.
واجهت الموسيقى العربية، شأنها في ذلك شأن شتى مناحي الثقافة العربية الحديثة، انقسامَ الأصالة والمعاصَرة، والذي يمكن من زاوية معينة مقارنته بانقسام المثالي والواقعي في الفكر الغربي الحديث، والذي وصل بالفعل إلى فلسفة الموسيقى الغربية١. بدلًا من إشكال: “هل الموسيقى كائن واقعي، أم مُتخيَّل؟” الذي طرحه فلاسفة الموسيقى الغربيون، انقسم الموسيقيون والنقاد العرب على فرقتين أساسيتين: الأولى فرقة تأصيلية، تدعو إلى الالتزام بمعايير شكلية وجمالية قومية، تميز الموسيقى العربية بسمات كيفية في مواجهة الثقافة الموسيقية الغربية (خاصةً الموسيقى الكلاسيكية)، التي نُظِرَ إليها أحيانًا في السياق التاريخي للاستعمار في الشرق الأوسط، وبالذات منذ أواخر القرن التاسع عشر، باعتبارها شكلًا من أشكال الغزو الثقافي. أما الفرقة المناوئة فهي العالمية، التي لا ترى غضاضة في التأثر بالأشكال الموسيقية الغربية وآلاتها وتوزيعها وإيقاعاتها، بل وألحانها؛ باعتبار أن الموسيقى الغربية ليست آخَرَ، بقدر ما هي متقدمة. تعني تلك النظرة أنّه ما من فارقٍ كيفيّ ضروري بين الشرقي والغربي في الموسيقى، وإنما هو فارق كمّي، بين موسيقى منكفئة على ذاتها الحضارية، بطيئة التطور، وأخرى عالمية سبّاقة إليه.
تناول النقاد والمفكرون هذه الإشكالية، تارةً بالانحياز إلى طرف من الطرفين، وتارةً بمحاولة إحداث نقلة نوعية في نموذج الإشكال نفسه. لكن الإشكال تعقَّد مع انتشار الحركة الواقعية في الفن عمومًا، وبروز سؤال الالتزام الفني engagement: هل الفن للفن أم للمجتمع؟ وهو ما ارتبط بإشكال الأصالة والمعاصرة بالتأكيد. لو كان الفن حصرًا للفن، فإن للفنان حرية اختيار الشكل والبناء، الذي يجيد فيه ويهدف إلى خلقه خلقًا بحتًا، لا يسعى إلى غاية اجتماعية أيًا كانت. أما لو صار الفن للمجتمع، بمعنى ضرورة توظيف الفنان لفنه من أجل خدمة قضية اجتماعية ما، فإن عليه عندئذٍ الالتزام بما يخدم قضيته من النواحي الشكلية والجمالية والمضمونية. في حال الالتزام، يفترق الموسيقيون كذلك إلى شعبتين: شعبة قومية، تلزِم الموسيقيين بضرورة إظهار الطابع القومي، إحياءً لروح الاستقلال الثقافي الاجتماعي والنفسي، في مواجهة التغريب؛ وشعبة تغريبية، ترى ضرورة نقل الثقافة الغربية عن طريق الفن إلى المتلقي، وإلى المجتمع عمومًا، باعتبار أن طريق التقدم واحد لا غير، وأنه يبدأ بما بدأ به – أو انتهى إليه – الغربُ.
