.
حلَّت الأمس ٢٣ مايو / آيار الذكرى الرابعة لوفاة الدخيل جورج موستاكي (١٩٣٤-٢٠١٣) المغني والموسيقي والشاعر والكاتب الفرنسي الذي كان يحمل في روحه مزيجًا من أخلاط الهويات والأعراق والثقافات. فهو سليل العائلة اليونانية اليهودية ذات الثقافة الإيطالية والمولود في اسكندرية مصر عام ١٩٣٤ في شهر مايو/ أيار نفسه. كان أبوه يملك مكتبة مدينة الكتب وقد كانت أشهر متجر للكتب الفرنسية في الاسكندرية، المدينة متعددة الأعراق آنذاك والتي غالبًا ما كان سكانها يتفاهمون جميعًا فيما بينهم بفرنسية المتوسط التي أسماها لويس عوض (الفرنسية البزرميط). نشأ موستاكي الصغير بين أرفف متجر أبيه ومجلداته كما درس مع شقيقتيه في ليسيه المدينة، فتبنى تلك اللغة ومال إلى ثقافتها دونًا عن اللغات والثقافات الأخرى التي أحاطت به، وطالما ردد أن اللغة الفرنسية هي وطنه الوحيد. هاجر من مصر فور حصوله على البكالوريا وهو بعد في السابعة عشرة إلى باريس مدينة أحلامه، ونزل لدى إحدى شقيقاته التي كانت قد استقرّت هناك مع زوجها ليتقلّب بين المهن الصغيرة التي تليق بمهاجر مثقف شاب، من تجارة الكتب إلى الصحافة بالقطعة، حتى أتقن العزف على الجيتار واحترف العزف في الملاهي الباريسية الصغيرة، وأخذ في تأليف الأغاني على منوال بوريس فيان وجورج براسنس. كان لذلك الأخير تحديدًا عظيم التأثير على ميوله الشعرية والموسيقية حتى أنه بدَّل اسمه الأول إيطالي الأصل جوسيبي إلى جورج.
في عام ١٩٥٨، وبصدفة قدرية التقى موستاكي وهو في الثالثة والعشرين بـ إديت بياف، وكانت وقتها أكبر وأهم مغنية، لا في فرنسا وحدها، بل في العالم كله ربما. كان معروفًا عن عصفورة الشوارع نزقها الشديد وولعها بالحياة، ومن اللحظة الأولى أثار العازف – الشاب – الفقير – المهاجر إعجاب الديڨا، وسرعان ما انخرط معها في علاقة غرامية عاصفة استمرت لعام وحيد. ذلك بالتأكيد كان أشبه بتحقق حلم يقظة للمتسكع المشرقي الذي كان يسمع أغنيات بياف وهو بعد تلميذ في ليسيه الاسكندرية.
كتب الدخيل لـ بياف إحدى أشهر أغنياتها في تلك الفترة، وساعدته تلك الدفعة على الخروج من السياق الضيق لعازفي ومغني كباريهات الضفة اليسرى لنهر السين، فصار اعتبارًا من بداية الستينيات مؤلفًا وملحنًا لأهم مغنيي ذاك العصر كـ إيف مونتان وباربارا وسيرج ريجياني، حتى حقق مكانته كمغن مؤلف اعتبارًا من عام ١٩٦٩ بعد صدور ألبومه الثاني Le Métèque أو الدخيل.
في عام ٢٠٠٤ وفي عيد ميلاده السبعين، فتحت مجلة پاري ماتش مع موستاكي ملف علاقته بـ بياف، فأملى النص التالي على الصحفية بيبيتا دوبون:
“لدى عودتي من فاليزير (قرب الحدود الإيطالية) حيث كنت أغني في أحد الكباريهات، وبعد ليلة كاملة في القطار بلا اغتسال أو حلاقة للذقن، وجدت رسالةً من أونري كرولا، عازف الجيتار في فرقة إيف موننتان. كنت أقيم في مسكن كان معملًا للألبان فيما مضى، ولم يكن به هاتف. اتصلت بكرولا من دكان فحّام مجاور. كان يريد فقط الاعتذار لأنّه كتب أغنيةً تشبه أغنيتي: ليزار، ولم يكن هذا يشكل لي أدنى أهمية، فاقترحت عليه أن نصنع منهما معًا واحدةً جديدةً. لم لا، لكن فيما بعد … فهو حاليًا لا بد أن يذهب لبياف. بالنتيجة، وجدت نفسي في صالون في شارع لان حيث تجلس بياف وحولها كل الحاشية.
