.
بعدما شاع استخدام السنث وازدهر سوقه على حساب البرامج الرقمية، احتلت مؤخرًا وحدات السنث modular synth مكانة مميزة، حيث شاع استخدامها بين فناني الموسيقى الراقصة بمختلف أنواعها والعديد من الفنانين التجريبيين. يعود ذلك إلى كونها لا تقيد المستخدم بطريقة عمل واحدة مثل الأجهزة التقليدية، بل تتيح له تكوين صوته الخاص واتباع طريقة عمل أكثر استقلالًا لسهولة اختيار الوحدات وتوافقها مع بعضها البعض. عند بداية ظهور عالم تخليق الأصوات اعتمد الأمر على وحدات السِنث، ثم تطورت العملية وظهرت ماكينات ذات بناء ثابت، سِنثسات متعددة النغمات وأخرى ذات دوائر رقمية FM Synthesis انتهاءً بالبرامج الرقمية. يتّبع المصنعون طريقة من اثنتين في التصنيع: طريقة الساحل الشرقي نسبةً إلى روبرت موغ في نيويورك، وطريقة الساحل الغربي نسبةً إلى دونالد بوكله في كاليفورنيا. يعتمد نظام موغ على شكل تقليدي لتخليق الصوت يعرف بـ النحت بالفلترة subtractive synthesis (دائرة كهربائية – فلتر، وهو العنصر الأساسي في تشكيل الصوت – آمب). أما نظام بوكله فيتّبع شكلًا أكثر تعقيدًا عن طريق تشكيل الموجات wave shaper لإنتاج نغمات أكثر تركيبًا منبثقة من موجة بسيطة (مثل موجة المثلث).
في العام الماضي أصدرت شركة مايك نويز وحدة سنسث تعرف بـ كوست-أو، تعتبر هجينةً بين نظامي موج وبوكله، وإن كانت تميل إلى الأخير أكثر. يعتمد إصدار پاي آر سكويرد (محمد سكسك) الجديد بشكل أساسي على هذا السنث كمصدر للصوت، يمرره عبر مجموعة من بدالات التأخير والريفيرب والفَز Delay, reverb and fuzz، بالإضافة إلى تحكّمه في تسلسل النغمات عن طريق جهاز كورغ إس كيو-١. نتج عن هذه العملية خمس مقطوعات من الطنين، ترتكز بالأساس على الخامات الصوتية وألوانها، بعضها ذو طابع محيط هادئ والبعض الآخر أكثر حدة، مليئ بالضجيج والطبقات المعقدة.
يعكس الألبوم علاقة سكسك بالآلة وقدرته على إنتاج صوت غني وملهم بأقل الإمكانيات، إذ يميل سكسك في هذا الألبوم إلى وضع قيود على نفسه وتقليل الأدوات المستخدمة لتقديم عمل متماسك غير مشتت، لا يقع في فخ الاستعراض بآلته الأساسية. يقول في تقديم ألبومه على موقعه الخاص في باندكامب “الهدف من هذا الإصدار هو السماح للسنث بتوجيه مسار تطور المقطوعات. أدركت بعد بضع ساعات من حصولي على الـ كوست – أُو أنه قادر على تقديم شئ مميز جدًا، وقررت أن أسمح له بأن يقودني في تأليف تلك المقطوعات. كنت أبرمج تسلسلًا يترك مجالًا للتغيّر وأتركه يلعب لساعات، ثم أستمع مرة أخرى لكل شئ. وفي معظم الأحيان كنت أجد مقاطع لم أكن لأعثر عليها بمفردي.” لا يعتمد الألبوم على البرمجة المسبقة للسنث بشكل مطلق، بل نلاحظ تحول الصوت بشكل مستمر عن طريق تلاعبه به. يخلق هذا النهج حوارًا بين المؤلف وأصوات الطنين ينتج عنه تغيير مستمر وخفي في تركيبات النغمات والخامات لتصير أكثر تعقيدًا. وأتصور أن أفضل وسيلة لتلقي هذا التغيير الخفي ستكون من خلال عرض حي والاستماع إليه بصوت عالٍ.
يبدأ الألبوم بـ نيرلي ذير ناو التي تعتمد على كورد واحد، تتضح نغماته بدرجات مختلفة تدريجيًا متنقلًا بين أكثر من أوكتاف. للوهلة الأولى يبدو وكأن التراك في حالة ثبات، ولكن مع التمعن في السمع تتضح معالم أخرى خفية تكسر الثبات، ذلك بسبب النغمات التوافقية التي يكشف عنها تدريجيًا. تلك التغيرات الطفيفة في الصوت والتلاعب بتكوينات النغمات والمؤثرات الصوتية والاهتمام الأساسي بالخامات تشكّل أسلوباً يستخدمه سكسك حتى نهاية الألبوم. يذكرنا هذا التراك بأعمال براين إينو الأولى، مثل ديسكريت ميوزِك، التي يتشابه معها عمل سكسك في فرض حالة تأمل على المستمع.
