fbpx .

أصوات منسيّة تحت ركام جدار برلين

شادي لويس ۲۰۱۳/۰٦/۲٤

في منتصف ليلة دافئة من حزيران / يونيو عام ١٩٨٧، تجمّع الآلاف من الألمانيين الغربيّين في ساحة مبنى الرايخستاج على مسافة قريبة من جدار برلين لحضور حفلة موسيقية في الهواء الطلق لفرقة الروك الإنجليزية Genesis. وعلى الجانب الآخر من الجدار، احتشدت قوّات مكافحة الشّغب الألمانيّة الشرقيّة بمواجهة ألوف من الألمانيين الشرقيّين من محبّي موسيقى الروك، والذين كانوا يحاولون الاقتراب من السور بقدر الإمكان للاستماع لتلك الموسيقى الرأسماليّةالمحرّمة.

تحوّلت الاشتباكات التي استمرّت لساعات، واستخدمت فيها قوّات الأمن عنفًا مفرطًا قوبل من جانب المتجمهرين بإلقاء الحجارة وهتافات تنادي بإسقاط الجدارمخلّفة مئات الجرحى ومئات الموقوفين، إلى مقدّمة لواحدة من أشدّ الإضطرابات السياسيّة في البلد المستقر نسبيًا منذ منتصف السبعينيّات. إلّا أن مواجهات هذه الليلة لم تكن استثناءً، بل جزءًا من معركة طويلة ضد القمع في ألمانيا الشرقيّة كانت الحركة الموسيقيّة (١) في طليعتها، والتي انتهت بسقوط الجدار، وإن لم تنته بانتصار موسيقى المقاومة.

موسيقى الاشتراكيّة

بمجرد إعلان قيام جمهوريّة ألمانيا الديمقراطيّة (الشرقيّة) بعد انتهاء الحرب العالميّة الثانية، قام النظام الحاكم الموالي للاتحاد السوفييتي بتأميم كافة الأنشطة الثقافيّة ومن ضمنها الموسيقى. بذلك، أصبحت الدولة تمتلك وتدير بشكل كامل استوديوهات التسجيل الموسيقي، وقاعات العرض، والمسارح، وشركة الإنتاج الوحيدة، ومنافذ توزيع التسجيلات، ومحال بيع الأدوات الموسيقيّة، بالإضافة إلى الخدمات الإذاعيّة والتلفزيونيّة.

في هذا السياق، تكشف محاضر اجتماعات إدارة الموسيقى في وزارة الثقافة الألمانيّة الشرقيّة (٢) عن نقاشات محدودة حول ماهية الموسيقى الاشتراكيّة. إذ لم تسمح نظريّات فلسفة الفن، والجماليّات السوفييتيّة التي جرى تبنّيها في الحقبة الستالينيّة في كافة دول الكتلة الشرقيّة، إلا بحيّز محدود من المراجعة للدوغما الرسميّة والتي كانت ترى في الموسيقى أداة من أدوات الرأسماليّة للتحكّم في الطبقة العاملة من خلال عملية معقدة لتسليع المنتج الموسيقي لتتحكّم فيها وتوجهّها رؤوس الأموال، وتنتهي بإنتاج فنّ برجوازيّ يفرض وعيًا زائفًا على الطبقات المقهورة، ويعمل على تقنين الوضع القائم؛ بالإضافة إلى تأكيده على الفوارق الطبقيّة بفصل الموسيقى الشعبيّة عن موسيقى الطبقات العليا: كالموسيقى الكلاسيكيّة والأوبرا، وتعميم نمط حياتي استهلاكي محوره الموسيقى لتتعلّق بأهدابه الطبقات الأفقر. عليه، فإن دور الموسيقى الاشتراكيّة الأصيل في المقابل هو: نقد قيم المجتمع الرأسمالي وكشف تناقضاتها، وتحفيز الجماهير على التمرّد، والانتفاض ضد الوعي الزائف، وفتح آفاق جديدة للإبداع في خدمة الإنسان بدلًا من رأس المال.

