.
بعد انقطاع دام خمس سنوات منذ إطلاق ألبومه الطويل الأول تقاسيم. مقامات الهرم ٢٠١٦-٢٠١٩، عاد المنتج المصري ١١٢٧ (عمرو العلمي) بألبومه الجديد ض، المعتّق بما يليق بهذا الغياب. في السنين الأخيرة شاهدنا ميل العديد من المنتجين الإلكترونيين في المنطقة العربية لتوظيف أصوات وإيقاعات وعناصر من محيطهم الثقافي. بين محاولات ناجحة وضعيفة وأخرى تدور حول الكلَب إديتس، كان القاسم المشترك هو الموسيقى الراقصة، ما يضمن سهولة في استساغتها بصرف النظر عن جودتها؛ فحلبة الرقص على قدرٍ كبيرٍ من التسامح.
يغرّد العلمي في ض خارج السرب كليًا في إصداره على تسجيلات نشازفون، الصوت المصري طاغي وقد أخذ طريقًا تجريبيًا ملتويًا بعيدًا عن حلبة الرقص مثل إصداره الأول، في ما يمكن وصفه بمغامرة صوتية. يتمحور ض حول مواد أرشيفية من بداية القرن العشرين والبايس والأنسجة الصوتية المحشرجة والإيقاعات المتناثرة، وأخيرًا، مزيدٍ من البايس.
لا يمكن إغفال قدرة العلمي في معالجة الأصوات عبر سلسلة من المؤثرات الصوتية، مؤكدًا على ضخ مزيدٍ من الروح في تلاعبه المحكم بالصوت. يمكن اعتبار التراك الأول والثاني بداية تُهيئ المستمع لما هو آت، حيث يلخص العلمي عناصر عدة، إيقاعات لادغة ذات درجات متفاوتة يحاول السَب بايس إيجاد مجال للتنفس من خلالها، فيبرز على السطح ويغطس مجددًا فيما تظهر خامات زجاجية ممطوطة تغْني التراكين.
يعتمد تراك لن أعيش في جلباب أبي على وصفة بسيطة؛ لحن تكراري يأخذ أشكال مائعة بفضل التلاعب به بالإضافة إلى عناصر مفككة من الجرايم. يعكس التراك حسًا ساخرًا دفينًا يتحرر من البنية واللحن وكل ما هو سائد، والجنرات بشكل عام، وهو ما نلاحظه أيضًا في التراك الختامي للألبوم الذي يأخذنا إلى هلوسة سمعية من العيار الثقيل عابثًا بأدمغتنا.
المميّز في ض هو خلق تباين بين ما هو مألوف وما هو غريب أو مخيف. مثلًا، هناك حميمية في العينة الصوتية التي بني عليها تراك مواويل، لكن مع تكرارها وتقطيعها وتسلل الأنسجة الصوتية والبايس العميق سرعان ما تتحول المواويل إلى كوابيس. الجميل في الأمر هو دراية العلمي باللحظة المناسبة التي يغيّر فيها مسار تراكاته سواء كان بتغيير ديناميكيتها أو تشويهها، أو حتى إنهائها فينغمس المستمع في تجربة حسّية ممتعة.
يظهر التباين نفسه في تراكات أخرى مثل التعقيد نسّاك وغلبني، وقد أخذوا تكنيكًا آخر يذكرنا بأعمال ذَ كايرتيكر. تلاعب العلمي بعيّنة صوتية قصيرة، على ما يبدو بالجرانيولر سنث ليختبر المستمع التهالك البطيء للعينة والذاكرة المشوّشة، فكرة صغيرة ذات تأثير قوي للتأمل في الزمن وليّه.
في حين يسترجع ١١٢٧ حبه للهيب هوب ونشأته عليه في تراك ١٤٤٦، ففي إينوسنت كومبليسيتي و١٦٥٠٠٠ يلجأ إلى كتل صوتية ثقيلة مكوّنة من السب بايس وتأثير السايدتشين، بالإضافة إلى إيقاعات لزجة وخامات ضجيجية تفسح جميعها المجال تدريجيًا لعينات صوتية من حلقات ذكر. يضيف العلمي إلى رصيده صوتًا موتّرًا غير معهود، أشبه بمستنقع وعر.
عند مقارنة ض بسابقه نلاحظ تغيّرًا في الأسلوب، وتحوّلًا من التجريد الصريح والصوت العنيف التكثيري إلى صوت ضبابي أكثر استساغة وليونة، ومثير للفضول لإزاحة الستار عنه وكشف مصادره أو الاستسلام والتحليق معه؛ وإن احتوى تراكي ٣٠٢ ستبس … وآي تولد ماي إِ آي فيمايل كومبانيون… إشارةً لألبومه الأول.
ض ألبوم ممتع ومتنوع، لا يشبه فنانًا آخر ولا يشبه عمرو العلمي نفسه في عمله السابق، وإن برز أسلوبه الإنتاجي وشخصيته وقدرته العالية على اللهو بالصوت والعينات الصوتية التي تبدو لنا كأطياف غريبة. ما زال العلمي محافظًا على عنصر تحدي المستمع وقلب توقعاته، مؤكدًا على شغفه التجريبي وتحرره التام من مفهوم الجنرا المحدود. ض بمثابة وجبة سمعية دسمة حافلة بالفوارغ والنخاعات والمقادم.