.
بدأ الربيع الفلسطيني قبل الربيع العربي بربع قرن، عندما اندلعت الانتفاضة الأولى بقرار شعبي عابر للطوائف والفئات، يدعو لاستخدام أهل الأرض حجار أرضهم في طرد الاحتلال بعد أن خذلهم الجميع. كانت الحجارة سجّيلًا على المحتل وبردًا وسلامًا على أهلها، كما نرى في قصة وائل جودة، الفتى الذي اشتهر وقتها بعد تداول فيديو لجنود إسرائيليين يحاولون فيه كسر عظام يده بالحجارة تنفيذًا لتهديدات رئيس وزرائهم إسحق رابين، لكنها لم ثكسر، بل اشتدّت واستعدّت لانتفاضةٍ ثانيةٍ ثم طوفان.
تحل اليوم الذكرى السادسة والثلاثين للانتفاضة الأولى، التي ركزت منذ بدايتها على توظيف الثقافة والفنون ليس فقط لإيصال رسالة الشعب الفلسطيني للعالم، بل لمخاطبة الشعب الفلسطيني نفسه، خصوصًا الأغنية الوطنية التي ضمت جملًا ومفردات تدعم الفعل الانتفاضي بمنتهى الوضوح والصرامة، حدّ أن بعض الأغاني كانت بمثابة بيان سياسي، فيما كان بعض آخر بمثابة نشرات إرشادية لكيفية المقاومة وطبيعة الأدوات التي يمكن استخدامها. في القائمة علامات الأغاني الانتفاضيّة التي ما زالت حتى اليوم الموسيقى التصويرية للثورة.
يمكن اعتبار الأغنية آخر اغاني جورج قرمز الذي اختفى فجأة وظل غيابه سرًا حتى اليوم، بعد أن رفع المعنويات وشحذ الهمم بأغانيه الثورية. لم يعرف الكثيرون عن هوية قرمز وقال البعض أنه من البلدة القديمة في القدس واعتقد آخرون أنه من لبنان، حتى عثر المتحف الوطني الفلسطيني على صورة لقرمز وهو طفل صغير وكان وقتها عضوًا في فرقة البراعم.
أغنية صبرًا لن ينتصر الناب من كلمات الشاعر توفيق زياد وألحان وغناء جورج قرمز. اللحن أشبه بتهويدة طفل، مُشكلّا خلفية مثاليّة لدخول الأغنية بـ “صبرًا لن ينتصر الناب على بسمة طفلي”. لا تتغير حالة اللحن لدى الوصول إلى “وسنذبح ذاك الوحش بتلك الأنياب”، فما زالت تهويدة، لكنها لأطفال الحجارة.
تحكي الأغنية قصة فدائي أردني تشارك السكن مع الشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة في بيروت، أثناء حصارها عام ١٩٨٢. استشهد الفدائي في إحدى المعارك، ومن شدة القصف المتواصل لم يتمكنوا من دفنه إلا عندما هدأ القصف بعد ٣ أيام. تصادف الدفن مع وجود عجوز فلسطينية قالت بلهجة عامية “سبحان الله جرحه لسة أخضر” أي أنه ما زال ينزف، ليكتب بعدها الشاعر قصيدة بالأخضر كفناه ويلحنها مارسيل خليفة.
عام ١٩٨٨ كان الفنانون وسيم الكردي وسهيل خوري مسجونين بسبب نشاطهم الفني، وفي إحدى زيارات عائلة الكردي لابنها في سجن الجنيد استطاع تهريب كبسولة معهم ضمت كلمات الأغنية، ليعاد تهريبها للفنان سهيل في سجن عتليت حيث لحنها وأعاد تهريبها للخارج:
“ع سيوفنا رقصت شمس / من مرجنا حتى القدس
نزلت ع جدران الحبس / ذاب الحديد من نارها”
وينك حرس الحدود كتب كلماتها الشاعر والزجال الفلسطيني عوني البرغوثي، وغنتها فرقة أشبال الحرية وانتشرت ضمن كاسيت جرى توزيعه بالسر، وضم مجموعة قصائد أهداها البرغوثي لأطفال الحجارة ومنها أنا طفل البساتين الخضرا وعالسد شفتو.