كان هذا هو السبب في تنشيط الحاسة النقدية عند الموسيقيين العرب منذ الثلاثينات، وخاصة بعد مؤتمر الموسيقى في مصر (١٩٣٢)، لصياغة مواقف نظرية في سياق الإشكال السابق في صورته المركبة، لا تخلو من أبعاد أيديولوجية، يمكن لمسها بسهولة حتى اليوم في خطاب الموسيقيين والمهتمين بالموسيقى العربية بالذات؛ لأن المتعمقين في الموسيقى الغربية أكثر نخبوية، وأقل عددًا وجمهورًا. من نافل القول أن نشير إلى دور هذه الأيديولوجيا الموسيقية في إضعاف الوعي بالموسيقى الغربية الكلاسيكية، بل حتى الموسيقى العربية الكلاسيكية (أو المتطورة ذات الصيَغ كالسيمفونيات، والكونشرتوات،.. إلخ)، بما تقوم عليه من رفض مسبَق، أو على الأقل تجاهل ولا مبالاة، في الوقت الذي تحتاج فيه الموسيقى الكلاسيكية عمومًا إلى بال طويل من التفهّم، وتقبُّل الغريب للوهلة الأولى، ومنحه الفرصة لأن يتمثّل في الذهن، ناهيك عن قدر ضروري، وحد أدنى، من المعرفة بنظرية الموسيقى؛ في حين يمكن استقبال الموسيقى العربية التقليدية، كألحان الأغاني ومقدماتها وفواصلها، تلقائيًا، دون الحاجة إلى إنماء وعي جمالي ونقدي ونظري معين. نظرًا إلى ذلك، تراكمت المقالات والدراسات والرسائل العلمية، والأبحاث والكتب، التي تعالج هذه المسألة المعقدة، والتي هي انعكاس كذلك للافتراقات سابقة الذكر، بقدر ما هي مشارِكة فيها هي نفسها أحيانًا، وبقدر ما هي استراتيجيات، وسباقات تسلُّح موسيقية، تهدف إلى الدفاع السلبي عن أحد الجانبين أحيانًا، أو الهجوم من أجل الدفاع في بعض الأحيان. نظرًا إلى هذه الآلية الدفاعية أساسًا، تحولت انقسامات الموسيقيين سابقة الذكر إلى حروب خنادق trench warfare، حيث تستمر الحرب في شكلٍ غريب، دون انتصار أو انسحاب، بلا تقدم ولا تراجع، مع بعض الهُدنات المؤقتة.
نستعرض فيما يلي وجهًا من حروب الموسيقيين من خلال أربعة نصوص مهمة في الفكر الموسيقي العربي المعاصر منذ الأربعينات حتى اليوم، مركزين في ذلك على المؤلفات ذات الأبعاد النظرية، والتي تتعلق بالإشكال السابق. أي أننا سنتجنب في هذا المقام إدراج الدراسات العلمية البحتة المتعلقة بنظرية الموسيقى، والتي لا تتطرق إلى الأبعاد الثقافية لها. كما سنتجنب المقالات الخفيفة، التي لا تفي بالبناء الشامل لموقف كاتبها. سنركز بدرجة أكبر على المؤلفات، التي تحاول تأسيس موقف نظري كُلّي، ما يندرج عادةً تحت عنوان فلسفة الموسيقى بمعناها الأشمل. من خلال هذا العرض النقدي التالي يمكن لنا، ليس فقط استبيان طبيعة حروب الموسيقيين، بل كذلك مدى التقدم المحرَز في فلسفة الموسيقى عربيًا. بدءًا، تجب الإشارة إلى أن فلسفة الموسيقى هي دراستها من جانب طبيعة وجودها، وعلاقتها الأساسية بمجالات معرفية أخرى كالرياضيات واللغة والفيزياء، أما الفلسفة الجمالية للموسيقى فتدرسها فقط في علاقتها بفلسفة الجمال، أي ما السبب في إحساسنا بجمال الموسيقى؟ وكيف يحدث ذلك؟ وعلاقة ذلك بأبعاد نفسية وفيزيولوجية واجتماعية، إلى آخر إشكالات فلسفة الجمال.
لم نجد محليًا، وإقليميًا، سوى عدد محدود للغاية من الدراسات في فلسفة الموسيقَى عمومًا. يرجع السبب ربما بشكل أساسي إلى عدم تفرقة كثير من الباحثين العرب بين فلسفة الموسيقى، والفلسفة الجمالية للموسيقى، فوقع خلط – كما سنرى – بين المجالين من جهة، كما انعقد أغلب الاهتمام بالبحث الفلسفي في الموسيقى – في سياق هذا الخلط – حول دراسة الموسيقى فلسفيًا في إطار فلسفة الجمال، وهو الإطار الأكثر انتشارًا بطبيعة الحال؛ نظرًا لارتباطه بالنقد الفني، وبالفن نفسه.
