.
هذه القائمة لا تزال مفتوحة للإضافات والتحديثات. شارك في ترشيح وكتابة الأغاني كل من: زينة الحلبي، نور عز الدين، هيكل الحزقي، رامي أبادير، رين حسن مشورب، ريم بن رجب، عمار منلا حسن، آمنة معرّف ومعن أبو طالب.
سيكون بإمكانكم سماع أغاني هذه القائمة قريبًا في بث خاص على راديو معازف.
في عصر يومٍ صيفيٍ لطيف، جلست مع ابن عمتي الكبير وصديق له لم أره من قبل. تعامل ابن عمتي، الضاحك عادةً، بإجلال ورهبة غريبين، فيما جلس صديقه الشرطي يتحدث ضاحكًا عن مراجله في المخفر الليلة السابقة، وكيف قضىاها يعذب أحد المتهمين بسرقة بسيطة. ربما هكذا ينشأ الشرطيون الجدد، متلذذين بأفعالهم، مطمئنين إلى أنهم ينتمون إلى تقليد مديد وطويل، لا مساءلة فيه ولا حساب، سواءً في بلادنا أم في الغرب. قد توجد اختلافات بين انتهاكات الشرطة وفقًا للمنطقة والسياق – فبينما تتركز هذه الممارسات ضد الأقليات وتأخذ طابعًا عنصريًا في الغرب، تأخذ طابعًا أكثر شموليًا وتوجه ضد كافة الشعب في العالم العربي – إلا أن السردية التي تتشكل في نهاية المطاف متشابهة؛ سردية تدعو لاستبدال التظلم بالمواجهة، شحذ الهمم بدلًا من إدارة الخد الآخر، وفي ذات الوقت سردية تربط الحاضر بالماضي، وتذكرنا بأن تعديات الشرطة (بكل أسبابها وتداعياتها) من المشاكل التاريخية للبشر، ولا بد من حلول راديكالية لها.
لمن لا يعرف كم رصاصة أطلق رجال الشرطة على الشاب الأمريكي الأسود، لاكوان ماكدونالد، وهو يمشي بعيدًا عنهم، فإن فيك منزا يعدهم واحدة واحدة، في هذه الأغنية التي صدرت مع تماسك وتبلور حركة بلاك لايفس ماتر عام ٢٠١٦. يفجر منزا غضبه على أصحاب البزّات الزرق، الذين يطلقون النار على المراهقين ويدهسون طفلة في التاسعة من عمرها. يبعد منزا نفسه عن الراب الواعي سياسيًا وكأنه تهمة: “هذا ليس راب واعي، هذا راب جاهل”، ويدعوا إلى عدم إدارة الخد الآخر، بل إلى الانتفاض والتضحية في سبيل تغيير الواقع ورفض الاضطهاد: “لا أستطيع تخيل أن يحصل هذا لوالدتي / أن يسرقوا ابنها البكر منها / لم يحظ بفرصة، وكلنا نعرف السبب / لأنه أسود. ١٦ رصاصة، بشو كانوا بيفكروا؟”
حذف شب جديد هذه الأغنية بعد وقتٍ قصير من صدورها، لكن الجمهور المتعصب للرابر الفلسطيني وجد هذه الفترة كافية لتنزيل الأغنية وإعادة رفعها على عدة منصات، لتصبح إحدى المفضلات لدى سميعة الراب العربي، خاصةً لدى المستمعين المتنافسين بتجميع واكتشاف النسخ المفقودة من الأغاني. يعرف شب جديد بصوته الذي يجامل الأوتوتيون، خاصةً حين يغني اللازمات، ولاستخدامه الكاريزماتي والشقي للغة الشارع، لذا كان من الطبيعي أن تعلق لازمة أوما أوما بآذان الجميع: “أوما أوما أوما / إيري في الحكومة / إيري في لوحات الشرطة / تضوّي، تعمي عيونّا / ياما فتّشونا، لما مسكونا … “
أوما أوما واحدة من عدة أغاني يتناول فيها شب جديد ثقافة الحواجز واعتقالات الشارع، التي تعد من خصوصيات علاقة الشباب العربي تحديدًا مع الشرطة. بينما تندلع معظم أحداث عنف الشرطة في الغرب إثر حملات أو حوادث أو بلاغات واتهامات كاذبة، تجاوزت الشرطة في دولنا ضرورة وجود فتيل يشعل عنفها، حتى أصبح كل خروج من المنزل – أو تنقل من منطقة إلى أخرى – عبارة عن جولة محتملة مع الشرطة، بما يلغي وجود أماكن أو أوقات آمنة.
