.
يمنع الدستور المصري إنشاء أي نقابة موسيقيين غير التي يرأسها هاني شاكر، التي يحبس قانونها أي فنان لا يدفع للنقابة، ما يمثّل زنقة للموسيقيين يصعب الهرب منها. ليس الأمر كذلك في معظم الدول الأوروبية، التي ترى في تعدد النقابات الموسيقية تنافسًا لإسعاد الفنان والوصول إلى أكبر حماية له، من توفير محامٍ متخصص لمراجعة العقود وصولًا إلى مساعدته في النزاعات مع شركات الإنتاج.
في مصر، يصيب نقابة المهن الموسيقية الوحيدة عطلٌ لمجرد ظهور أي نوع جديد من الموسيقى، مثال لذلك موسيقى الميتال، والدي جاي والمهرجانات، ومؤخرًا الراب. لطالما أعلن النقيب عجزه أمام المنصات الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي، المنفّذ المستقبلي لشكل جديد من الموسيقى قادر على الانتشار بغير الطرق التقليدية التي تستطيع النقابة منعها، بناءً على معايير أبرزها الطرب.
“خفة تَعْتَري المرء عند شدَّة الفَرَح أَو الحُزن والهمّ”، هذا تعريف معجم لسان العرب للطرب، وهو تحدٍّ غير مفهوم تطرحه نقابة المهن الموسيقية لمواجهة أي نوع جديد من الفن. لو كان هذا تعريف الطرب، فهو بالتأكيد ما يشعر به كل محبي المهرجانات وأشكال الموسيقى الجديدة.
لكي نقطع أي شك فالقانون لا يعطي الحق لنقيب الموسيقيين بمنع أي فنان، وكقانوني متخصص في الأعمال الفنية أتعجب كثيرًا في كل مرة يُصر فيها نقيب الموسيقيين على أن يعين من نفسه مُشرعًا، وقاضيًا، وشرطيًا يملك سلطة الضبطية القضائية.
في ٢٠١٦ أصدرت محكمة القضاء الإداري حكمًا واجب النفاذ يحدد دور نقابة المهن الموسيقية في تحصيل رسوم الأعضاء، وحماية مصالحهم، وليس لهم أي دور رقابي، وليس لهم الحق في المنع، وتقييم الأعمال الفنية متروك للجمهور، والفضل فيه كامل لمن ابتكره وأبدعه. صدر هذا الحكم تحديدًا لإلغاء قرار وزير العدل الأسبق أحمد الزند، بمنح هاني شاكر واثنين أخرين في نقابة المهن الموسيقية سلطة الضبطية القضائية.
بعد هذا الحكم صدرت قرارات من هاني شاكر بمنع العشرات من المطربين في مخالفة صريحة لأحكام القضاء، وهو ما يستوجب طبقًا لقانون العقوبات الحبس والغرامة والعزل من الوظيفة، بالإضافة إلى أنه يعد تعديًا على اختصاص الرقابة على المصنفات الفنية، وهي الجهة الوحيدة التي لها الحق في منع عمل موسيقي من التداول.
تؤدي كثرة قرارات المنع إلى جعل الجمهور والفنانين في شك من حقهم في الاستمتاع بالأعمال الفنية أو أدائها، رغم أن منعها غير قانوني ويأباه أي منطق.
يحاول نقيب المهن الموسيقية طمأنة الرأي العام بعبارته الشهيرة: “بحبكو كلكو”، بعد استصداره قانونًا يضمن له صفة مأمور الضبط القضائي. كما يدّعي النقيب دائمًا أن من سيقوم بتنفيذ القرار هم الشرطة، رغم أن القرار يسمح له بأن يكون هو نفسه من يقوم بالقبض على الفنان “المتهم” الذي لا يقوم بدفع رسوم نقابة المهن الموسيقية، التي تصل الى ١٠ آلاف جنيه للمصري (١٥٠٠ دولار أمريكي تقريبًا)، و٢٠ ألف جنيه للأجنبي (٣٠٠٠ دولار أمريكي تقريبًا) لكل حفلة.