دراسة ثرية لنظرية الموسيقى بين الشرق والغرب للموسيقار والشاعر الدمشقي ميخائيل بن خليل ميخائيل الله ويردي، المولود عام ١٩٠٤ في دمشق، والمتوفَّى عام ١٩٧٨ في المدينة نفسها (ويردي، ١٤). تهدف الدراسة إلى توحيد المصطلح بين الموسيقى العربية والغربية، وبيان أوجه الاختلاف بينهما، وسمات التمايز القومية التي تتعلق بالطابع والمقام واللحن، وخلافه من المباحث الفرعية؛ وهي في الأصل استجابة لـ مؤتمر الموسيقى (١٩٣٢)، الذي أحدث في وقته أثرًا مهمًا، انعكس حتى على انحيازات المؤلفينَ الأيديولوجية، في سياق الكفاح ضد الاستعمار، والسعي إلى الاستقلال الثقافي، وبالتالي انطبع على أساليبهم نفسها. يناقش ويردي أهم نتائج هذا المؤتمر، وإمكانية حل الأزمات التي كشف عنها، والتي تجلت في الخلاف في وجهات النظر، بين نظرة قومية للموسيقى العربية، ونظرة عالمية إلى الموسيقى عمومًا (ويردي، ١٥).
هو ذلك الخلاف، الذي يمكن لنا تشخيصه في افتراق الموسيقى العربية التقليدية – لا الكلاسيكية، انظر الخاتمة – إلى مدرستين رئيستين: أولاهما مدرسة عالَمية، تدمج الطابع والمقام الشرقيين بطابع وإيقاع وأساليب غناء غربية، وتدعو إلى تخليص التلحين من الزخارف الكثيفة، التي تحجب صفاء اللحن وبساطة الفكرة؛ وهي الدعوة نفسها، التي نهضت عليها المدرسة الكلاسيكية في الموسيقى الغربية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، ضد زُخْرُف الباروك ومنمنماته الباذخة وهارمونيته المدوِّخَة، نحو بناء رياضي بسيط وواضح، يمكن فهمه بالنظرة الأولى، أقرب إلى البداهة الرياضية. البناء الذي تجلى بأعلى درجات النقاوة على يد موتسارت (+١٧٩١). أما المدرسة المناوِئة في الموسيقى العربية فتتحرَّى الأسلوب العربي الأصيل، وتعتبر تلك الصنعة جزءًا لا ينفصل عن شخصيته المميَّزة. قد يكون زعيم المدرسة الأولى محمد القصبجي (ت ١٩٦٦)، وعلى رأس الثانية رياض السنباطي (ت ١٩٨١)، بينما يتربع سيد درويش (ت ١٩٢٣) ربما على رأس المدرستين معًا، عصيًا على التصنيف، مُجيدًا في كل الأشكال الموسيقية التي عرفتْها الموسيقى العربية، ومُنتجًا لأعمال يمكن تصنيفها في الاتجاهين، كمركّب أطروحة. ربما اختارت أم كلثوم أن تكمل مشروعها الفني الممتد، واسع المدى وبعيد الطموح، مع السنباطي، لأن الأخير، وبسبب توجهه الموسيقيّ التأصيلي المائل إلى الزخرفة، كان أقدر على إظهار إمكاناتها الصوتية البحتة، مع قدر عالٍ من الاستعراض، إذا ما قورن بالقصبجي، الذي كان يضحّي بالزخارف والجوانب المهارية في سبيل الوحدة الفنية للعمل.
بيد أن تلك الدراسة على عمقها وشمولها ودقتها وعِلميتها، ومبتغاها البعيد، وبرغم كونها تحمل عنوان فلسفة الموسيقى العربية، فإنها لا تتعلق بشكلٍ دقيق بفلسفة الموسيقَى، ولا حتى بالفلسفة الجمالية للموسيقى، بل تندرج بكل تأكيد في سياق أهم الدراسات العربية – في وقت صدورها في الأربعينات على الأقل – في نظرية الموسيقى والنقد الموسيقيّ.