كتعاملها مع أي نوع من التجمع أو الجمهرة، عاملت الشرطة المصرية ألتراس النادي الأهلي بالسوء. لطالما خرجت بقوانين تضيق عليهم أسلوبهم في التشجيع، كمنعهم من إشعال الشماريخ (نوع من المفرقعات يضيئ باللون الأحمر)، أو إجبارهم على خلع ستراتهم الحمراء قبل الدخول إلى الملعب. بعد ثورة يناير بشهر، هتف الألتراس في مباراة النادي الأهلي ضد كيما أسوان في أستاد القاهرة الدولي، بأغنية اسمها الغراب. تحكي الأغنية عن شخص فاشل في الثانوية، وصل بالرشوة إلى مركز مرموق، وتنتهي بهتاف ضد الغراب في إشارة ضمنية إلى شكل عناصر الشرطة بزيّهم الأسود.
” يا غراب ومعشش جوا بيتنا
بتدمر ليه متعة حياتنا”
في شباط / فبراير من ٢٠١٢، ردّت الشرطة العسكرية على الألتراس، وهيأت الظروف لواحدة من أبشع المجازر في تاريخ الألتراس، وقعت في ملعب بور سعيد. توفي ٧٤ شابًا من صفوف الألتراس، ما فتح بوابة للكثير من الأغاني ضد المجلس العسكري، بما في ذلك التجرأ على تسمية الشرطة باسمها في أغنية الغراب اثنين:
“قالك شرطة فى خدمة شعب
الشرطة تموت علشانك
الخدمة ليك من القلب
ابنك هيموت قدامك”
عندما تستمع إلى هذه الأغنية بمعزل عن الفيديو، يساورك شعور بالأمل. يتحدث بوجي عن احتياجاته في الحياة، بنزعة كمالية – حياته كما يصفها لا تبدو سيئة، لكنها تحتمل التحسين. على كلٍ، يأخذ هذا الكلام معنًى آخر عند مشاهدة الفيديو، حيث يقف بووجي على منصة في معرض فني شبه فارغ، يتجول فيه أشخاص يبدو عليهم الرفاه المالي، بينما يمسك بووجي بقميصه مرفوعًا ليكشف عن الجرح الحديث والرطب في خصره. كل أحلام بووجي بحياة مثالية هي أحلام، مادة ترفيهية للثقافة البيضاء التي تستحوذ ثقافيًا على الراب، أما الواقع الوحيد فهو الرصاصة.