تتناقض أفعال النقيب مع محاولات الطمأنة. نذكر من ذلك ما حدث مع بداية سنة ٢٠١٨ حين أعلنت نقابة المهن الموسيقية التنسيق الكامل مع وزارة الداخلية للقبض على مغني المهرجانات. أكثر من ١٠ قضايا فُتحت وأُصدرت فيها أحكام قضائية سريعة، مثل الحكم بعامين على مطربي مهرجان زقه زقة، ومن بعدهم المطربة شيما التي اضطرت إلى حضور محاكمتها بالنقاب لتخفيف الحكم عليها من عامين لعام واحد، لنشرها كليب تسكب فيه اللبن على قطعة موز.
في الوقت الذي كانت تناقش فيه لجنة الثقافة والإعلام قانون الضبطية القضائية لنقابات المهن الفنية، كان هاني شاكر يصدر قرارًا بمنع أكثر من ١٠ مطربين من الغناء، على رأسهم حسن شاكوش، إيذانًا ببدء عهد جديد من المنع.
قد يرى البعض أن قرار منع شاكوش جاء لإلهاء المطربين عن مناقشة قانون الضبطية القضائية، ويرى آخرون أن هذا الطرح مجرد نظرية مؤامرة، وأن الموقف عبثي بالكامل. إلا أن خبر الصفحة الرسمية لشعبة هندسة الصوت في نقابة المهن السينمائية يؤكد علم هاني شاكر بالقانون من شهر سبتمبر ٢٠٢١، أي قبل صدوره بثلاثة أشهر على الأقل، وبالتأكيد أُعلم فيه لمناقشته، وبدلًا من إدخال المطربين في هذا النقاش رأى أنه من الأفضل منع شاكوش وشغل الرأي العام به ومن ثم تمرير القانون دون تغطية كافية يستحقها.
لفهم أكبر لسياسة هاني شاكر داخل النقابة علينا العودة إلى بداية بروز اسمه في هذا السياق.
مع اندلاع ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١، حدث ارتباك في وضع النقابة خلّف مخالفة قانونية تلازم كل انتخابات جديدة للنقابة. بعد الثورة انتُخب إيمان البحر درويش نقيبًا للموسيقيين خلَفًا لمنير الوسيمي، حيث كان الأخير محسوبًا على النظام المخلوع. في ٢٠١٢ قررت الدولة وقف الانتخابات في النقابة، بدأت بعد ذلك المخالفة القانونية التي نتحدث عنها. وقتها اتهم درويش أعضاء نقابة المهن الموسيقية بالفساد، ليجتمع ١٢ من مجلس النقابة ويسحبوا الثقة منه، بحيث يصبح مجرد عضو عادي، رغم عدم امتلاكهم صلاحيات سحب الثقة في الأساس. أقيمت بعد ذلك انتخابات جديدة في أيار / مايو من ٢٠١٣ وجرى انتخاب مصطفى كامل للمنصب، قبل أن يستكمل درويش مدته، إضافة إلى أن مصطفى كامل لم يسلم من شبهات بطلان شرعية ترشحه أصلًا بسبب عدم مرور ١٠ سنوات على قيده في النقابة.
تحدى درويش بعدها قرار سحب الثقة منه أمام مجلس الدولة وحكمت المحكمة لصالحه مبطلةً انتخاب مصطفى كامل بعد أقل من شهرين من توليه المنصب؛ وخلال محاولة منه لتنفيذ قرار المحكمة مُنع درويش من دخول النقابة، ما دعاه لتحرير محضر في قسم الشرطة، وصرح بعدها بأمر خطير، وهو وجود “مستندات تدين البعض منهم بالتورط فى قضايا فساد في النقابة، ولذلك فهم يحاولون منعى بشتى الطرق وإبعادى عن النقابة”، بحسب قوله. لم يُنفّذ حكم المحكمة واستمر مصطفى كامل في منصبه، رغم رفض طعنه في الحكم الصادر لصالح درويش.
أُجريَت انتخابات جديدة عام ٢٠١٥، واستطاع درويش مرة أُخرى الحصول على حكم محكمة ببطلانها، خوفًا من فوز مصطفى كامل مرة أخرى، إلا أن الفائز هذه المرة كان هاني شاكر حكم محكمة القضاء الإداري الصادر بجلسة ٢٠١٦/٥/٨ فى القضية رقم ٦٠٢٣٧ لسنة ٦٩ قضائية.. تعني هذه المعلومات بطلان تولي هاني شاكر بعد الحكم ببطلان إجراء الإنتخابات، حيث أن القاعدة القانونية تؤكد على أن ما بُني على باطل فهو باطل.