رغم تقدميّة تلك التنظيرات الماركسيّة عن الفن، إلّا أنه، وبدلًا من تحرير الموسيقى من سلطة رأس المال لتنطلق في دورها المقاوم للمعتاد والمقبول والمعاند للأمر الواقع، لم ير النّظام الحاكم في ألمانيا الشرقيّة دورًا لموسيقى نقديّة في مجتمع اشتراكي يفترض أنّه تحرر بالفعل من قيود الرأسماليّة، بينما هو على العكس، سعى لتوظيف الموسيقى في ماكينته للبروباجندا من أجل تقنين تصوّره عن المجتمع الاشتراكي، وللحضّ على الإنتاج والنظام والخضوع.

في هذا السياق, فرضت السلطات رقابة شديدة على الإنتاج الموسيقي: فكان على الموسيقيين الحصول على رخصة لممارسة نشاطهم المهني، وعرض منتجهم الموسيقي على لجنة للرقابة، والتي بدون موافقتها لم يكن من الممكن تسجيل العمل الموسيقيّ أو عرضه. كما فُرضت قيود شديدة على بثّ أو توزيع التسجيلات الموسيقيّة من الدول الرأسماليّة أو أي منتج موسيقي محلّي في قالب غربي.

هل أسقطت موسيقى الغرب جدار برلين؟

على الرّغم من تلك القيود الشديدة التي فرضتها السلطات الألمانيّة الشرقيّة، إلّا أن مواطنيها كان بإمكانهم، وبمنتهى السهولة، الاستماع للموسيقى الغربيّة على محطّات إذاعة وتلفزيون ألمانيا الغربيّة التي كانت تصل موجاتها لمعظم المناطق في الشرق. كان أيضًا تهريب التسجيلات الموسيقيّة عبر الحدود ونسخها وتوزيعها عملًا روتينيًا مربحًا ومنخفض المخاطر. في نهاية الستينيّات، كان قطاع واسع من الشباب الألماني الشرقي قد انخرط في تمرّد جماعي علني ضد قمع الدولة بتبنّي ذوق موسيقيّ غربيّ، ونمطٍ سلوكيّ يوميّ وهويّة مرتبطة به: تمرّد تحوّل في أحيانٍ عدّة لمواجهات عنيفة مع الشرطة.

تبالغ الكثير من الأدبيّات الغربيّة في تقدير وزن الدور الذي لعبته شعبيّة موسيقى الروك البريطانيّة والأميركيّة في شرق ألمانيا في خلخلة سلطة النظام الشيوعي هناك. لدرجة أن يعنون Sandor Fonade كتابه عن فرقة Rolling Stones البريطانيّة: كيف أسقطت موسيقى الروك والرولنج ستونز جدار برلين؟. لا ترسم هذا المرويّة صورة للموسيقى الوافدة من الغرب الرأسماليّ بصفتها أداة لتمرّد المقهورين وتحرّرهم من وصاية الأنظمة الديكتاتوريّة فقط، بل تقدّم أيضًا صورة للرأسماليّة الفرديّة وأنماطها الإنتاجيّة بصفتها الإطار الأمثل لإنتاج موسيقيّ حرّ وإبداع بلا قيود. رغم أن هذه الصورة النمطيّة، والتي جرى الترويج لها بشكل واسع في وسائل الإعلام الغربيّة، هي الرواية الأكثر قبولًا في ألمانيا الموحّدة اليوم، إلّا أن التفتيش في التّراث الموسيقيّ لألمانيا الشرقيّة ربّما يقودنا لرواية مختلفة عن الحركة الموسيقيّة هناك. كاشفًا عن موسيقى مقاومة متجذّرة في تقاليد الموسيقى الألمانيّة الشعبيّة، ومتسلّحًا بقيم يساريّة أصيلة في وجه النظام الشمولي المتستر، زورًا، وراء اشتراكيّته الزائفة.

