Billie Eilish Finneas Haas Pan Ma3azef بيلي آيلش فينيز هااس بان معازف
أجنبي جديد

محيط من الصوت المحيط | عن أسلوب بيلي آيلش وفينيز

محمد أشرف ۲۰۲۱/۰۳/۲۳

عندما أصدرت بيلي آيلش ألبومها الأوّل ون وي أول فول أسليب، وير دو وي جو؟ عام ٢٠١٩، كان من الصعب التنبؤ بما سيكون له من أثر على البوب خصوصًا، والموسيقى بشكلٍ عام. شدّ الألبوم المراهقين والبالغين، مستمعي البوب وأولئك الذين يعدون أنفسهم مستمعين أكثر حنكةً. تعامل التسجيل مع ثيمات مثل كسر القلب والصحّة العقلية، واستمدّ إلهامه من كوابيسٍ وأحلامٍ واضحة (lucid dreams)، ما جعله أكثر قربًا للمستمعين من إصدارات البوب المعتادة. كانت الآلات المستخدمة أقل تنوعًا وصخبًا من سائر ألبومات البوب، بصوتها المتّسخ، الخبيث والمشؤوم. جذب صوت إيلي وأسلوبها في الكتابة المستمعين لدخول عالم الألبوم، بينما أضاف إنتاج أخوها، فينيز، العمق الذي منح الألبوم أثره الممتد. آتت هذه الجهود ثمارها في جراميز عام ٢٠٢٠ – بشكلٍ متوقع إلى حدٍ ما نظرًا إلى الاحتفاء العالمي بالألبوم – حيث فاز بخمس جوائز.

استمرّ نجاح الشقيقين هذا الأسبوع خلال نسخة ٢٠٢١ من الجراميز، حيث أضافا جائزتين جديدتين إلى أرشيفهما حين فازا بتسجيل العام (إفريثينج آي وانتد) وأفضل أغنية مكتوبة للميديا البصريّة (نو تايم تو داي). احتفاءً بهذه الإنجازات، قررنا إلقاء نظرة أقرب على موسيقى بيلي وفينيز، والتوسع في واحدة من التكنيكات التي يطوّعانها، تأثير التعاقب (Precedence) أو الهااس (HAAS)، ثم العودة إلى تاريخ استخدام مساحة وموضع الصوت في الإنتاج.

إنتاج الصوت باستخدام الهااس

مقارنةً بمعظم إصدارات البوب، تعد بيلي آيلش مجرّدةً ومبسّطة من حيث التوزيع، تقليلية تقريبًا. الكثير من أغانيها مبنيّة حول طبقات من الهارموني الصوتيّة، دون أن تساند صوتها الكثير من الآلات. غالبًا ما تستخدم تسجيلات ميدانيّة، كما هي أو بعد معالجتها، لخلق ما يمكن الإشارة إليه بـ “مجمّلات صوتيّة“؛ إضافات من شأنها إضفاء عمق على الميكس دون أن تبدو واضحةً بشكلٍ فوري. في المقابل، تشغل آلات الإيقاع، خاصةً ذات التردد المنخفض منها، موقعًا شديد الوضوح والصخب. وفقًا للطريقة المعتادة في المزج، يحتل صوت المغني وآلات الإيقاع الرئيسيّة مركز الميكس، فيما تتوزع بقيّة الأصوات على الأطراف كي تبقى مسموعةً بوضوح. هنا يأتي دور تأثيرات مثل هااس.

الهااس، يعرف أحيانًا بـ تأثير التعاقب، هو “ظاهرة سمعيّة / نفسيّة تدفع المستمعين إلى تمييز مساحة واتجاه صوتٍ ما نتيجة تأخيرٍ بسيط بين قناتي الستيريو (السمّاعتين اليمنى واليسرى).” تعتمد الظاهرة على عدم قدرة البشر على الفصل بين صوتين متزامنين إذا كان التأخير بينهما أقل من ٤٠ ميلي ثانية. بالتالي، يؤدي التلاعب بالتأخير تحت هذه العتبة إلى حركة الصوتين بين جانبي الستيريو وإضفاء عمق على الميكس. تقدّم أغنية بري أ فرند مثالًا في محلّه على هذا التكنيك.

