.
في الستينيّات والسبعينيّات من القرن العشرين كان لكل ثقافة على وجه الأرض بوب ديلان خاص بها، أي رجل ذو شعر منفوش يلبس نظارات شمسية ويغني بصوت يعتبره ذواقة الموسيقى المؤدبة مزعجاً، يعزف القيثارة والهارمونيكا، كل هذا معاً صنع نسخة أخرى من بوب ديلان. عربياً هناك من قال إنه الشيخ إمام (بغض النظر عن العود وشعره وكل شيء)، ولكن هذا موضوع آخر. كذلك أنا لست في صدد خوض معركة عما إذا كان ديلان يستحق نوبل للآداب أم لا، أو عن اعتبارات نوبل السياسية وهل كان ديلان أديبًا أم لا ، فبالنسبة لي على القليلة هذان الأخيران أمران مفروغ منهما. نوبل مسيّسة طبعا وبوب ديلان، مثل كل كتاب الاغاني، هو شاعر وأديب ١٠٠٪. الهدف هنا التعريف على من أُطلق عليه لقب بوب ديلان المكسيكي خلال النصف الثاني من القرن السابق، وهو رودريغو غونساليس، والذي بات يُعرف باسم روكدريغو.
كن متزناً:
وُلد روكدريغو في ديسمبر عام ١٩٥٠ في مدينة تامبيكو شمال شرق المكسيك، وتوفي في المكسيك العاصمة في سبتمبر عام ١٩٨٥ إثر تعاطيه جرعة مفرطة من الإسمنت حسب النكتة الشعبية، التي نفهمها عندما نعرف أن روكدريغو مات ضحية زلزال التاسع عشر من سبتمبر ١٩٨٥، والذي راح ضحّيته حوالي عشرة آلاف شخص. وفاة روكدريغو من الزلزال الذي لا يزال يضرب المدينة ( لا تزال حتى اليوم هناك وحدات سكنية مؤقة للنازحين من الزلزال باتت دائمة وسكانها ينتظرون وفاء الوعود الرسمية بمساكن دائمة) هو ما زاد من جعله أسطورة حيّة، إذ أن أغانيه لا تَزال تدوي في عربات المترو والباصات العامة في زحمة المدينة والمطاعم الشعبية على يد موسيقيين شارعيين يطلبون المال، مشيرين إلى روكدريغو بـ شاعر الصبّار، وهذا ما سمعته ورأيته بعيني.
بدأ روكدريغو يعزف الجيتار في بداية الستينيات في مسقط رأسه تامبيكو، أي بعد قليل من ولادة الروك آند رول في المكسيك. لن أبالغ إذا قلت إن بداية الروك آند رول في هذا البلد الأمريكولاتينيّ كان نوعًا من التقليد البحت لما كان يحصل عند جارهم العم سام في الشمال. مثل العديد من بلدان امريكا اللاتينية، كانت موسيقى الروك في بدايتها عبارة عن استعادات covers لأغان ليتل ريتشارد وإلفيس.
عند ولادة روكدريغو الموسيقية كان الروك قد بدأ يتمكْسَك، وهذا يعني أن المكسيكيين أخذوا يترجمون أغاني الروك إلى الأسبانية ويغنونها. لهذا يقولون إن بداية روكدريغو الأدبية كانت بترجمة وأداء أغاني بوب ديلان والبريطاني دونوفان (والذي بدوره لم يسلم هو الآخر من لقب بوب ديلان البريطاني). في الوقت ذاته، كان روكدريغو يستمع للأغاني الشعبية، الوابانغوس، وتأثر بها، وهذا ما توحي به أغنية الوابانغيرو.