التصالح مع الفن الرأسمالي

مع تراجع حدّة الحرب الباردة في مطلع السبعينيّات، أصبحت السلطات الألمانيّة الشرقيّة أقلّ تشدّدًا مع الموسيقى الغربيّة، سامحةً بإذاعة الموسيقى الرأسماليّةبشرط أن يكون ستّين بالمئة على الأقل من المحتوى الموسيقيّ المذاع، سواء في البرامج التلفزيونيّة أو الملاهي الليليّة، من موسيقى دول الكتلة الشرقيّة. كما قامت شركة الإنتاج الموسيقيّ المملوكة للدولة، ولأوّل مرّة، بتوزيع أسطوانات لفرق أمريكيّة وبريطانيّة، وإن كان بأعداد محدودة. قامت السلطات أيضًا بدعم فرق موسيقيّة محليّة تعتمد على قوالب غربيّة مثل: الروك والجاز، بعد أن سمحت مراجعة جزئيّة للتنظير الموسيقيّ السوفييتيّ بالإقرار بحياديّة القالب الموسيقي أيديولوجيًا (٣). بنهاية الثمانينيّات، وبعد مواجهات حفلة فرقة جنيسيس، وصل تساهل السلطات مع الموسيقى الرأسماليّة إلى حد أنها سمحت لفرق موسيقيّة من دول غربيّة بإقامة حفلات في الهواء الطلق على الجانب الشرقيّ من جدار برلين.

إلا أن هذا التصالح مع الموسيقى الرأسماليّة، والذي كان يهدف بالأساس إلى تدجين حركة التمرّد الشبابيّة المتصاعدة، وتحسين صورة النظام داخليًا وخارجيًا، لم يصاحبه تسامح مع الموسيقى المحليّة ذات النبرة النقديّة أو الإصلاحيّة، بل على العكس: إذ كان التماهي مع الموسيقى الغربيّة يسير بالتوازي مع تزايد في حدة القمع تجاه الحركة الموسيقيّة المحليّة ذات الميول الاشتراكيّةبمعناها النقديّ والتحرريّ.

٤٠٠ جاسوس لموسيقيّ فاض به الكيل

يعتبر وولف بايرمان أشهر موسيقيّي التمرّد في ألمانيا الشرقيّة على الإطلاق، وواحد من الآباء المؤسّسين لحركة المقاومة الموسيقيّة منذ مطلع الستينيّات. أيضًا، وعلى العكس من الصورة النمطيّة عن المبدع الألماني الشرقي الساعي للهروب إلى الغرب بأي وسيلة، ولد وولف في هامبورج في الغرب، وبمجرّد استكمال دراسته المدرسيّة وبلوغه سن السابعة عشرة، ولإيمانه العميق بالقيم الاشتراكيّة، قرر الانتقال إلى الشرق في عام ١٩٥٣. إلّا أن موقفه العلني المعارض لبناء جدار برلين، بالإضافة لمحتوى أغانيه النقديّ الساخر والمباشر، ومطالبته العلنيّة بإصلاح النظام لتحقيق الإشتراكيّة الحقيقيّة التي يؤمن بها، قاد لرفض طلب عضويّته في الحزب الشيوعي، ومن ثم وصمه في بيان أصدره المؤتمر العام للحزب في عام ١٩٦٥ بتهمتي البرجوازيّة الصغيرة، والعداء للطبقة العاملة؛ وعليه، سُحبت رخصته الموسيقيّة ومُنِع من الغناء والنشر.

رغم أن جهاز الشتازي: جهاز أمن الدولة في ألمانيا الشرقيّة، جنّد ٤٠٠ عميل سري لمتابعة بايرمان وأنشطته، وفرض عليه عزلة شديدة على مدى عقد كامل، لكن وولف نجح في تسجيل أغانيه ونشر كتاباته في الغرب بشكل غير قانوني، ومن ثم تهريبها وتوزيعها في الشرق على نطاق واسع. الأمر الذي سبب صداعًا دائمًا للنظام. في عام ١٩٧٦، وبعد حفلة موسيقيّة له في كولون في الغرب، أسقطت السلطات الشرقيّة عن وولف جنسيته، ومنعته من العودة، فارضة عليه نفيًا قصريًا إلى الغرب حتى عام ١٩٨٩. خلال الفترة التي قضاها في المنفى، استمرّ بايرمان في الإنتاج الفنّي، واكتسبت أعماله ذات القالب الموسيقيّ الشعبيّ البسيط عمدًا، والتي كانت تغنّى في الحفلات الخاصة واللقاءات العائليّة في الشرق، تأثيرًا عميقًا، ليس فقط على المجتمع، بل أيضًا على جيل جديد من الموسيقيين ممّن شكّلوا نواة حركة المقاومة الموسيقيّة لاحقًا في السبعينيّات والثمانينيّات.