كمعظم أغاني الألبوم، يعتمد توزيع بري أ فرند في الأساس على بايس وطبول وطبقات فوق طبقات من الغناء. تأتي معظم هذه الأصوات من وسط ومركز الميكس، باستثناء بعض الحركة التي نشهدها في عينات الإيقاع. كما يشرح هذا الفيديو بتفصيلٍ وافٍ، لدينا حالتين من تأثير الهااس لزيادة عمق ومساحة بيت الأغنية. هناك كيك (طبل البايس) تعطي البيت حسًا بالتأرجح وتبدو أكثر وضوحًا بقليل في القناة اليمنى، فيما تُسمع الضربات الخشبيّة للإيقاع المتأخّر بشكلٍ أعلى بقليل على القناة اليسرى. خدعة بسيطة، لكن عند إضافتها إلى صوت الغناء المتأرجح بين قناتي الستيريو، ننتهي بأغنية غنيّة بالتفاصيل، ومجال صوتي أكثر سعةً وحركة.

يغفل الفيديو المذكور بعض استخدامات الهااس الأخرى في بري أ فرند، مثل التأثير المطبّق على أوّل عبارة من كل مقطع. يتحوّل غناء بيلي من صوت أحادي (مونو) إلى ستيريو عريض لدرجة غير طبيعية؛ يحدث ذلك عند كلمات مثل “ساي ات”، “ذ باين” و”كليننج يو آوت”. كما يشمل التأثير صوت إيقاعٍ خشبيّ يتجول بين طرفي الستيريو باستمرار.

التصوّر والتأخير | الصوت الأحادي، الثنائي والمحيط

تنتج الحركة المستمرّة في صوت الإيقاع الخشبي نتيجة تأثير الـ بان (Pan). بإمكاننا وصف البان ببساطة على أنّه توزيع الصوت بين مكبّري (سمّاعتين) صوت أو أكثر، ويعد أكثر أداة مستخدمة لتحريك الأصوات على مدى مجال الستيريو، من اليمين إلى اليسار. يكمن الاختلاف بين تأثيري البان والهااس أنّ البان يحرّك صوتًا ما عبر التلاعب بدرجة ارتفاعه على كلٍ من السماعتين، فيما يتلاعب الهااس بتوقيت صدور هذا الصوت على كلّ سمّاعة. بالتالي، لتحريك صوتٍ ما من اليمين إلى اليسار مرورًا بالمركز، علينا أن نخفض ارتفاعه على السمّاعة اليمنى ونرفعه على اليسرى بالتدريج.

يدور كل حديثنا حتى الآن حول مزج الأصوات وسماعها في مجالٍ ثنائي (ستيريو). اعتدنا على مصادفة هذه الفورمات في معظم الميديا المسموعة، حتى بات من السهل نسيان أنّها ابتكار حديث نسبيًا. حتى منتصف الستينات، كانت كافة الأصوات أحاديّة، وصدر الصوت على سمّاعة واحدة في معظم الأجهزة، ما جعل ميكسات الستيريو الأولى غير قادرة على تحريك الصوت بين قناتين مختلفتين كما فعلا بيلي وفينيز. كان على الأصوات إمّا أن تسجّل في أقصى اليمين أو أقصى اليسار أو في المنتصف تمامًا.

نسخة الستيريو من ألبوم سارجنت ببرز للبيتلز، والتي جرى تسجيلها على مضض بعد نسخة المونو، توضّح محدوديات هذه الطريقة في المزج، ولا يزال يبدو صوت الألبوم نافرًا اليوم كما بدا لمستمعيه الأوائل قبل عقود. في الميكس الأصلي من لوسي إن ذ سكاي، يوجد البايس والجيتارات وأصوات الغناء على اليمين كليًا، فيما تأتي الطبول والسيتار والأورجن من اليسار. يرسم الميكس تصوّرًا صوتيًا منحرفًا، ويبدو غريبًا على الأذن المعاصرة.

