.
حاملًا صندوق كرتون يحوي شرائط ماركة أمير، بطلة شريط الكوكتيل في زمن الكاسيت بفضل تكلفتها الزهيدة، كان البائع الكفيف ينادي بصوته المبحوح “حد عاوز شرايط تسجيل”. كان يسعى في مصر الجديدة ما بين الميدان والترام، وكنت أراقبه في عامي الجامعي اﻷول من مقهى ارتدته قرب الميدان، حاملاً صندوقه بالإضافة إلى أسلاك ووصلات أضفت على مشيته ملمحًا مسرحيًا. في عامي الأخير في الجامعة أصبحت أراه في مقهى آخر قرب الترام، وكان قد استبدل بضاعته وصار ينادي بصوت مبحوح “حد عاوز سواك وبخور”. أربعة أعوام في مطلع اﻷلفية كانت كفيلة برحيل زمن الكاسيت، ولم يعد شريط الكوكتيل هدية يتبادلها المراهقون الولهانون. ضرب الكاسيت وهرب مثل أبطاله العديدين الذين سطعوا كنهار شتوي مصري لم تسمّر شمسه جبهاتنا لكن منحتنا لحظة دفءٍ وجيزة.
بشرائط ثلاث وأغنيات تلعب على ثيمة واحدة يميزها توزيع حميد الشاعري ومقلديه، حفر علاء سلام لنفسه اسمًا في عقد التسعينيات بأغنياته المناسبة للرحلات الجامعية الترفيهية. مع فرقة حميد الشاعري أخرج أغنيته اﻷشهر احكم بالحق، بكلمات طريفة “احكم بالحق يا ابو ضحكة أرق من الرقة قلبك لو دق أنا قلبي أرق من الدقة” يفتتحها كورس رجالي صاخب يُدخل في الحالة الراقصة، بلحن غير مبتكر البطل فيه الإيقاع والتوزيع وترديد “احكم ما تحكم“. تستمر اﻷغنية اﻷشهر من صاحبها، التي تحول مذهبها لإفيه مسرحي متداول في مسرحية أو اثنتين تزامنتا معها، ولم يخرج علاء سلام عن ثيمتها في أغنياته اﻷخرى اﻷقل شهرة مثل اليوم دا حلو ليختفيَ سريعًا عن سوق الكاسيت.
بأغنية ﻻ تخرج عن تيار ساد في الغناء الشعبي تتركز كلماته على شكوى الزمان واﻷحوال فتلقى هوى عند جمهورها المستهدف من سائقي اﻷجرة والنقل العام والخاص في طرق القاهرة، حقق ضياء شهرته اﻷوسع في مقتبل عمره ثم اختفى في شبابه ليمثل حالة تكررت كثيرًا في تلك السنوات مع طاهر مصطفى وشيماء الشايب وغيرهما.
يتشابه لحن اﻷغنية لمحمود اليوسفي مع أغنيات حسن اﻷسمر نجم المرحلة اﻷشهر، فتنقسم أجزاؤها بين الفرح الصاخب والحزن الشديد مع كورال نسائي بارز. يستهل ضياء الغناء بشكوى الزمان الذي قال له ما عنده ولن يكرر ما قاله ليتحول هذا الحزن لفرح صاخب في تكرار الجملة المنقسمة بينه وبين أصوات الكورال، ويطلب من الزمن أن يبكيه على لحن راقص ويطلب الحنية على نفس اللحن ليعود فيتحول إلى الصخب الراقص في نصفها الثاني كله في أغنية حققت شهرة سريعة واختفاء أسرع.
كانت أغنية نادم لـ بهاء حسني (ألحانه وكلمات محمد الصواف وتوزيع بهاء حسني) هي الفتح اﻷبرز في مشواره الذي لم يستمر أكثر من سنوات قليلة، رغم موهبته التلحينية وتوزيع أخيه بهاء الذي ابتعد عن لون حميد الشاعري السائد، وتحول شهاب حسني إلى أحد ألغاز التسعينيات التي لم تستمر رغم نجاحها الملحوظ واختلافها النسبي.