جاء هذا المقال الطويل، الذي قدر له أن يصدر في كتيب من أهم ما أُنجِز في موضوعه عربيًا، وبقلم مفكّر مُلِمّ بأسس نظرية الموسيقى، وبأهم خصائص التأليف الكلاسيكي الغربي، كاستجابة للجدل الدائر بين معسكرَي الفن للفن والفن للمجتمع، الشهير في سياق انتشار مذهب الواقعية عربيًا في الفن بعمومه. يحاول فؤاد زكريا (ت ٢٠١٠) توفيق الوجهتين، باعتبار أن الخلق التلقائي لا يتعارض مع كونه محدد الهدف، أو موجَّهًا (زكريا، ٣-٥)؛ وهي ليست محاولة نظرية بحتة، بل تهدف أصلًا إلى الدفاع عن المدرسة الرومانسية، التي دان بها أستاذُ المؤلفِ عبد الرحمن بدوي (ت ٢٠٠٢) كذلك، وصدَّ الانتقادات، التي وجهتها الواقعية الاشتراكية في وقته، إلى المبادئ الرومانسية، والتي صارت لها السيادة بعد تقعيدها على أيدي عباس العقاد وإبراهيم المازني أساسًا منذ العشرينات، بعد صدور الديوان في الأدب والنقد (١٩٢١)، وحتى مقتبَل الخمسينات تقريبًا في العالم العربي (العقاد، ٣)٤. هذا الموقف المنحاز إلى الرومانسية واضح كذلك في اتخاذه أمثلته من أعمدة الموسيقى الرومانسية المبكرة، والمتأخرة، أكثر من غيرهم، كبيتهوفن وفاجنر (زكريا، ٣٤، ٤٣، ٧٥)، أو أعمدة ما بعد الرومانسية: سيبيليوس وريتشارد شتراوس ورحمانينوف (زكريا، ٥٩). تتضمن الدراسة محاولة المؤلف الدقيقة في تمحيص الإشكال، وتوجيه انتقادات عميقة إلى المدرستين معًا، وإعادة صياغة نموذج الجدل، مع محاولة تشخيص أسباب أزمة الموسيقى العربية.
هذا المصنف ليس في فلسفة الموسيقى بالمعنى الواضح أعلاه، فهو يبدأ بطرح قضية طبيعة الموسيقى (زكريا، ٨-١٩)، لكنه لا يخرج عن الاعتبار الفني للموسيقى، ولا يناقش أهم إشكالات فلسفة الموسيقى كمجال مستقل. حتى حين يطرح بعض العناوين الرئيسة في فلسفة الموسيقى، مثل العلاقة بين الموسيقى واللغة، فهو يعني في الأصل أهم أساسيات نظرية الموسيقى من الإيقاع واللحن والهارموني وما إلى ذلك، باعتبارها “لغة الموسيقَى” (زكريا، ٢٠-٣٠). ربما كان الفصل الخاصّ بـ المعنى في الموسيقى، الذي يناقش إمكانية وجود موسيقى لا موضوعية بحتة، هو الذي ينتظم فعلًا في سياق إشكالات فلسفة الموسيقى (زكريا، ٣١-٤٥). لهذا يتعلق المصنف أساسًا بالفلسفة الجمالية للموسيقى، ونظرية الموسيقى والنقد الفني، أكثر مما قد يَطرح إشكالات فلسفة الموسيقى. الأهمية الرئيسية للمصنف، إذا وُضع بالذات في سياق يضمه مع المصنف السابق لخليل ويردي، هي تبسيطه لنظرية الموسيقى، وقدرته على نقد إشكال توظيف الفن بعمقٍ يقترب من الجذرية. في النصف الثاني من المقال يعلن المؤلف موقفه الخاص من الموسيقى الشرقية بعامة: “ليس لدينا في الشرق فن موسيقيّ بالمعنى الصحيح” (زكريا، ٦٦)، ذلك أن الفن الموسيقي الصحيح من وجهة نظره هو الذي يستطيع الوقوف على قدميه دون اتّكاء على فن آخَر كالشعر، أو الرقص، وأغلب إنتاج الموسيقى الشرقية مصحوب بالغناء أو الحركة (زكريا، ٦٦-٦٧).
