fbpx .

كهلوسات حالم محموم

من الممكن أن تصنعي شيئاً ليس موجوداً“1، كانت نصيحة صانع العود إلياس جبران إلى ابنته كميليا. هذه الكلمات أصبحت دافعاً ومنارة في رحلتها الفنيّة. عُرفت كميليا بأنها دائماً ما تناقض التوقعات، وأنها تستمر بترك أمكنة نجاحاتها، وترتحل منها نحو أصوات وتركيبات جديدة. هكذا كانت دوماً منذ بداية مشوارها الفني فيصابرين، حيث كانت المغني الأساسي لعشرين عاماً (1982-2002). كما تستذكر كميليا، القلة القليلة من الناس التي فهمت أسطوانتهم الأولىدخان البراكين” (1984)، وكانت تُسأل كثيراً: “ما هذه الموسيقى؟“. لتستمر بتحدي مستمعيها والسير على نفس الطريق الوعرة بشراكتها مع ڤيرنر هَسلر في اسطوانتيهما (وميض 2005، ونبني 2010) وبأعمالها الفردية. واليوم، تقدم لنا كميليا أسطوانةنول“: العمل الأخير في سلسلة أعمالها الغنية والمتنوعة

الاسطوانة نتاج تعاون مع عازفة الكونتراباص والموزعة سارة مورسيا. وهي صديقة قديمة لكميليا عملت على مشروعصابرينفي العام 1998. هكذا يكوننولنتيجة علاقة طويلة المدى تعلمت فيها كلا العازفتين تدجين موسيقى الأخرى، والمساهمة، بتكافؤ، في خلق عمل متكامل. ففي وقت تسيطر فيه مورسيا على المقامات والتواءات النغمات متناهية الصغر التي تتمثّل فيها الموسيقى العربيّة، تسيطر كميليا على سلسلة نظريّات الموسيقى الغربية، وتقنيات الارتجال في الجاز الحر. اللغة الموسيقية الجديدة المنبثقة عن هذا التعاون هي حوار محاك بأقصى درجات الجمال بين العود والكونتراباص، حيث تتبادل الآلتان أدوار الدعم والظهور لتقديم ارتجالات على مقامات جديدة تتجاوز حدودالشرقيوالغربي“. 

إيقاعيّاً، نجد العمل مفصّلاً ومتّسعاً، ومبتعداً عن الأشكال المألوفة، حيث تتحرك كل أغنية بصورة طبيعيّة وبسرعات متغيّرة ولهجات موسيقيّة غير قياسيّة تحافظ على توتّر محسوس يشدّ المستمع ويبقيه منتبهاً لكل جملة. بين الدورات الإيقاعيّة غير المنتظمة، والتوزيع الوتريّ الصعب والدقيق المضموم إلى حجاب نغمي مركزي، لا يجد المستمع مرجعيّة مألوفة ليلجأ إليها. لذا، يبقى الخيار الوحيد هو أن يستسلم المستمع لموسيقى لا يمكن السيطرة عليها والخضوع لسحر هذه الحكاية الفاتنة

هذا هو العمل الذي قدمته كميليا جبران وسارة مورسيا يوم الجمعة الماضي 15 شباط/فبراير في الأمسية الخامسة من مهرجان باريس ‘Au fil des voix’، أحد معالم الحياة الثقافيّة في باريس، والمكرس لعرض الأعمال الأكثر ابتكاراً من الحوض الأطلسي وأفريقيا وهايتي

بكتومة وتواضع، وبحضور مسالم ومطمئن، وملابس داكنة تعكس رصانة شخصيتها، تظهر كميليا على المسرح بعد سارة مورسيا التي كانت تدوزن آلتها الكونتراباص الضخمة. تقترب كميليا من الميكروفون وتهمس بهدوءمساء الخيرلتحيّي جمهوراً صغيراً لا يعرف ماذا يتوقع. نظرة متفاهم عليها بين الموسيقيتين وتبدآن في المقطوعة الأولى، وهي دور لأحد آباء جبران الموسيقيين: سيد درويش. اسم المقطوعة الأصليضيّعت مستقبل حياتي، وتقدمها كميليا ببساطة تحت عنوانحياتي، وكأن تأويل المقطوعة المبسط والقاصر على العود والباص والغناء يدعو لعنوان مبسّط أيضاً يعكس التوزيع المُعرّى الذي سمح لعاطفية أداء جبران لرائعة درويش بأن تملأ كل مساحة القاعة

منذ البداية، تذكّرنا كميليا بجذور موسيقاها، وترينا كيف تتفرّع هذه الجذور لتغطّي مساحة أكبر بكثير من التراث الذي تمتد منه. الرسالة واضحة: يجب أولاً إتقان الأساسيات والسيطرة عليها قبل الانطلاق عنها، هذه هي المعادلة الموثوقة للحريّة الفنية. التواطؤ بين كميليا وسارة غير محكي وعميق، ابتسامة بعيون مغلقة وإيماءة من اليد كافية لتعزز الوثاق وتغذّي التآزر. لتنتهي المقطوعة كما بدأت، بهدوء وبساطة، بلا نهايات فخمة أو قفلات محكمة