المرأة الباردة التي تمسّدني

الأصدقاء المخادعين الذين يتملقونني

الجاهزون بحرارة للأشياء الساخنة

لكنهم يتبولون في سراويلهم خوفًا

في هذة المدينة الممزقة

فاض بي الكيل منهم

قل لي: ما هو نفع تلك البيروقراطيّة

الراكبة بشغف ومهارة فوق ظهور الناس؟

هذه العجلة الكبيرة للتاريخ

لقد فاض بي الكيل منها

وما منفعة البروفسورات الألمان

الذين ربما كانوا سيتعلمون شيئًا حقيقيًا

لو توقفوا عن حشو بطونهم كل يوم؟

مجرد موظفين حكوميين، جبناء، سمان وعرج

لقد فاض بي الكيل منهم

المعلمون جلادي العبيد

الذين يكسرون ظهورنا في طفولتنا

الذين ينتجون تحت كل راية المواطن المثالي

مطيع ومجتهد وأعرج ذهنيًا

لقد فاض بي الكيل منهم

الشاعر صاحب اليد المتعرّقة

الذي ينظم شعرًا مبتذلًا للوطن

الذي يحشر عنوة الغير قابل للنظم في أبيات

محاولًا أن يخدع أولئك الباحثين عن الحقيقة

الحثالة ناعمة وقابلة للشراء

لقد فاض بي الكيل منه

الرجل الأسطوري الصغير

الذي يعاني دائمًا ولا ينتصر أبدًا

الذي يعتاد كل أنواع الوساخات

طالما كان هناك طعام على الطاولة

بينما يحلم بالاغتيال في سريره

لقد فاض بي الكيل منه

بالمناسبة إنّه أمر يدعو للأسى

نادي لاعبي الورق الألماني

الأرض الألمانيّة المقسمة لثلات

مهما حدث، أجد دائمًا قصة أخرى

لقد فاض بي الكيل منها

سجن ومنفى

استكملت بتينا فِجنر مع موسيقيين من جيلها مسيرة بايرمان في السبعينيّات، مستخدمةً، على نهجه، قالبًا موسيقيًا شعبيًا بسيطًا، وإن كانت كلماتها أقل مباشرة وأشدّ إيلامًا. ولدت بتينا أيضًا في الغرب، وانتقلت في طفولتها مع أسرتها الشيوعيّة المخلصة بعد التقسيم مباشرة لتحقيق الحلم الاشتراكيّ في الشطر الشرقي. قبل بلوغها سن العشرين، قُبض عليها أثناء توزيعها لمنشورات ضد تدخل دول حلف وارسو لقمع الانتفاضة الشعبيّة في تشيكوسلوفاكيا عام ١٩٦٨ المعروفة بـ ربيع براج. حُكم على بتينا بالسجن لمدة عام ونصف بتهمة الترويج لدعاية معادية للدولة، وحرمت من رؤية طفلها حديث الولادة خلال هذه المدة. ألهمت هذه التجربة أغنيتها الأشهر على الإطلاق: الأطفال، وأثّرت على إنتاجها الفني لاحقًا وأثقلته بالألم العاري الذي سيتخلّل كل موسيقاها.

قامت السطات بمنع بتينا من الغناء بعد خروجها من السجن مباشرة، وفرضت عليها مراقبة مستمرة. إلا أن أعمالها ظلّت تنتشر في الغرب ثم يعاد تهريبها وتوزيعها في الشطر الشرقي. في عام ١٩٨٣، وبعد ضيق السلطات من شعبيتها المتزايدة، وخاصة داخل حركة المقاومة الكنسيّة، أُرغمت بتينا على الرحيل إلى الشطر الغربي بعد تلفيق تهمة مخالفات جمركية لها. تسبّب نفي بتينا في زيادة التململ داخل أوساط الموسيقيين غير المسيّسين، ودفع بعضهم لانتهاج خطّ معارض للسلطات.