لم يكن نفور البيتلز من تبني مجال الصوت الثنائي مشتركًا مع معاصريهم. في الواقع، كان الموسيقي الوحيد المدرج على غلاف الألبوم، كارلهاينز ستوكهاوسن، قد سبق له وجرّب مع التأليف والإنتاج متعدد القنوات لأكثر من عقد. جرّب ستوكهاوسن اللعب بحسّ المساحة في مقطوعته Gesang der Jünglinge (أغنية الشباب)، مستخدمًا نظامًا صوتيًا من خمس مكبّرات تحيط بالجمهور، تحكّم بمستويات الصوت فيها يدويًا خلال الأداء ليخلق إحساسًا بحركة الصوت.

أثارت الإمكانيات الناتجة عن استخدام عدّة مكبّرات أو قنوات صوتيّة المزيد والمزيد من الموسيقيين مع اقتراب الستينات من نهايتها، وبحلول السبعينات كان العديد من الفنانين يصدرون ألبوماتٍ ضمن فورمات رباعيّة أو ثنائيّة القنوات. تبنّت بينك فلويد هذه التقنيات مبكرًا في ألبوم ذ دارك سايد أف ذ موون، إذ جرى مزجه ليُسمع على أربع مكبّرات. بات من المنطقي للفنانين أن يستخدموا هذا الفورمات والذي تلاه، فورمات الـ ٥٫١. يساعد استخدام المزيد من المكبّرات على خلق بيئة سمعية أكثر حياديّة، أو على الأقل أكثر شبهًا بكيف نتلقى الأصوات في حياتنا اليومية، حيث نستقبلها من كافة الاتجاهات طوال الوقت. اعتنت صناعة الأفلام تحديدًا بدفع حدود تكنولوجيا توزيع الصوت لإنتاج تجارب سماع انغماسيّة، آخرها دولبي آتموس، النظام الذي يصدر الأصوات حرفيًا من كافة الاتجاهات حول المستمعين، ليخلق أكثر مستوًى ممكن من الانغماس.

للأسف، كانت ولا تزال أنظمة الصوت المكونة من عدّة مكبّرات أكثر تكلفةً من قدرة المستهلك المتوسط. مع اختفاء فورمات الأربع مكبّرات، صارت الأنظمة الصوتيّة المنزليّة ذكرى من الماضي، فيما أصبحت سمّاعات الأذنين الوسيلة الأكثر شيوعًا بين الناس لسماع الموسيقى. عنى ذلك أنّ على الموسيقيين والمنتجين العثور على أدوات جديدة مستوحاة من الطبيعة لإنتاج صفات العمق والمسافة في ميكساتهم.

المساحة والعمق | الديلاي والصدى والريفرب

ينتج تأثير الهااس عندما يتتابع صوتان منفصلان بمسافة أقل من ٤٠ ميلي ثانية بينهما، فما الذي يحدث إذًا إذا كانت المسافة تزيد عن ٤٠ ميلي ثانية؟ ينتج تأثير الصدى، أو كما يشار إليه في عالم الإنتاج، ديلاي (delay).

ينتج الصدى عند انعكاس الصوت عن سطحٍ ما، وكلما كان هذا السطح أبعد، كلما ازدادت فترة الصدى. يحدث الصدى في الطبيعة في الكهوف والمناطق الجبلية، لكن بالإمكان توليده في حجرات معالجة خصيصًا، أو داخل أنابيب كما يوضّح هذا الفيديو. تعود إحدى التجارب المبكرة في الموسيقى الإلكترونيّة إلى حليم الضبع، واستخدامه لحجرات الصدى في استوديوهات مبنى ماسبيرو، ليمنح مقطوعة الزار هذه صوتها الفضائي الغرائبي. مع تطوّر الشريط المغناطيسي (الكاسيت)، أصبح الصدى المولّد باستخدام شرائط (تلعب على مسافات زمنية متأخرة) بصمةً لعدّة استوديوهات وفنانين مثل روبرت فريب، كما دفع براين إينو حدود التجريب لينتج حلقات لا نهائيّة من الصدى (زوروا مقالنا عن الموسيقى المولّدة ذاتيًا لمعلومات أكثر عن ابتكارات إينو). اليوم، أصبح الصدى والديلاي منتشرين في كافة السنثات الحقيقية والبرمجية ومحطّات الإنتاج الرقمية (DAWs)، ولا غنى عنهما في كافة الجنرات والمشاهد.