أصدر الرابر التونسي علاء الدّين اليعقوبي والمعروف بـ ولد الكانز سنة ٢٠١٣ أغنية البوليسيّة كلاب، التي كانت نقطة تحوّل في مسيرته. البوليسيّة كلاب أغنية لاذعة ومُتحرّرة من الضوابط والأخلاقيّات، وضعت تحت المجهر النظام البوليسيّ الفاسد والمتحكّم في الرقاب. لم يختف ولد الكانز وراء التنميق والمجاز لإيصال رسالته والتعبير عن غضبه، فقد كانت عباراته واضحة ومباشرة مثل طلقة حيّة. تحدّث عن التضييق والقمع الممنهج ضدّ أبناء الأحياء الشعبيّة، وعن فساد البوليس من رشوة ومحسوبيّة، واعتبر أنّه المسؤول الأوّل عن انتشار المخدّرات في البلاد، حيث تقول كلمات الأغنية: “أرجل واحد في الداخليّة فاسد وطحّان (…) كوكايين، زطلة وكيتامين ماكم انتوما تجيبوا فيه، قلّي الدروغ (المخدّرات) جاي منين؟ ماكم انتوما تبيعوا فيه، انتوما اللحّامة (اللّحام في العاميّة التونسيّة هو بائع المخدّرات) الكبار. احنا حطّمتونا بالعقّار ملّي كنّا ولاد صغار.” واجهة ولد الكانز حزمة واسعة من التهم، من التحريض على العنف وأداء أغنية مهينة للشرطة والتجاهر عمدًا بفحش والمشاركة في عصيان والاعتداء على الأخلاق الحميدة والآداب العامّة، وحُكم عليه ابتدائيّا بالسجن لمدّة سنتين، ثم حُكم عليه في الاستئناف بالسجن لمدة ٦ أشهر مع وقف التنفيذ ليُطلق سراحه بعدها. تجنّد مئات النشطاء والناشطات الحقوقيّات ومغنّي الرّاب وفنّانات وصحافيّات ومثقّفين للدفاع عن قضية ولد الكانز في الشارع وفي المنابر الإعلاميّة وعلى مواقع التواصل الاجتماعيّ، معتبرين الحكم عليه مسّا بحريّة التعبير التي يضمنها الدستور، خاصّة وأنّ المحكمة غير مؤهّلة لتقييم عمل فنيّ. تظلّ أغنية البوليسيّة كلاب من أهم وأقوى الأغاني ضدّ الشرطة في تونس، لما أثارته من جدل واسع حول معضلة الفنّ والحريّة بعد الثورة.
عندما أصدر الرابر الفرنسي جو لي فينو أغنيته بافور في أيلول / سبتمبر ٢٠١٦، والتي قال فيها: “أبول على العدالة وعلى أم رئيس المخفر”، احتجت الشرطة الفرنسية ممثلةً بعملائها ونقاباتها ووزير داخليتها آنذاك، برنار كازانوف، الذي رفع شكوى ضد الرابر بتهمة نشر الكراهية ضد البوليس. انتشرت الأغنية بين شباب الضواحي الباريسية المهمشة التي انتمى إليها جو لي، إذ كتب الأغنية كردة فعل على غطرسة البوليس في تلك الأحياء. يسرد جو لي كيف اقتحم البوليس حيهم السكني في الدائرة ٢٠، ووجدوا أحد الأطفال السود مرتديًا لقميص كُتب عليه “موز”، في كناية إلى اسم الشهرة للحي. تعرض الطفل إلى تعليقات عنصرية من أحد رجال الشرطة الذي قال له: “هل أنت متأكد من أنها كنية الحي؟ ألا تذكرك ببلدك الأصلي.” لاحقّا ذلك الصيف، توفي أحد شباب الحي، آداما تراوري، في مخفرٍ للشرطة، ما أشعل موجة من الاحتجاجات العارمة ضد البوليس. جمّع جو لي فينو حنقه من كل تلك الأحداث، وأصدر أغنيته بافور، التي أعقبها بِ بافور ٢.٠ كردٍّ على الشكاية التي توجه بها وزير الداخلية والنقابات ضده.
سنة ٢٠٠٥، رجع فريد اكسترانخيرو من إسبانيا إلى تونس لزيارة عائلته، حيث جرى توقيفه في المطار، وتعرّض إلى مناوشات مع البوليس. زار فريد عائلته، وقبل المغادرة، ترك قنبلة موقوتة، أغنيته لعباد في التركينة، التي ستحدث الأثر الأكبر في تاريخ الغناء السياسي في تونس، وفي الراب بصفة خاصة.