هذا المصنف في الأصل رسالة الدكتوراه للدكتورة ريّان تحت إشراف د. أميرة مطر، ود. فؤاد زكريا، وهو – كما توضح د. ريان بنفسها – ينحصر في الفلسفة الجمالية للموسيقى في أوروبا في القرن التاسع عشر (ريان، ١٧). ينقسم المصنف إلى بابين: الفلسفة الجمالية للموسيقى في القرن التاسع عشر، والمشكلات الجمالية للموسيقى في القرن التاسع عشر؛ وهو بيِّن بذاته أن موضوع هذا المصنف لا يندرج بشكل دقيق في فلسفة الموسيقى، لكنه يعبّر مباشرةً عن انحياز أيديولوجي في السياق سابق الذكر. ترى المؤلفة في التقديم أن أهمية هذا البحث نابعة من الحاجة إلى “نشر الوعي الموسيقي الجادّ (…) هذا الوعي الكفيل بمحاربة كل مظاهر التخلف الموسيقي”، وهو إعلان حرب واضح ومباشر كما نرى، وانسلاك في جبهة أستاذها فؤاد زكريا، الذي نفى من الأصل أن يكون للموسيقى العربية وجود بالمعنى الصحيح. مع ذلك يقدم المصنف قائمة مهمة بالمصادر والمراجع الأجنبية، وبالنصوص الفلسفية الهُمَّى في فلسفة الموسيقى، كما يقدم تحليلًا نقديًا لعدد من أهم المذاهب في الفلسفة الجمالية للموسيقى في الحقبة الرومانسية في أوروبا.
المصنف الأحدث صدورًا في هذه القائمة المرتبة زمنيًا للباحثة الموسيقية الجزائرية عائشة خلاف. ينقسم الكتاب إلى جزأين متصلين في الواقع، كما يمكن لنا تحليلُه بشكل عامُّ: يبحث المصنف أولًا الظاهرة الموسيقية من جهة نظرية الموسيقى، ومن جهة علاقتها بالرياضيات واللغة، وثانيًا يدرس الأصول الثقافية للمفاهيم الأساسية في نظرية الموسيقى، محاولًا ربطها بالتراث، وخلافَ ما عُهِد عليه مِن إطلاقها، كأنها نظرية عالمية واحدة، كنظريات الفيزياء أو الرياضيات. يتضح ذلك من موضوعات الكتاب الرئيسة: مفهوم التراث الموسيقي في المقدمة، ثم منابع الصوت، في الفصل الأول، ثم الرقم والهندسة واللغة في الفصول الثاني والثالث والرابع، على الترتيب، ثم النغمة والسلم في الفصلين الخامس والسادس، وأخيرًا البناء التوافقي لآلة العود والإيقاع في الفصلين السابع والثامن. رغم أن هذا المصنف يتقاطع مع بعض إشكالات فلسفة الموسيقى، فهو يطرح جميع هذه الإشكالات من زاوية موسيقية بحتة. مع ذلك للمصنف أهميته في الجوانب المتعلقة في الدراسة بنظرية الموسيقى، وأصولها الثقافية. لكن بحث الأصول الثقافية للموسيقى بطبيعته أمر شائك، ولا بد من أن يزجّ بالمؤلف في قلب تلك الحرب، بسبب الاستدعاء التلقائي المتبادَل بين ثقافة الموسيقى، بمعنى تأثير الثقافة على الموسيقى، وموسيقى الثقافة، أي التأثير العكسي من الموسيقى إلى الثقافة؛ ما مِن شأنه أن يطرح أسئلة حول دور الموسيقى في تشكيل الثقافة في السياق الخلافي موضوع المقال.
حين أقرأ كلمة الثقافة – في سياق النقد الموسيقي – أتحسس مسدس الخصم، لا مسدّسي؛ في محاولة لتفادي الوقوع في الصراع الأيديولوجي، غير الموضوعي، الذي يربط بين الموسيقى وبين التحركات الاجتماعية الصاعدة والهابطة. يعيق مثل هذا الصراع تطويرَ الموسيقى المحلية، أيًا كان الجانب الذي نتخذه فيه، بين متخندِقَينِ في الأرض نفسها، يظن أحدهما أنها أرضه الأصيلة، وأن غيره مُحتَلّ، ويظن الآخَر أنه صاحب رسالة شبه نبوية في التطوير، وأن خصمه مُخْتَلّ. طالما ظلت هذه الحروبُ حروبَ خنادق، ولا حل لها سوى إبادة الطرف الآخَر، سوف يبقى الوضع كما هو عليه: نَزيف نظري بلا نهاية. سوف يبقى الأمر على حال حروب الخندق، دون تعاوُن الطرفين، ولا الاستفادة المتبادَلة بينهما، وبحيث يزيد خندق الأنا من خندق الخصم، عمقًا، وبُعدًا. يبدأ الحل بأن نفهم طبيعة الحل، ولا يمكن أن تكون طبيعة الحل بالإحلال، بإزالة الطرف المقابل. طبيعة الحل الحقيقي هي الخروج من الخندق، ومعالجة الموسيقى أولًا وأخيرًا كفنّ، عليه أن يستقل كفن، وأن يتطور كفن، قبل محاولة توظيفه اجتماعيًا.