“عازف الوابانغو يرسم الفرح
يجعل من الوقت نبع ماء
يرتجل الاغاني وهو يضحك ويشرب الميزكال
أو يغني المآسي في حزن كوخ
عن حب ضائع أو ربّما عن بطل لا يموت“
قبل هجرته إلى المدينة الكبيرة، المكسيك العاصمة، مرّ روكدريغو أولا بمدينة خلابا في ولاية فيراكروز طالبًا العلم. يقولون إنه أراد دراسة علم النفس في الجامعة، ولكن، ويا لها من مفاجأة تعيسة، اكتشف أن علماء النفس الأكاديميين، مثلهم مثل غيرهم، هجروا منهج تحليل النفس الفرويديّ لاعتناق منهج السلوكية Behaviorism، وهذا ما جعله ينبذ فكرة التعليم الأكاديميّ. تروي زوجة روكدريغو الأولى ميريا إسكالانتي أن روكدريغو قرر “صعود الجبل ليأكل وجبة من الفطر الهلوسي، وخلال رحلته امتثل أمامه نبيّ على شكل نبتة الصبّار وقال لروكدريغو: تقع عليك مسؤولية كتابة الأغاني من أجل الناس والإنسانية لكي يفهموا المشاكل التي تختمر”:
“في هذا الوقت العصيب بالذات، بات فيه التشويش سيّد الموقف على كوكب الأرض، وفيه جراثيم غريبة هبطت علينا من كواكب بعيدة تتواصل مع البشر بتردّدات تيليباتية، تجعلهم يبصرون واقعًا جديدًا ذا أبعاد بمقاييس غير مسبوقة؛ في هذا الوقت بالتحديد يمتثل أمامنا نبيّ الصبّار ويرجمنا بثرثراته منذ عام ١٩٨٤. وفي يوم من الأيام وهو يرى رؤياه الهجينة عن الروك أند رول المكسيكي، قال لي، وهو غاطس في المنام يحلم، إنه تقع عليّ مسؤولية إيصال مخاطبة آذان جميع البشر. فإليكم البلاغات التالية من نبيّ الصبّار.”
فور وصوله مدينة المكسيك العاصمة في السبعينيّات بدأ روكدريغو يؤلف أغاني خاصة به ويؤديها بجانب أغاني بوب ديلان ودونوفان وغيرهم. بدأ يحظى بشهرة لا بأس بها وهو يؤدي أغانيه في مقاهي وحانات المدينة. لم يكُف أبدًا، حسبما يقولون، عن الغناء في الساحات العامة وعربات قطار المترو من أجل كسب المال.
(محطة المترو بالديراس)
“قبل أربعة أعوام هنا ضاعت حبيبتي
اختفت عن الوجود بين زحمة الناس في المترو
بحثت عنها في أرصفة المحطة وغرف الانتظار
ولكنها ضاعت
في محطة المترو بالديراس
هنا دُعس على قلبي“
في عام ١٩٨٣ شكّل روكدريغو ومجموعة من الفنانين اسمها مجموعة العصر الحجري للفن والموسيقى، جاء في بيانها:
“نحن العصرجريون بشكل عام ناس بسطاء، لا نتكبّر علي غيرنا ولا نريد لفت انتباه الناس إلينا ولا نثير الضجة أكثر من اللزوم، مثل غيرنا من الناس الذين ليسوا بعصرحجريين. ولكن لدينا المزيد لإعطائه بقيثاراتنا الخشبية وحناجرنا التي مرّ منها مشروب الروم للتو. نحن شعراء ومجانين؛ نسمع الروك أند رول والطرب؛ نحن بسطاء وفصحاء؛ نحب الخيال ونضرب بعرض الحائط كل ما هو يومي وروتيني؛ نعزف كما يدقّوا الخشب نجاري كوكب الزهرة ونغني مثل العجول خلال امتحانها النهائي لنيل شهاداتها من المهد الموسيقي.”
المثقفون:
“
“في مكان بعيد محشو بالصبّار
كانت تسكنه مخلوقات غريبة عجيبة تدعى بالمثقفين
لم يكفّوا عن القراءة، كانوا يقرأون طول الوقت
وكانو ينبذون السوقية ويتحاشونها خوفًا من أن يصيروا منها
تجدهم في المقاهي المليئة بالكتب العميقة
وفي الأمسيات الثقافية والكونسرتات الموسيقية
لا يكفون عن كتابة الشعر والقصص القصيرة
لا يعرفون هويتهم، هل هم من كوكب المريخ، المكسيك أو أوروبا
هل هم ملائكة، شياطين أم أقزام“
سجّل روكدريغو كاسيتًا واحدًا فقط، Hurbanistorias، قام بعزفه وتسجيله وإنتاجه وتوزيعه بنفسه ولوحده، بينما اليوم هناك العديد من الأغاني المسجلة أعاد اصدقاؤه إنتاجها بعد وفاته وهي موجودة بزخم على يوتيوب وتُباع في كشكات القرصنة للموسيقى والأفلام في شوارع العاصمة. بحصول بوب ديلان على جائزة نوبل للآداب وقبوله لها في كانون أول من السنة الماضية، تستحضر الأكاديمية السويدية على البال الشاعر رودريغو غونساليس، روكدريغو؛ وبسياق نوبل أنهي بكلمات غارسيا ماركيز (وبترجمة صالح علماني مترجم فلسطيني عن الإسبانية، من أعماله ترجمة لرواية ١٠٠ عام من العزلة) التي وردت في خطابه حين حصل على الجائزة قبل ٢١ عام: “في مواجهة الاضطهاد والنهب والهجران، ردّنا هو العيش”.