الريفرب تأثير آخر لا غنى عنه، يحيط بنا حرفيًا طوال الوقت. ينتج الريفرب عندما “ينعكس صوت (أو إشارة) ما عن عدّة أسطح متسببًا في عدّة انعكاسات تتقاطع تصاعديًا، ثم تخبو مع امتصاص الصوت من قبل أسطح كافة الأجسام المحيطة به.” الريفرب إذًا هو ما يعطي كل مساحة أو حجرة أو صالة عروض أو استوديو تسجيل صوتهم المميّز. هو أيضًا السبب الذي يشجعنا على الغناء في الحمام. عندما يخبو الريفرب على مدى فترة طويلة نعرف أن الصوت يتردد في مساحات واسعة، بينما يدلّنا الريفرب الذي يخبو بسرعة على حجرات أصغر. كما أنّ الطريقة التي يجري بها امتصاص الصوت أو عكسه من الأسطح المختلفة لكل مكان تلعب دورًا في منح هذا المكان صفاته الهوائيّة. كما في حالة الصدى، من الممكن إنتاج الريفرب باستخدام حجرات خاصّة وصفائح، ثمّ باستخدام نوابض موجودة في مكبّرات صوت الجيتارات. واليوم، كما في حالة الديلاي، أصبح تأثير الريفرب منتشرًا في معدّات الإنتاج ولا غنى عنه.

أصبحت هذه التأثيرات جوهريةً لأنّها تساعد المنتجين على وضع وتوزيع الأصوات على مسافات مختلفة من المستمع، مولّدين بذلك حسًا بالمساحة والعمق؛ وبينما تُحرّك تأثيرات البان والهااس الصوت على محورٍ أفقي، بإمكان الريفرب والصدى أن يجعلوا الصوت يبدوا وكأنّه يأتي من أمام أو خلف المستمع. الإمكانيات الناتجة عن المزج بين هذه التأثيرات لا متناهية، بإمكان المنتجين أن يضعوا المستمع في أي مكانٍ حقيقي أو افتراضي يريدونه، حتّى باستخدام نظام صوت ثنائي، خاصةً سمّاعات الأذنين.

وسط تجربة سماع انغماسيّة دائمًا

ستكون الخطوة التالية لإنتاج الموسيقى خلق تجارب سمعية انغماسيّة بالكامل. لحسن الحظ، وبفضل التقدمات التي أحرزتها ألعاب الفيديو والأفلام، أصبحت تجارب السمع الانغماسيّة، التي تتجاوز الستيريو، مقبولة التكلفة وسهلة الإنتاج في أنظمة الصوت المنزليّة وسمّاعات الأذنين. تتيح منصّات مثل ستريم وفايسبوك فرصة خلق واختبار هذه التجارب السمعية المحيطة. أطلق منتج الموسيقى المحيطة كريستوفر ويليتس مشروع إنفلوب لاستضافة مناسبات سمعيّة محيطة، كما أنتج برنامجًا مفتوح المصدر يجعل فورمات الصوت المحيط بالكامل (ambisonics) متاحًا لمحطّات إنتاج الصوت الرقميّة. حتى سنواتٍ قريبة، كان إنتاج موسيقى تستغل إمكانيات كلتا الأذنين أمرًا مكلفًا للغاية وأقرب إلى كونه رفاهيّة، لكنّه اليوم بات ممارسة متاحة، تجمع كافة عناصر المساحة والموضع والتصوّر، وتصعد بها إلى أعالٍ جديدة.

المزيـــد علــى معـــازف