في ذلك الوقت، كان الراب في تونس سجين بعض المحاولات الخفيّة. لم يتجاوز عدد الرابرز النشطين أصابع اليد الواحدة، بلطي وتيمان وولاد البلاد وباب سعدون، وسليم الأرناؤوط الذي انسحب مبكرًا. كان فريد أحد هؤلاء. سجّل الأغنية سرًا، ونقلها إلى هواتف بعض أصدقائه. انتشرت الأغنية كالنار في الهشيم، دون أن يعلم أحد من كان ورائها. ثارت ثائرة البوليس، وتحركت الفرق الأمنية لإيقاف الرابرز واستنطاقهم حول الموضوع – وصل بهم الأمر إلى تفتيش الهواتف المحمولة والحواسب، بحثًا عن الأغنية وإيقاف من كان يستمع إليها. تسببت الأغنية في اعتبار الراب موسيقى محرّمة وممنوعة، مثل المزود في الستينات والسبعينات عندما منعه الرئيس الأسبق، بورقيبة.
مثّل فريد البورتريه المثالي للرابر المتمرد، فهو ابن منطقة الجبل الأحمر، أحد أكثر الأحياء الشعبية في تونس، ومن الأماكن العصيّة على البوليس. من عائلة فقيرة وكبيرة فيها عشرة أبناء، انقطع مبكرًا عن الدراسة، جرّب محاولة الحرقة (الهجرة غير الشرعية)، وعاش تجربة السجن. كتب فريد نص الأغنية انتصارًا للأحياء الشعبية المهمشة في تونس وصراعاتها المتكررة مع الفرق الأمنية. تحولت الأغنية إلى مسلّة الراب السياسي في تونس، وألهمت أجيالًا من الرابرز الذين احترفوا الراب تأثرًا بـ لعباد في التركينة – فيما أصبحت مفرداتها المشبعة بالتمرد والمباشرة قاموسًا للرابرز. شهدت الأغنية موجة احتفاء ثانية أثناء الثورة، وغذّت المواجهات ضد البوليس، كما تشبّعت بحمولة رمزية مضاعفة إثر سقوط بن علي.
ينظر العديدون إلى تسجيلات خام (Raw Footage) كآخر ألبومات آيس كيوب العظيمة، قبل أن ينحبس في تصنيف الراب الكلاسيكي. تتصدر الألبوم أغنية وصفها البعض على يوتيوب بأنها “أفضل من مسيرة درايك“، أغنية تجسد بشراسة الملامح التي حددت راب العصابات منذ أيامه الأولى: بُعد النظر وسط الفوضى، التأريخ الحذق والحيوي للواقع، والتحريض بدلًا من التشكي. تضع الأغنية عنف الشرطة ضد الأقليات في الولايات المتحدة ضمن سياقه، تدحض الخطابات التي تحاول إضفاء المشروعية عليه أو تبريره، وتربطه بتجليات أخرى للعنف ضد العُزَّل، كجرائم الجيش الأمريكي في معتقل أبو غريب. إحدى أولى المشاهد الأرشيفية التي تظهر في فيديو الأغنية، هي تلك التي تصور أحداث الشغب المندلعة في لوس آنجلس عام ١٩٩٢، بعد أن برأت هيئة محلفين أربعة ضباط شرطة متورطين بالاستخدام المفرط وغير المبرر للقوة ضد مدني أمريكي أعزل ذو أصول أفريقية.
تعتبر منطقة الحوض المنجمي (الجنوب الغربي) من أكثر المناطق المهمّشة في تونس، فقد ارتبطت تاريخيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا وبيئيّا بشركة فسفاط قفصة التي تأسّست سنة ١٨٩٧. خاضت المنطقة صراعاتٍ مع المحتلّ الفرنسيّ ومع نظام بورقيبة وبعده بن علي. ففي ٥ كانون الثاني / يناير ٢٠٠٨ احتجّ أصحاب الشهادات العليا بالرديّف ضدّ نتائج مناظرة الانتداب في شركة فسفاط قفصة مُطالبين بإلغائها، وقاموا باعتصام داخل المقرّ الجهويّ للاتحاد العام التونسيّ للشغل. لم يقف الأمر عند شباب عانى البطالة والتهميش طيلة سنوات، فقد دخلت على الخطّ عائلاتهم التي نصبت خيامًا أمام مقرّ الاتّحاد. تطوّرت قاعدة الاعتصام تدريجيّا وانخرط فيه جميع أهالي مناطق الحوض المنجمي مثل أم العرايس والمتلوّي والمضيلّة، ليتحوّل إلى انتفاضة شعبيّة رُفعت خلالها شعارات ثوريّة تنادي بالتنمية العادلة والحق في العمل لأبناء الطبقة الكادحة.