أيديَّ صغيرة جدًا، أصابعها رقيقة جدًا

على المرء ألا يضربها، وإلا ستنكسر

أرجل صغيرة جدًا، أصابعها صغيرة جدًا

على المرء ألا يدوسها، وإلا لن تستطيع المشي

آذان صغيرة جدًا وراغبة

على المرء ألا يصرخ فيها، وإلا ستصاب بالصمم

أفواه جميلة جدًا، تتكلم عن كل شيء بلا وجل

على المرء ألا يمنعه، وإلا لن يخرج منها أي شيء بعد الآن

عيون ثاقبة جدًا، ترى كل شي

على المرء ألا يغطيها، وإلا لن تفهم أي شيء

أنفس صغيرة جدًا، منفتحة وحرّة تمامًا

على المرء ألا يعذبها، وإلا ستتكسر

مثل هذا العمود الفقري الصغيرلا يكاد يرى

على المرء ألا يحنيه، وإلا سينكسر

بشر واضحين يقفون باستقامة سيكونون هدفًا جميلًا

فأصحاب الظهور المنحنية، لدينا بالفعل منهم الكثير

الأمير الصغير وشيفرة الأمل

جيرارد شون واحد من أنجح الموسيقيين في شرق ألمانيا في الثمانينيّات، وعلى الرغم من محتوى أغانيه النقديّ، وانتمائه العلني للكنيسة اللوثريّة الأمر الذي كان يعتبر تحدّيًا لا يغتفر للخط الرسمي للدولة، إلا أنه نجا من الملاحقة الأمنيّة، بل كُرم من قبل الدولة عدّة مرّات، ربما بسبب تركيزه على إنتاج موسيقى موجهّة للأطفال. تحمل أعمال جيرارد، بالرغم من سذاجتها الظاهريّة، ترميزًا كان من السهل فك شيفراته الداعية بوضوح للانتفاض ضد الظلم والكراهية والتمييزما جعل من أغانيه للأطفال منشورات للأمل موجهّة للبالغين والأطفال على حد سواء.

أحيانًا تنظر في المرآة

وتشعر بالغيرة بينما تفكر:

الآخرون أكثر وسامة منّي بكثير

وتشعر بالشفقة على نفسك.