ينتقل الألبوم في ثري آند أ هاف إلى منطقة أكثر توترًا وألوان أكثر وضوحًا، حيث يعرض نغماته عن طريق التلاعب بشكل الموجات والنغمات التوافقية أيضًا. تتدفق الأفكار بشكل سلس وبسيط إلى أن نصل إلى منتصف الألبوم، سلُوِر ذان يور لايف التي يغلب على خاماتها طابع معدني، ويبرز استخدامه لتأثير الـ فَز فينتج عنه ضجيج حاد وصوت متعدد الطبقات ضخم وأكثر تركيبًا وشراسة مِمَّا سبقه.
وجدت تافونومي أفضل تراكات الألبوم وأكثرها ديناميكية. يتدرج التراك ببطء في تنويعاته وصوته المعقد والمتشابك إلى أن يصل إلى قمته في المنتصف، ليسود الضجيج وسط طبقات متعددة من الأصوات المختلفة. يستخدم سكسك هنا بدّال صممه جوشوا فوربز (مؤسِّس Built Then Burnt) له خصيصًا. يظهر تأثير هذا البدال من خلال الفَز ومؤثر آخر أشبه بمؤثر التحكم في سرعة الـ تايپ ديلاي tape delay، حيث يعطي بعدًا جديدًا للطبقات الكثيفة ذات الطابع منخفض الجودة lo-fi. يتحدى سكسك هنا أذن المستمع وقدرتها على تحمل صوت خارج المعادلة السهلة واعتيادها ما هو متوقع وآمن، إذ يبحث عن جمال كامن في الاستفزاز. ينحسر هذا التوتر مع آخر مقطوعة في الألبوم، ذير ناو، وهى مقطوعة هادئة شديدة الصلة بافتتاحية الألبوم من حيث الصوت والأفكار، ولكنها أكثر ديناميكية، ولذا فهي نهاية موفقة للألبوم.
يحاكي سكسك في إصداره أسلوب آليساندرو كورتيني الارتجالي على سنث بوكله. ويظهر تأثره به بالأخص في سلُوِر ذان يور لايف وتافونومي، حيث يسلك نفس المنهج في تحويل الأصوات البسيطة إلى خامات مركبة وكثيفة. كما لا يعتمد على أي سرعة إيقاع، فيتعامل مع الزمن بشكل حر، بعيدًا عن أي قالب تقليدي أو معالم راقصة معتمدة على الإيقاع الثابت. يظهر تأثره به أيضًا من حيث الصوت ككل وتركيزه بشكل كبير على المدى المتوسط mid-range، على خلاف الصوت الرائج منذ فترة في أغلب أنواع الموسيقى الإلكترونية والمعتمد على البايس والصب كعوامل جذب، الأمر الذي يضع سكسك في مكان أكثر استقلالية. من الممكن استنتاج تأثره أيضًا بـ هويركو إس في ألبومه الأخير فور ذوس أف يو هو نِفر من خلال تشابه الصوت في المقطوعات الهادئة. كما يمكن القول إن سكسك عندما جرد كل مقطوعاته من المدى المنخفض كان يتبع أسلوبًا مشابهًا لأسلوب هويركو إس، الذي جرد طبقاته في الألبوم المذكور من الإيقاعات.
جزء من عرض كورتيني على البوكله
إذا نظرنا إلى أعمال سكسك السابقة في الطنين والمحيطة سنجد أن هذا الإصدار هو الأفضل. في ألبوم أ ستايت أُف أنوايفنج كونتمپت بدا الإنتاج الموسيقي مبالغاً فيه. وفي أعمال أخرى مثل هانجوفر إن سايبيريا ولوتسولِه كان هناك تشتت بين أصناف موسيقية وأصوات عديدة. يجمع الألبوم بين الارتجال والتجريب، والتغير التدريجي الذي هو من أساسيات المدرسة التقليلية. كما يجمع بين النغمية والضوضاء، حيث يبحث عن الجمال السلبي، فيبرز من جهة الجماليات الكامنة في الضجيج، ومن جهة أخرى يغلّف النغمية بالضجيج، مشتتًا المستمع الذي عليه أن يقاوم هذا التشتت بأن يستمع بتأنّ وعِناد، كأنه في معركة مع العمل، أو مع سكسك نفسه. في كوستس وجد سكسك الصوت الخاص به الذي كان يبحث عنه، ليؤسس به من خلال هذا الألبوم لحقبة جديدة ناضجة ومثيرة.