اللحن بسيط إلى حد كبير مثل أغاني زمنه، يبرز فيه جمل فردية للقانون والساكسفون رغم بساطتها تجعل اللحن يلتصق باﻷذن مباشرة، ويعتمد الغناء على صوت المطرب وحدها وصداه المُكرر دون كورس مساعد وهو ما يعتمد عليه الفيديو المصور أيضًا الذي كان مادة ثابتة طوال شهور على قنوات التلفزيون الرسمي المصري، ورغم ذلك اختفى حسني سريعًا بعد نجاح مثل الشهاب ثم حاول العودة بعد سنين من احتجابه قبل رحيله المفاجئ في مايو الماضي.
بألحان من الفلكلور المشترك ما بين مصر وليبيا وتوزيع حميد الشاعري، الصانع اﻷبرز في سوق الكاسيت في مطلع التسعينيات، قدمت فرقة جيليانا شريطها اﻷول كل شيء، ومثل آخرين شملهم مشروع حميد الشاعري سرعان ما انفرطت الفرقة بعد نجاح وجيز ربما لم يتجاوز صيفًا واحدًا، ورحلت دون أثر سوى ذكرى بعيدة لعوالي يا وأغنية أخرى هي أيام اﻷسبوع.
يعتمد التوزيع على جمل الناي المنفردة وخط الوتريات المهيئ لصوت جمال العراقي المنفرد الذي يجاوبه باقي الفرقة، ورغم عدم وضوح الكلمات بالنسبة للمستمع المصري حققت اﻷغنية نجاحًا ملحوظًا اعتمد على مساحة الشجن في صوت جمال العراقي الموحي بغربة صحراوية ربما وافقت هوى ما لدى مستمعيها في ذلك الحين.
مثلما اعتمدت فرقة جيليانا على لحن من التراث بتوزيع حميد الشاعري اعتمد أحمد جوهر على نفس المعادلة في نجاحه القصير، في شبكني الهوى أعاد لحنًا صعيديًا سبق أن غناه الريس متقال بطريقة مودرن حسب تعبير أحمد جوهر نفسه وعاد حميد الشاعري لخلطته المفضلة في التوزيع بالاعتماد على الإيقاع والكيبورد المحاكي للمزمار الصعيدي وكورس الرجال، بغناء جوهر الذي لعب على الحدود الفاصلة بين نطق المدينة ونطق الصعيد بتعطيش الجيم حينًا لمجرد التلميح ﻷصل اللحن لا أكثر، ليصنع مع الشاعري نجاحًا سريعًا لم يستمر أكثر من صيف أو اثنين.
اعتمد هشام نور على نجاحه اﻷبرز في أغنيته اﻷشهر مش عارف (توزيع طارق عاكف وكلمات حسني النجار) التي صدرت عام ١٩٩١ بألحان زياد الطويل نجل الملحن كمال الطويل. اعتمد التوزيع على جمل الساكسفون التي عزفها باقتدار سمير سرور العازف اﻷشهر لهذه اﻵلة في مسار الموسيقى المصرية. قسّم الغناء بين كورس الرجال وهشام نور الذي لم يكرر نجاح أغنيته اﻷولى رغم شرائطه الثلاث التي توزعت على سنوات عقد التسعينيات، على فترات متباعدة ساعدت في حالة اختفائه اللاحقة.
احتفظ التيار السائد في سوق الكاسيت طوال عقد التسعينيات دومًا بهامش للتراث الجنوبي المشترك ما بين مصر والسودان، فلمعت نجومٌ خارج حدودها الإثنية السمراء مثل حسن عبد المجيد وفيكا وجواهر لتعاود الاختفاء عن التيار السائد راجعة إلى حدودها الإقليمية والغناء داخل التجمعات الأسوانية والنوبية.