للمقطوعة الثانية، تجلس كميليا وتحمل عودها، ثم ينضم إليها قسم الوتريّات على المسرح. لتقدم كميليا أغنيةليتني، وهي قصيدة من تأليف صديقها سلمان مصالحة كانت قد غنتها في أسطوانةمكانتحت عنوانلفظ“. هنا نجد جهة أخرى من طبيعة أعمال كميليا، اختيار قصائد معاصرة تتفق وتتكلم مع تجربة كميليا الشخصية

تقول القصيدة:

ليتني لغتي

لأعرف ما ثوى في القلب

أفصح كل ما عندي

يعكس أداء كميليا هنا البحث عن الأصالة الشخصية. كفنانة اعتنقت وصف الـتجريبيّة، تشطح روح كميليا الموسيقيّة بعيداً، مع المحافظة على ملامح أصولها طيلة الوقت: “أدركت أنني أحب أن أغادر، أحب أن أغادر بيتي، أن أعبر حدوداً، أن أخرج من هذا السجن، من هذا المنغلق“2. هذا سبب آخر لصعوبة إمساك وفهم موسيقى كميليا، حيث أنها تهرب باستمرار من أي  محاولة لعنونة أعمالها ضمن صنف موسيقى. هناك تلاعب مستمر بالقوانين المتريّة والإيقاعيّة والنماذج يسمح لكميليا أن تبقى حرة من أي بنية محددة

فيكم، تضع كميليا أساسات الأغنية باستخدام أوستيناتو على باص العود في إيقاع 9/4 الذي يستمر طيلة الأغنية. هذا التبسيط المتبدي مضلِّل، فسرعان ما تدخل الوتريّات المختلفة لتنضم إلى العود، ليخلق هذا الخليط نسيجاً غنياً ومعقداً يتصاعد إلى ذروة محكمة. فيما بعد، يأتي دور سارة لتنطلق في ارتجالها بينما تدعمها كميليا بنظرة دافئة والأوستيناتو نفسه

هذا التراكم كان تحضيراً للجزء الأكثر تجريبيّة في العرض: ثلاث قطع مبنية على قصائد بدويّة من صحراء النجف وسيناء، تُغنى بعَروض يذكرنا بالفن المسرحي المعاصر. الوتريات تعطي كميليا خلفيّة تحيي فوقها كل كلمة من هذه القصائد بصدق تام. تصبح الأجواء أكثر توتراً وظلمة، وكأنها مسيرة جنازة، أو هلوسات حالم محموم. المقطوعة تأخذنا إلى مكان لا نعرفه. الطريق موحشة. الوتريات الآن تبني صعوداً متسلسلاً ويبدو أننا نقترب من هدفنا، ولكننا بعيدون كل البعد عن البيت، عن مواقع اطمئناننا وراحتنا. بين حين وآخر، تفرض الوتريات نفسها كعلامات ترقيم هادئة. تهمس كميليا، ثم تعود وترفع صوتها لتحتويه مرة أخرى. كل هذا التغيرات في الديناميكيّة تحافظ على الأجواء المريبة. نهاية الحركة الثالثة تقترب والموسيقى تتباطأ، مقام متضائل diminuendo آخر وتكتمل الدائرة، ينتهي العرض بتواضع وخجل كما بدأ، تاركاً إيّانا بأسئلة أكثر من الأجوبة

مرتحلة مع عودها وصوتها وفضولها، تستمر كميليا جبران بتحدي كل الكليشيهات السائدة عن الموسيقى العربية. كمؤلف حداثي بامتياز، تصبح كميليا مثالاً على كلمات المفكر المصري أمين الخوليإن أول التجديد هي أن نقتل القديم عبر البحث“. نحن نعرف من أين تأتي كميليا، والرب فقط يعرف أين ستأخذنا. ولكن حقيقة واحدة تم تأكيدها تلك الليلة: نحن مستعدون لأن نتبعها هناك.

يمكن مشاهدة الحفلة على هذا الرابط:

http://liveweb.arte.tv/fr/video/Kamilya_Jubran_Sarah_Murcia_Festival_Au_fil_des_Voix/

الهوامش:

1 من مقابلة مع الفنانة على إذاعة فرانس إنتر بتاريخ ٢٩ كانون أول ٢٠١٣

http://bit.ly/Xw7ZmB

2 من بورتريه نشر على موقع Arte

http://www.arte.tv/fr/content/tv/02__Communities/C2-arts_20and_20music/02-Magazine/19__Journal__de__la__culture/08__musique/70__jubran/745128.html

المزيـــد علــى معـــازف