أنت لست ذكيًا مثل الآخرين

لست حسن المظهر

ليس هناك من يريد مصادقتك

وفجأة تتمنّى لو أن أميرًا سحريًا

يأتي لك ويقول: “لا تنسى أن هناك واحد منك فقط في هذا العالم

وأنا أحبك كما أنت

هناك مدرّس في المدرسة

ترسب في مادته دائمًا

ولديه تلاميذه المفضلين،

هذا ليس عدلًا

خلال الحصة يمضغ العلكة

ولكن يطلب منك أن تجلس ساكنًا، وألا تنظر خارج النافذة

وفجأة تتمنى أن يظهر الأمير السحري

ليقول له: “لا تلعب دور الرجل الكبير هنا

لا يمكنك أن تطلب نظامًا

بينما أنت نفسك لا تتبعه

لا يستطيع أحد لم يمر بهذه التجربة

أن يدرك كم هي صعبة

عندما يتوقف الوالدين عن حب بعضهما

وعندما تكون واقفًا في الوسط

بينما تحب كلاهما

وتريد أن يكونا كلاهما معك

لكنهما يريدان الطلاق

فجأة تتمنى أن يأتي الأمير السحري

ويقول: “انتهى الكابوس

أحبّوا بعضًا كما في السابق

وترجعوا أنتم الثلاثة سعداء مرة أخرى

أحيانا يقلقك أمر السلام في العالم

لقد صنع البشر قنابل جديدة

بالرغم من أنّهم يحلمون بالسلام لسنوات

الكراهية وعدم الثقة يجب أن تنتهي، وإلا سيزيد الخطر

لذلك يجب على الأمير الخيالي أن يظهر

ويقول: “ممنوع الحرب

لقد سحرت كل الأسلحة

أيها الناس سيروا يدًا في يد

لو يظهر هذا الأمير فعلًا

سيكون هذا رائعًا

لكنك تعرف بنفسك

أنه يظهر نادرًا هذه الأيام

إنه يحتاج لقطع غيار طول الوقت

يبدو وكأنه في إجازة

عليك أن تجد طريقة

أن تفعل أمرًا بنفسك

حينئذٍ، ربما، سيظهر الأمير

ويراقبه الجميع في انبهار

المعجزات لا تزال تحدث

وهذا الأمير هو أنت

سخرية وبيان أخير

يعتبر هانس – إكارد فنسل واحدًا من أكثر موسيقيي ألمانيا الشرقيّة شهرةً في النصف الثاني من الثمانينيّات. اعتمد إكارد، كأقرانه من موسيقيي الاحتجاج، على قالب موسيقيّ شعبيّ بسيط ومحتوى شديد التهكّم في أغانيه ومسرحياته القصيرة، وعروض المهرج الغنائيّة. كما شارك، بشكل مكثّف، في النشاط السياسي المناهض لسلطويّة النظام، واضطلع بدور جوهري في صياغة بيان موسيقى الروك الشهير في عام ١٩٨٩؛ (٤) ورغم أن السلطات في البداية أهملت البيان الذي وقعه عشرات من الموسيقيين الذين طالبوا بـإصلاح يسمح بجعل الاشتراكيّة ممكنة في هذا الوطن، إلا أن قراءة البيان في الحفلات الموسيقيّة، وطبع وتوزيع آلاف النسخ منه من يد ليد، بالإضافة إلى الدعم الجماهيري الحاشد لمحتواه، أرغم لجنة الثقافة في الحزب الشيوعي الحاكم على عقد اجتماع لمناقشة محتواه الأمر الذي اعتبر أوّل اعتراف رسمي بتدهور الوضع السياسي إلى مستوى حرج. لكن جاء الاعتراف متأخرًا جدًا، فلم تمر سوى أسابيع قليلة حتى انهار جدار برلين ومعه حلم أصحاب البيان في وطن اشتراكي حقيقي.

تعكس أشهر أعمال إيكارد: أغنية عن كرينتس، بتهكّم مرير ضيق مواطنيه من غموض عملية انتقال السلطة في النظام المتكلّس، وقلقهم من المستقبل بعد فوز إيجون كرنز برئاسة الحزب الشيوعي في انتخابات عام ١٩٨٩. حذفت نسخة الأغنية التي كانت موجودة على يوتيوب، لكن هذه كلماتها:

بالتأكيد، وفي لحظة ما في وقت ما

سيأتي رجل جديد

رجل جديد حقًا سيأتي

ليتولى أمر اللغط

وبعدها سنبدأ

اسمه إيجون

ليس هانس إيكارد وليس شتيقن

ولا فرانس أو أيريس، ولا جونتر أو هرمت أو كلاوس (٥)

نحن نعرف الآن

ماذا يريد؟

ليس من الواضح حقيقة

للأسف أنه وكالعادة ليس امرأة

ولكنه درس في موسكو لمدة طويلة

وقميصه فاقع الزرقة

لكن شعره أبيض بالفعل

من يعرف؟

من يعرف؟

من يعرف؟

هل يستطيع أن يتكلم بحرية؟

هل كان كثير الخطأ في الماضي؟

هل سيتكلم بقلبه أم بعقله؟

بيده اليسرى أم اليمنى؟

سيقود قاطرة دولته السوداء؟

هل سيكون مختلفًا؟

أو مختلفًا في كونه مختلفًا؟

أم سيرفع فقط راية مختلفة؟

أم سيدير رأسه مع الريح؟

من يعرف؟

من يعرف؟

من يعرف؟

هل سيأكل طعامًا صينيًا؟

هل سيشيخ في منصبه؟

حتى ينسى كل شيء عدا شعار:

لا نجاح بلا عمل؟

هل يحلم بأن يصل لسن البلوغ مرة أخرى

أم بقناع أوكسجين؟

هل سيرقص بدبلوماسيّة على حلبة الرقص؟

وهل سيجعله هذا يفقد بعض الوزن أم سيصبح سمينًا؟

من يعرف؟

هذا التسجيل للأغنية نُفّذ في أكبر مظاهرة في التاريخ الألماني: مظاهرة ميدان أليكسندر، يوم الرابع من تشرين ثاني / نوفمبر ١٩٨٩ – والتي شارك فيها ما يقارب المليون متظاهر، والتي قادت لتسارع في الأحداث انتهى بانهيار جدار برلين بعد خمسة أيام فقط.

