتات للعزف المنفرد للتشيلو ، بعد قرنين تقريبًا من نشرهم، ليتغير مصير تلك السويتات إلى الأبد.
عكف كاسالز على دراسة السويتات بعمق وتأن لمدة ١٢ عام حتى بدأ عزفهم أمام الجمهور، ويحكي في كتاب محادثة مع كاسالز أنه واظب على عزف سويت واحدة منهم على الأقل كل يوم، الأمر الذي استمر حتى نهاية حياته بحسب المؤرخين. وسط مجتمع موسيقي يعتقد بأن موسيقى باخ للوتريات المنفردة جافة، تفتقر إلى الدفء والقيمة الفنية، بالإضافة لكونها ”أكاديمية“ بشكل مبالغ فيه، وجد كاسالز في السويتات نطاقًا شاسعًا من المشاعر واستعراض مهارات العزف والتأويل. في ذلك اليوم الذي عزف فيه كاسالز السويتات أمام الجمهور كما رآها خلال ١٢ عام، كانت تلك المرة الأولى التي تعزف فيه السويتات بأكملها، قبل ذلك عزف بعض العازفين حركة أو حركتين من سويت، على الأغلب ألماند أو سربند، لكن لم يتمكن أحد قبل كاسالز من فهم السويتات على الأغلب بسبب الاعتقاد الشائع تجاه التشيلو ومؤلفات باخ للوتريات المنفردة، حتى بعد تأويل كاسالز، هاجمته المدارس التقليدية التي تعاملت مع موسيقى باخ بحزم.
رغم إنجازات كاسالز الفنية، وحركاته السياسية خلال الحرب الأهلية الأسبانية ومقاطعته لحكومة فرانكو لدرجة مغادرة إسبانيا ورفض العزف في الدول التي تعترف بتلك الحكومة، إلا أنه اعتبر الفترة التي درس فيها السويتات ”من أنقى وأكثر المشاعر كثافة في حياته.“ على امتداد الخط السياسي للسويتات، يذكر إيريك سيبلن في كتابه لتتبع رحلة السويتات وتأريخها، سويتات التشيلو: يوهان سيباستيان باخ، بابلو كاسالز، والبحث عن تحفة من عصر الباروك، بأن باخ كان مسجونًا لفترة قصيرة، بسبب رغبته في الاستقالة من العزف في بلاط الدوق، خلال توقيت مقارب لتأليف السويتات، ويرجح أن إحدى السويتات كتبت خلال فترة سجنه، كذلك أن السويتات كتبت على فترات متباعدة.
لاحقًا أتى مستيسلاف روستروبوفيتش، عازف التشيلو الروسي، والذي بعد سماعه لنسخة كاسالز من السويتات قال أنه ”من المستحيل التفكير في طريقة أخرى لتأويلهم“، وعزف مقاطع من السويتات عند جدار برلين احتفالًا بسقوطه. حتى أن تسجيل كاسالز نفسه جاء بعد سنوات طويلة من عزفه للسويتات أمام الجمهور، بالقرب من السنوات المؤدية للحرب العالمية الثانية.
بتأويل كاسالز للسويتات بشكلها الذي نعرفه، ذهب بعض النقاد إلى الاعتقاد بأن كاسالز أعاد اختراع التشيلو، تأويل كاسالز لم يتناول فقط الأسلوب أو الإيقاع أو الوقفات والانتقالات التي تُعزف بها السويتات، بل طريقة حركة العازف، أضاف كاسالز المرونة إلى حركة اليد القابضة على القوس، وانتقال الأصابع على الأوتار، فالطريقة التقليدية لعزف التشيلو لم تعد ملائمة لرؤية كاسالز للسويتات، خصوصًا بتأويله أن باخ أضاف هارمونية ضمنية عبر الانتقال خلال الأوتار داخل نفس الصوت لصناعة إيحاء بسماع عدة أصوات متداخلة.
مع ذلك، للأسف نسخة كاسالز التي نملكها يتخللها المشاكل التقنية من حيث جودة التسجيل غير القابلة للإحياء في صورة أفضل، وبحسب نقاد الموسيقى، أيضًا عزف كاسالز، الذي وقت التسجيل كان تجاوز الخمسين من عمره، نفسه لم يكن مثاليًا. التسجيل مليء بالخشخشة الناتجة عن الأسطوانة وهسهسة تعود إلى سوء طباعة الأسطوانات على الأغلب وتشويشات مثل حركة يد كاسالز على عنق التشيلو، أو حركة التشيلو نفسه بين قدميه. على الرغم، ظلت النسخة إحدى أكثر الاسطوانات مبيعًا لفترة طويلة ومرجع لدارسي التشيلو ودارسي باخ حتى اليوم.
يظل كاسالز حيًا في كل التسجيلات التي صدرت بعده، بداية أنريكو ماينرادي الذي عزفها أبطأ خلال منتصف الخمسينيات، وأناليز شميت كأول عازفة للسويتات في أواخر الخمسينيات، والتي عزفتها أسرع بكثير مما رآها كاسالز. بالإضافة إلى يو-يو ما الذي سجلها مرتين، الأولى في الثمانينيات بشكل أقرب إلى كاسالز لكن بنغمات أكثر وضوحًا، والثانية في ٢٠١٦ ليصب فيها من شخصيته الموسيقية ويمزج بين رؤيته ورؤية كاسالز، ثم آنر بيلزما في التسعينيات بالمقدار المناسب من الهدوء والرصانة.
خلال التسعينيات أصدر روستروبوفيتش نسخته الفريدة في جوهرها وأسلوب عزفه، وفي ٢٠٠٩ أصدر الهولندي بيتر ويسبلواي صورة معدلة بديعة من السويتات، أكثر زخرفة وعفوية. جميعها نسخ تستحق الاستماع وجميعها نسخ تدين بالفضل لكاسالز الذي أظهر مقدارًا من المرونة في التأويل والعزف وأعطى مساحة ممتدة للتزيين والتلاعب بالإيقاع.