لماذا، حتى اليوم، لم ينفذ حكم المحكمة بعودة إيمان البحر درويش نقيبًا للموسيقيين وبطلان انتخابات مصطفى كامل وهاني شاكر؟
بتأمُّل الموضوع يظهر رابط بين تصاعُد الشبهات حول فساد النقابة، وتصاعُد القرارات والتصريحات الجائرة من نقيبها. قبل حروب هاني شاكر على المهرجانات لم يكن حتى إيمان البحر درويش نفسه، أحد أكثر الفنانين محافظةً، يشاكل لا الرابرز ولا مغني المهرجانات، بل أكّد أن الفن مرآة المجتمع وأنه لا يجب تحميل هؤلاء الشباب أكثر من طاقتهم. كما عاشت النقابة هدوءًا واستقرارًا وفعاليّة في عهد حسن أبو السعود بين عامَي ٢٠٠٢ و٢٠٠٧، على الأقل من ناحية التهديد الشخصي للفنانين وتشجيع المحاكمات العاجلة ضد الموسيقيين. إلا أنه يُذكر منع أبو السعود لفنانين من الغناء، منهم روبي وحكيم وشيرين.
عادة ما يتشابه وضع الموسيقيين الشباب مع وضع لاعبي الكرة، من حيث السن والشهرة والثراء المفاجئ، إلا أن لاعبي الكرة يتميزون بوجود شركات متخصصة لإدارة أعمال اللاعبين، يتفرغ معها اللاعب لتحسين أدائه، وخير مثال على ذلك محمد صلاح ومدير أعماله الكولومبي المحامي رامي عباس، الذي لا تكاد صور صلاح تخلو منه في كل مناسبة ومع كل حدث، ويضع بصمته القانونية ونصائحه مع كل رد لصلاح؟ ظهر وجود رامي عباس بشدة مع أزمة صلاح الخاصة بطائرة المنتخب، وصولًا إلى مفاوضات صلاح الأخيرة مع ناديه ليفربول على عقد تجديده. بمقارنة بسيطة مع شاكوش وحمو بيكا وموسيقي الراب، نجد ارتجالًا كبيرًا يسود الموقف وعشوائية يعتمد فيها الفنان على جماهيره، وهو ما يتلاشى بمجرد صدور قرار من النقابة مغلف بحس أخلاقي وديني.
يخرج الموسيقي من مرحلة الهواية إلى الاحتراف بحماية نفسه قانونيًا، بزيادة وعيه القانوني، والاستعانة بمن هم أهل لهذه الخبرة، فهو المخرج الوحيد أمام أعمال فنية لا تقف أمامها حدود سياسية. لو أدرك الممنوعون على الأقل مدى لا قانونية قرارات هاني شاكر، وكون وجوده في مكانه نفسه محط نزاع قانوني محسوم ضده، لاختلف كل شيء. أيضًا، كل موسيقي يخرج بفنه الى الإنترنت، هو في نفس الوقت أمام خطر حذف أعماله من المنصات الإلكترونية التي تضع دستورها بنفسها، وتحكمها قوانين أجنبية.
في النهاية لن يوقف هاني شاكر أي موسيقي يسمعه الجمهور، خاصة في هذا العصر، الذي يمكن فيه للجمهور أن يسب حمو بيكا صباحًا مراعاة للأخلاق الحميدة التي يفرضها شاكر، ويرقص على أنغامه ليلًا في أفراحه.
عاجلًا أم آجلًا سيتم تنحية هاني شاكر ونقابة المهن الموسيقية من مشهد الموسيقى المصري، وعلى الموسيقيين إعداد نفسهم لهذه اللحظة التي يكونون فيها أمام شركات الإنتاج والتوزيع، فمن الآن وجود عقود عادلة هو الأساس في صناعة موسيقى قادرة على الاستمرار، ومحفزة لأشكال جديدة للإبداع.