من بدايات الطريق المستقيم نحو حل جذري: المصطلح، فقد استعملنا تعبير الموسيقى التقليدية العربية للإشارة إلى أعمال الموسيقيين المصريين المذكورين أعلاه، كدرويش والسنباطي والقصبجي، تمييزًا لها عن الموسيقى الكلاسيكية العربية: كأعمال عزيز الشوان وكامل الرمالي وأبي بكر خيرت، وعطية شرارة وحسن شرارة وعبد الحليم نويرة، ورفعت جرانة وحسن رشيد ويوسف جريس، وغيرهم. أحيانًا يستعمِل الوسط الفني الموسيقي المصري تعبير “الموسيقى العربية الجادَّة المتطورة”، أو “الموسيقى العربية ذات الصيغ” بدلًا من الموسيقى العربية الكلاسيكية؛ وكما هو واضح فالأول تعبير يحمل بعدًا قيميًا، والثاني جامع غير مانع، حيث للموسيقى العربية التقليدية كذلك صيغ: كالموشح والطقطوقة والموّال، والدور والمونولوج والديالوج والترايالوج وغيرها (نصار، ١٩٩٧)٧. صيغ محددة، لكن الذي يفرقها عن الكلاسيكية أن جوهر الكلاسيكية، غربية كانت أو عربية، هو الاشتقاق اللحني، وليس الصيغة. الحركة الرابعة مثلًا من تاسعة بيتهوفن (الكورالية، مصنف ١٢٥، مقام ري الصغير) متحررة من الصيغة، وكذلك الحركة الرابعة من ثالثته (إيرويكا، مصنف ٥٥، مقام مي بيمول الكبير)، وعلى ذلك حركات وأعمال كثيرة فيما يسمى بـ الموسيقى الكلاسيكية الغربية بلا جدال (الصياد، ٢٠١٩).
يعني الاشتقاق أن يتم بناء الحركة من العمل على أساس وحدات أولية محدودة، وبسيطة، تتطور وتتراكب وتنمو، إلى أن تصير بناءً كاملًا، وذلك دون إضافات لحنية جديدة منبتة الصلة، أو ضعيفتها، بالمكونات الأوّلية. باختصار الموسيقى الكلاسيكية رأسية بشكل أساسي، تَبنِي طوابقَها على أساس واحد في البداية، ولا تضيف إليه جديدًا جوهريًا أجنبيًا، أما التقليدية فهي أفقية غالبًا، تعتمد على تجاوُر الألحان في عقد معين منظوم، كالقصيدة العمودية (البيت وحدة القصيد). هنا يقع التجاوُر اللحني، نقيض الاشتقاق اللحني. إلى مدًى أبعَد، ولتحقيق قدر أكبر من توحيد المصطلح بين الموسيقى، وبين الشعر العربي، يمكن القول أن أساس البناء في الموسيقى العربية هو النَّظْم، بالمعنى نفسه الذي لنظرية النظْم في البلاغة، وأن جوهر البناء في الكلاسيكية هو التأليف. انعكاسٌ ربما لعقلية سامية، تجاوُرية نظمية، وعقلية آرية، تعاقُبية، تأليفية؛ وهو وصف بِنية لا حُكم قيمة. لا بد أن نذكر كذلك أن تعبير الموسيقى التقليدية العربية، الذي نقترحه، يتجنّب البُعْد القيمي في تعبير كلاسيكية، فحين نقول (من اللاتينية): نصّ كلاسيكي Locus classicus فنحن نعني النص، الذي تحول من عمل فني إلى مذهب فني، أو قاعدة يقاس عليها (كالمتنبي مثلًا بالنسبة للأدب العربي، أو شكسبير في الإنجليزية، أو جوته في الألمانية، إلخ). هكذا نتجنب خطر سيادة أعمال معينة، وتحولها إلى أصنام فنية، على التناقض الأصلي بين الإبداع وبين التصنيم؛ وهو السبب في قدر كبير من احتقار بعض النقاد، والمتلقينَ، للموسيقى الشابة بأنواعها، وإعراضهم عن محاولات التجريب. تبقى لفظة كلاسيكية متعلقةً فقط بطريقة بناء معينة للعمل الموسيقيّ أساسها هو الاشتقاق اللحني.