ألمانيا الموحّدة، والحنين الفاتر إلى لشرق

تدهورت شعبية موسيقى الشرق بعد الوحدة بوتيرة سريعة، ما قاد لاعتزال معظم فنانيها في نهاية التسعينيّات. فغياب الظرف السياسي القمعي المباشر الذي ازدهرت من خلاله موسيقى الاحتجاج، بالإضافة إلى عجز تلك الموسيقى ببساطتها المتعمّدة وضعف إمكانيتها عن الصمود في وجة منافس متطور تقنيًا من حيث الإنتاج والتسويق، قاد قطاعات عريضة من أجيال نشأت تحت النظام الشيوعيّ لنبذ ذاكرتها القريبة المريرة في خضم انبهارها بعالم رأسماليّ جديد، وأفق استهلاكي بلا نهاية.

لكن تلك الموسيقىوالتي وإن صمدت في وجة قمع الشتازي المخيف، سقطت سريعًا أمام ماكينة الرأسماليّة الناعمة، بينما ظلّ يدور فيها حنين الحلم بمجتمع اشتراكيّ عادل بلا طبقات، خالٍ من العوز والظلم والكراهية، حنينًا فاترًا وغاضبًا تكشفه كلمات واحدة من أغاني فرقة فيلينج بي – والتي مُنعت من الغناء أثناء الحكم الشيوعي أيضًا – بعنوان أبحث عن ألمانيا الشرقيّة:

أبحث عن ألمانيا الشرقيّة، وليس هناك من يعرف أين هي

محزنة تلك السرعة التي ننسى بها

أبحث عن ألمانيا الشرقيّة، وعليها أن تعود إلي

وسوف أسامحها

هناك دولة مفقودة من الخريطة

نعم: بين ألمانيا وبولندا

بلد قد سرق


(١) الحركة الموسيقيّة: مصطلح يستخدم في الأدبيّات السياسيّة الغربيّة للإشارة إلى حركة المقاومة التي انخرط فيها الموسيقيين ضد القمع في ألمانيا الشرقيّة. يُستخدم المصطلح، أيضًا، بمقابل مصطلحات مثل الحركة العماليّة في بولندا أثناء الحكم الشيوعيّ، والحركة الطلابيّة في فرنسا أثناء مرحلة الستينيّات المضطربة للتدليل على الدور المحوريّ والاستثنائي الذي لعبته الموسيقى كصوت ووسيلة للمقاومة ضد النظام السياسي السلطوي هناك. (الكاتب)

(٢) ورقة بحثيّة تشير لمصادر تعتمد على محتوى محاضر الاجتماعات والنقاشات، وتشير إلى الجدل الرسمي لأعضاء لجنة الثقافة في الحزب، وإدارة قسم الموسيقى في الحزب والوزارة: Searching for Proper New Music: Jazz in Cold War Germany, Uta G. Poiger

(٣) ورقة بحثيّة تشير لتطوّر التنظير الماركسي عن القالب الموسيقيّ وتطوّره في ألمانيا الشرقيّة، وصولًا إلى الإقرار بحياديّته: The East German Sonderweg to Modern Music, 1956- 1971, Laura Silverberg. إذ كانت الإدارة السوفييتيّة ومثيلاتها في شرق أوروبا تنظر إلى موسيقى الروك كقالب، وبغض النظر عن محتواها، هي موسيقى برجوازيّة وضد الاشتراكيّة. لاحقًا، أقرّت الإدارات بأن قالب الروك ذاته لا يشكّل مشكلة، إنما محتواه. وعليه، يمكن إنتاج موسيقى اشتراكيّة” في قالب الروك وغيره.

(٤) http://thevieweast.wordpress.com/tag/rocker-resolution/

(٥) أسماء أعضاء بارزين في اللجنة المركزيّة للحزب الشيوعي في ألمانيا الشرقيّة.

المزيـــد علــى معـــازف