يمثل محمد أبو الشيخ حالة من حالات الاختراق تلك لسوق الكاسيت الرسمي، فبعد نجاح قصير لم يتجاوز سنوات قليلة مال واحتجب بعيدًا رغم أغانيه الناجحة مثل الولد دا التي اعتمدت على توزيع طارق مدكور المشابه لتوزيعات حميد الشاعري المعتمدة على الإيقاع والكيبورد وكورس مُردد، ولعب غناء أبو الشيخ على اللهجة النوبية كما يتخيلها أبناء القاهرة كي ﻻ يبتعد كثيرًا عن ذوق الجمهور المستهدف وهي ظاهرة تكررت كثيرًا طوال عقد التسعينيات في سوق الكاسيت واعتمد عليها هذا اللون الغنائي اﻷسمر لو جاز التعبير، بكلمات كتبها أبو الشيخ ﻻ تخلو من طرافة وخفة دم صنع نجاحًا قصيرًا مثل غيره وابتعد.
في مسيرته الغنائية القصيرة أصدر الملحن ومدرس آلة التوبا في الكونسرفاتوار إسماعيل البلبيسي ثلاثة شرائط لم تضرب منهم سوى أغنية واحدة صارت أشهر من مغنيها نفسه. كانت الغربة ثيمة مميزة لعقد التسعينيات في مصر تزامنًا مع بحث شباب المدن واﻷرياف عن الهجرة للعمل في دول الخليج، وهو ما اعتمد عليه عنتر هلال كاتب الكلمات. اعتمد اللحن الذي صاغه إسماعيل البلبيسي نفسه على سهولة الغناء لتحقيق ألفة مطلوبة ليدندنها أي مستمع، أما توزيع طارق مدكور فقد تميز بحق في هذه اﻷغنية بعيدًا عن خط حميد الشاعري السائد وقتها، إذ اعتمد على حوار بين العود والناي في جملة هادئة دون إيقاع، فأثارت الشجن دون صخب، في أغنية ضربت وهربت رغم جمالها وتعبيرها عن مرحلتها.
أسست لولاكي، من كلمات عزت الجندي وألحان سامي الحفناوي، تيارًا كاملًا لأغانٍ سماها أصحابها أغنية الجيل وسماها نقادها اﻷغنية الشبابية وسميت السنوات التالية لها زمن لولاكي مقارنة بالزمن السابق الموصوف دومًا بالزمن الجميل، بمبيعات تجاوزت الخمسة ملايين شريط، وربما تشكك المتأمل الحالي في حالة النجاح المدوي ﻷغنية بسيطة بتوزيع موسيقي لم يكن اﻷكثر ابتكارًا لموزعها حميد الشاعري، لكنها تملك معادلتها الخاصة، فمجرد اﻻستماع لثيمة “لولاكي لولا لوﻻ لولا” الموزعة بين علي حميدة والكورس يدخل المستمع في الحالة اللولاكية دون الإنصات لباقي كلماتها.
في السنوات اللاحقة حاول علي حميدة كسر شهرة شريطه اﻷول التي حلت عليه كلعنة لكنه لم يحاول كسر نمط غنائه فبدت أشرطته الخمس كأغنية واحدة مكررة بعناوين مختلفة. انزوى بعيدًا عن سوق الكاسيت بعدها وعاد للتدريس في المعهد العالي للموسيقى العربية. مقارنة أغنيته اﻷولى لولاكي بأغنية أخيرة له مثل بلاها نادية وخد سوسو، أو بمشهده في مسلسل ريح المدام حيث يسخر هو نفسه من أغنيته اﻷشهر ويغني “لولاكي أنا كنت مشيت ولا في خناقة اتلطيت“، كفيل بأن يكون نقشاً على ضريح أغنية ضربت وهربت.