إذًا، ومع توضيح هذا الفرق، لا معنى للتخندق في هذه الحرب التي لا تنتهي، ولا غاية للحرب ذاتها، فالاشتقاق موجود على الطرفين: الشرقي، والغربي، والتفاوت بينهما كمي، لا كيفي. التفاوت واقع في نسبة المؤلفات الاشتقاقية (الكلاسيكية) الأغلب في الغرب، مقارنةً باللحنية التجاوُريّة (التقليدية) الأشيع في الشرق. من الممكن دائمًا إنتاج موسيقى محلية، في مقام شرقي، تحمل صيغة عربية أو تركية، ويقوم فيها المؤلف بتطبيق تقنية الاشتقاق اللحني. لا مانع من أن نؤلف موشحًا أو دورًا، نمارس فيه هذه التقنية. من الممكن أن يكون العمل كلاسيكيًا بمعنى الاشتقاق اللحني، وهو في ذات الوقت مصحوب بالغناء أو الرقص، كما لا نجد حرجًا في اعتبار الأوبرا وموسيقى الباليه أعمالًا كلاسيكية. في هذه الحالة يحمل العمل الطابع، والصيغة، من حيث محلّ المنشأ، لكنه كذلك كلاسيكي من حيث البناءِ وعلاقةِ الألحان، بعضِها ببعض. تداخُل الخنادق يردم الخنادق، ويُنهِي الحرب.
١. Goodman, Nelson, 1968, Languages of Art, Indianapolis, IN: Hackett; second edition, 1976.
-See also: Predelli, Stefano, 1995, “Against Musical Platonism”, British Journal of Aesthetics, 35(4): 338–50. doi:10.1093/bjaesthetics/35.4.338.
-See also: Predelli, Stefano, 1999, “Goodman and the Score”, British Journal of Aesthetics, 39(2): 138–47. doi:10.1093/bjaesthetics/39.2.138.
-See also: Predelli, Stefano, 2001, “Musical Ontology and the Argument from Creation”, British Journal of Aesthetics, 41(3): 279–92. doi:10.1093/bjaesthetics/41.3.279.
-See also: Caplan, Ben & Carl Matheson, (2004), “Can a Musical Work be Created?” British Journal of Aesthetics, 44(2): 113–34.
٢. ويردي، ميخائيل: فلسفة الموسيقى الشرقية – في أسرار الفن العربي، دار ابن زيدون، دمشق، ١٩٤٩. في الكتابات عنه جرى اختصار اسمه إلى ميخائيل خليل الله وِيرْدِي، نظرًا إلى غرابة إضافة ميخائيل إلى الله عربيًا، وهو الذي وَشَّى كتابه أعلاه بآيات قرآنية، وتعبيرات إسلامية (انظر مثلًا: ويردي، ١٧).
٣. زكريا، فؤاد: التعبير الموسيقي، مكتبة مصر، القاهرة، ٢٠٠٩.
٤.العقاد، عباس محمود، وإبراهيم عبد القادر المازني: الديوان في الأدب والنقد، دار الشعب للصحافة والنشر والتوزيع، ط٤، ١٩٩٧.
٥. ريان، آيات: فلسفة الموسيقَى وعلاقتها بالفنون الجميلة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط١، ٢٠١٠.
٦. خلاف، عائشة: فلسفة الموسيقى– التجربة الحسية والجمالية للصوت، دار الوراق للنشر، لندن، ط١، ٢٠١٣.
٧. نصار، زين: الصيغ الغنائية في الموسيقي العربية، مجلة الفنون، عدد ٦٤، ١٩٩٧.