خلال مشاركتهم في مؤتمر تضامني مع الشعب الفلسطيني في بروكسل عام ١٩٨٢، بدأ كل من وليد عبد السلام وأسعد الأسعد كتابة كلمات الأغنية وأكملوها في العام التالي عبر المراسلات. غنيت للمرة الاولى عام ١٩٨٤ في جامعة بيرزيت وتحولت لواحدة من الأغاني الأيقونية للانتفاضة بعد ثلاث سنوات.
لا تغيب هذه القنبلة الحماسية عن المناسبات الوطنية والانتفاضات الشعبية الفلسطينية، كما أعيد إصدارها في عدة مناسبات.
كتب كلماتها حسيب القاضي وصلاح الدين الحسيني، وهناك اختلاف حول ملحنها، يقول البعض إنه مهدي سردانة والبعض بقول وجيه بدرخان مدير إذاعة صوت فلسطين (صوت العاصفة سابقًا)، لكن الأكيد أنها من إنتاج الإذاعة التي أنتجت أغانيًا أخرى مثل طل سلاحي من جراحي يا ثورتنا طل سلاحي.
وين الملايين أغنية أيقونية ثانية وواحدة من أهم الأغاني العربية التي ناصرت الانتفاضة، كما جمعت فنانين من مختلف الأقطار العربية. كتب كلماتها ولحنها الفنانين الليبين علي الكيلاني وعمر الجعفري، وغنتها جوليا بطرس من لبنان، أمل عرفة من سوريا، وسوسن حمامي من تونس. تغنّت الأغنية بلكنة حماسية ومفهومة لجميع الشعوب العربية بصمود الفلسطينيين الأسطوري، واستنكرت تخلف العرب عن نصرتهم.
“٨ / ١٢ أشعلناها بايدينا / والعالم كله عم يتفرج علينا / يا فلسطين لاجلك ع الجمر مشينا / والنصر قرّب يا يما وتعدينا” كلمات ترددت حتى في المدارس الفلسطينية، من فرقة اليرموك صاحبة الصولات والجولات في الانتفاضتين.
امتازت الانتفاضة الأولى بظهور العديد من الفرق الإنشادية خاصةً في دول الشتات، مثل الأردن التي شهدت في مدينة الرصيفة ذات الغالبية اللاجئة من فلسطين ولادة فرقة بلدنا، التي غنت حينها للأطفال قبل أن تعدل وجهتها وتنضم لمنشدي الأغاني المُحرضة على الفعل الثوري. ظهرت فرق كثيرة على ذات المنوال على رأسها اليرموك.
في الأغنية تنشد فرقة بلدنا من كلمات الأديب الأردني الفلسطيني إبراهيم نصر الله:
“تلوّى يا شعر الحية على ديي
حبك يا وطن سيفي اللي بيديي
تلوّى يا سجن واغزل للدم قيود
وارفع قضبانك ملِّي هالدنية جنود
من قلّك إنه ما في لاشجاري زنود
زيتونة قتلت خاين بالشبرية.”
استحضر الفلسطينيون أغانيًا كثيرة من فلكلورهم وأعادوا إنتاجها وغناءها ضمن جو الانتفاضة، مثل أغنية على دلعونا التي يُعاد إنتاجها باستمرار، وأعيدت كتابتها بما يتماشى مع جو الانتفاضة الأولى:
“على دلعونا وعلى دلعونا
حنا انتفضنا وما بيهدّونا
من غزة انطلقت أول شرارة
ولبّت جباليا بهمّة جبارة”
بدأت الانتفاضة يوم ٨ ديسمبر/ كانون الأول ١٩٨٧، وكان ذلك في جباليا، في قطاع غزة. ثمّ انتقلت إلى كل مدن وقرى ومخيّمات فلسطين. يعود سبب الشرارة الأولى للانتفاضة إلى قيام سائق شاحنة إسرائيلي بدهس مجموعة من العمّال الفلسطينيّين على حاجز إيرز، الذي يفصل قطاع غزة عن بقية الأراضي الفلسطينية منذ سنة ١٩٤٨.