قدمني كرولا لها، فنظرت لي بياف وقالت: ’أأنت العبقري الصغير؟؟ أسمعنا إذن إحدى أغنياتك الرائعة.’ ما إن قالت، حتى وضع أحدهم جيتارًا بين يديَّ وأخذت أغمغم بأغنية اكزوتيكية تحكي عن الشمس. قاطعتني بياف ضاحكة ’ألا تعرف نمط أغنياتي؟ هل لديك شيء آخر؟’. قلت لها بخجل: ’بإمكاني أن أعزف لحضرتك شيئًا على البيانو’، وهنا كانت فضيحة كاملة، وفقدت كلّ ملكاتي أمام هذا الجمع. لا بد أن بياف قد استشعرت هلعي فاستوقفتني: ’اسمع، لو كنت تريد أن تعرف قليلًا عن الريبورتوار الخاص بي، فأنا في مسرح الأوليمبيا هذه الليلة، أنا أدعوك. لو لديك الرغبة في أن تكتب لي، فلا بد أن تعرف ماذا أغني.’ في الليلة نفسها، في الأوليمبيا، أجلسوني في موقع العظماء، بجوار برونو كوكاتري نفسه (مدير المسرح الشهير)، والأغرب، بعد العرض اصطحبوني إلى مقصورتها، ومن هناك سحبتني بياف إلى العشاء في بيتها مع أصدقائها.
عندما اقترحت عليّ في نهاية السهرة أن أجيء لمقابلتها في اليوم التالي في بيتها، فهمت بالطبع أنني أروق لها. أنا في الثالثة والعشرين، وهي في الحادية والأربعين، وبنوع من تورم الاعتزاز بالذات قررت عدم الذهاب. لا أريد أن أكون متطفلًا، فلديها ما يكفي من العشاق والمعجبين حولها. لن أشارك في هذا. مع ذلك، ومدفوعًا بالندم اتصلت بعد يومين لأعتذر. كنت أتمنى أن ترد عليّ سكرتيرتها، لكنها كانت بياف على الطرف الآخر، طلبت مني بلطف أن أمرّ عليها في الليلة نفسها، ولم أجرؤ على الرفض. مرة واحدة مدَّت بيننا صلة من التعاطف والتقدير والتواطؤ والغواية، وأصرّت على أن تأتي لتسمعني في كاباريه بمونبارناس كنت أغني فيه كل ليلة. لم يصدِّق صاحب الملهى عينيه عندما رآها داخلةً بصحبة عشرة أشخاص. ثم أخذتني للعشاء لديها، وفي اللحظة التي كان فيها كل المدعوين يغادرون، ألقتها لي: فلتبق أنت.
خلال عام كامل، من فبراير ١٩٥٨ وحتى فبراير ١٩٥٩ لم نفترق. في علاقة مشبوبة ولعبية وإبداعية. كنت أبدو تقريبًا في عيون الجميع كـ ’جيغولو’ تحت الطلب. ثم وأثناء جولتها الفنية في الولايات المتحدة، طلبت مني إديت أن أكتب لها أغنية عن عاشقين يفترقان في لندن ذات يوم أحد. سودت بعض الأبيات، ثم بزغت كلمة ميلور ووضعت إديت في هيئة طفلة شوارع تتكلم مع ذلك الرجل الذي هجرته حبيبته للتو. عندما عرضت عليها الأغنية، طلبت من مارجريت مونو وهي تكاد تطير فرحًا، أن تلحنها. بالنسبة لي كانت هدية لا تقدر بثمن. لكن إديت كان يمكنها على التوالي أن تكون معشوقة قذرة، وفتاة ساذجة، ومنحرفة وسيدة عظيمة. في أحد الأيام، وإذ افتعلت شجارًا عنيفًا بلا داع، سألتها بصدق: إديت، ما بك، هل شربتِ؟ وبدون أن أعي وضعت يدي على الحقيقة، وآنئذ ألقاها وكيل أعمالها في وجهي :’ماذا بك؟ أأنت أحمق، ألا تعرف أنها تشرب من وراء ظهرك؟’ شعرت بالخديعة وقلت لها :’إديت، لم يعد عندي ثقة فيك’، وغادرت.
علمتني إديت كل شيء، كيف أتناول طعامي وكيف أرتدي ملابسي، ومعها كانت كل لحظة شديدة الكثافة. بعد أن كانت علاقتنا قد انتهت بفترة طويلة، هاتفتني في عمق الليل وطلبت مني أن أذهب إليها فورًا، وذهبت على دراجتي البخارية كالمجنون، ظانًا بأنها مريضة، لكنها لم تكن. كانت متزينة في سريرها ترمقني كطفلة لعوب وهي تقول: ’جورج، لقد أردت أن أعرف فقط إذا كنت لاتزال قادرًا على اجتياز باريس بعرضها من أجلي.’ كانت بياف مخلصة، وكريمة، تعطي كل ما لديها، لكنها تتوقع من الآخرين كلّ ما لديهم أيضًا. كتبت لي خطابات غرامية شديدة الجمال. كانت شديدة الإيمان، أو صوفية. كانت تحب أن تقلب الطاولات، وكانت خطاءة كبيرة أيضًا. وإليها كتبت: المرأة التي في فراشي La femme qui est dans mon lit التي غنّاها صديقي سيرج ريجياني. علمت منذ عام بالكاد عن طريق مسؤول متحف إديت بياف، أنهم عثروا بعد موتها على صورة لي في محفظة كانت تبقيها دائمًا في حقيبة يدها، بعد أربع سنوات من انفصالنا.”