.
خلال السنوات الأربع الماضية، أصبح لمدينة منزل بورقيبة ما تعرف به سوى مصنع الفولاذ المغلق الذي أكسبها مزاجها الداكن. صعد مشهد الراب المحلّي المتمحور حول استوديو ٨ستريتز، وأصبح يعادل بأهميّته مشهد العاصمة. ابتكر نجما هذا المشهد، سمارا وسنفارا، صوت منزل بورقيبة عندما أخذا من المزود بقدر ما أخذا من الراب والتراب، وخاضا في ثيمات شعبيّة ذات طيف واسع من المواضيع عندما واجهتهما محدوديّة معجم راب العصابات. عثر الاثنان في الغناء الشعبي الحزائني المغرق بالأوتوتيون على بديلٍ محلّي ملائم للغناء الأوتوتيوني المتهدّج (autotune crooners) في التراب.
دشّن سمارا ذلك الأسلوب في يامي، أغنيته المبكرة التي سبقت مادايم والو، وتبعه سنفارا الذي دخل الساحة بأسلوب في غناء الأوتوتيون أثّر بوضوح في جيلٍ جديد من رابرز تونس. طوّر سنفارا صوت منزل بورقيبة عبر سلسلة أعمالٍ ضاربة من بينها يا بنتي وانتي خويا ووراس لحنينة وراك بالدنيا، تقاطعها كل فترة وأخرى أغاني تراب نموذجيّة مثل فاقوا بيا وشبيني هكا وتجيني توا.
بعد أن تصدّرت أغاني المزود موجة الأغنية الشعبية بين السبعينات والتسعينات، وهيمنت على سوق الكاسيت في تونس نهاية القرن الماضي؛ يحتل الراب اليوم مكانة مماثلة، ويسمعه جيل وجمهور مشابه. ساهم مشهد منزل بورقيبة بدفع الراب إلى ساحة الموسيقى الشعبية، نافسها على المستمعين في الحومات (الأحياء الشعبيّة)، ويعود بعض الفضل في ذلك إلى المدينة ذاتها، التي كالعديد من المدن والبلدات الصناعيّة المتداعية، تحتضن سرديّات مشابهة لسرديات ضواحي وأحياء المدن الهامشيّة التي ألهمت الراب حول العالم لعقود، لكن بحيثيّاتٍ مختلفة وصوتٍ يخصّها.
في متوصيني، يعود سنفارا للتعاون مع ناركو، الذي يبدو مرتاحًا في منصبه كمهندس صوت ومنتج بعد أن هجر الراب إلى مدىً بعيد. يركّز الثنائي على ملامح راب منزل بورقيبة، كاستعمال الآهات مكان الآدليبس، وإلقاء البارات بأسلوب يجمع بين التنغيم والتحزين، وباستخدام إعدادات أوتوتين تشدّ صوت سنفارا نحو المزود المحلّي، بعيدًا عن رتابة التراب العالمي. يعرف سنفارا كيف يكتب لجمهور الراب الشعبي في تونس، ويقدّم له كلماتٍ قد يجد شيئًا من نفسه فيه، عند الحديث عن الحياة بإسقاطات مثاليّة تمهّد إلى نظرة سوداويّة منسحبة من الواقع / المجتمع: “أمي متوصيني وين ظلامت عيني / الدنيا ما تغرّيش شنية بينك وبيني / عباد تموت لهنا تحب تتنفس الهواء”.
هنا تصبح معاجم المزود أكثر ملائمةً من راب العصابات، إذ يلجأ سنفارا إلى ثيمات مألوفة في المزود، مثل الاستعمال الكثيف لصور الأم كما في لازمة الأغنية “أمي متوصيني”، والنزعة الشعبية للسخرية من الواقع والانسحاب منه: “شد صحيح اكمي برشة (لا تتوقف عن التعاطي)”، التي تذكرنا بـ جونتة قبل النوم لـ كلاي. لا يزال جمهور سنفارا يحنّ إلى صورة رابر العصابات الشرس، إلّا أن التغيرات الأخيرة في حياة سنفارا الشخصيّة، كعودته من سويسرا إلى تونس وولادة ابنته الأولى، قد تعني أنّ تفضيله المتزايد للراب الشعبي على العصاباتي سيستمر في هذا الاتجاه.
عندما ظهر نجوم منزل بورقيبة، تعامل العديد من أصوليي الراب في تونس مع أعمالهم على أنّها راب نخب ثاني، شعبي وشعبوي، إلّا أنّ الانطلاقة الصاروخيّة لهذا المشهد لم تأتِ من عبث. في المغرب والجزائر أيضًا، الرابرز الأنجح اليوم هم أولئك الذين أغنوا أسلوبهم في الراب عبر الاستلهام من موروثهم الموسيقي المحلّي، من أغاني جماهير كرة القدم في بلادهم، من سرديّات وهواجس مدنهم وبلداتهم وأحيائهم. ألهم أسلوب سنفارا، خاصةً في استخدام الأوتوتيون، جيلًا جديدًا من الرابرز في تونس، مع إيبو وبلاك وتشيغي وصبور من منزل بورقيبة، وغاتي وتاتي جي ١٣ من خارجها؛ جيل قد يمشي بخطى قريبة أكثر من اللازم خلف نجومه (تكفي عينة بسيطة من عناوين أغاني هؤلاء الرابرز حتى نرى أوجه الشبه، أمي كان غلطت سامحني لـ إيبو، ما نحبش نموت صغير لـ تاتي جي ١٣، وماناش وخيان لـ بلاك)، إلّا أنه جيل قد قطع خطوة لا رجوع عنها على درب جعل الراب الذي يصدر في تونس رابًا تونسيًا.