جُوبهت الانتفاضة بالقمع والرصاص الحيّ، حيث أرسلت السلطة آنذاك قرابة ٢٠٠٠ شرطيّ لمحاصرة الرديّف واعتقال المحتجّين والمحتجّات. كانت مشاهد المواجهات الدامية مع بوليس بن علي سرياليّة في تلك الفترة، ورغم الحصار والضغط على السلك القضائيّ والتعتيم الإعلاميّ والعنف البوليسيّ استمرّت الانتفاضة لستّة أشهر سقط خلالها ٤ شهداء وعشرات الجرحى. وسط صخب الشعارات والقمع والتضييق غنّى الفنّان بيرم الكيلاني، المعروف قبل ثورة ٢٠١١ باسم بندير مان، أغنية الرديّف، التي كانت ردّا قويّا على التعذيب والانتهاكات البوليسية لأبناء وبنات الحوض المنجميّ. يقول في الأغنية التي كتبها الناشط السياسي والمخرج السينمائي غسّان عمامي، واصفًا ملحمة الرصاص الحيّ: “وشّم صدري بالكرتوش وإسقي بالدّم ترابي، هاكم روحي خوذوها نفديها لأرض أجدادي، وشام في لحمي نار، أيّامي أيّام ولياليّ نهار، لا البحر الساكت لا الواد الهرهار، طوفان القهر هازّة ديار.” يُنادي بندير مان في بداية الأغنية على البشير خريّف، أحد أهمّ الكتّاب التونسيّين، كي يرى ما حلّ بأهالي الرديّف ويستعين مجازيّا بعنوان رواية الدقلة في عراجينها ليصف حال الجنوب التونسي: “سيدي البشير خريّف، أرّاح (تعالى) شوف حال الرديّف، الدقلة (من أجود أنواع التمور) في عراجينها (من العرجون) هزوها من حينها، باعوها بالدينار.” لم تكن هذه الإحالة اعتباطيّة، فرواية البشير خريّف، الدقلة في عراجينها، من الروايات التي حفرت عميقًا في القضيّة العمّالية في الجنوب التونسي وقت الاحتلال الفرنسيّ، وخاضت في سرديّة الانتماء إلى الأرض، والتي كانت انتفاضة الرديّف تتويجًا لها.
“هو هو فلنحذر، الشرطة في كل مكان”، تحضر لازمة أغنية جون فيرا، هوهو ميفيون نو، كشعار محبذ للمتظاهرين في كل مناسبة تندلع فيها المواجهات ضد الشرطة في فرنسا.
عاش فيرا حياة مضطربة. أثناء الحرب العالمية الثانية، أُلقي القبض على والده الذي قضى نحبه في معتقلات أوشفيتز في بولندا. اضطر فيرا طفلًا إلى الاختباء بين الشيوعيين في فرنسا، فيما بقيت عائلته ملاحقة من الجستابو وبعضها متحصنًا في الجبال. خلال السبعينات، رسّخ فيرا اسمه كأحد أعلام الأغنية السياسية الملتزمة في فرنسا، وأصبح يذكر إلى جانب الثالوث الأيقوني جاك برال وليو فيري وجورج براسانس. كما عُرف عنه اقترابه من الحزب الشيوعي آنذاك. شهدت تلك الفترة ذروة الأغاني الاحتجاجية، خاصة مع نضج إرث حركة ماي ٦٨. غنّى فيرا هوهو ميفيون نو، التي أرّخت لولاية جورج بومبيدو، وتعرّض فيها المغني بشكل ساخر إلى اختراق البوليس للحياة العامة واحترافهم التجسس: “عندما لم تسعفه الحيلة، دعاني إلى بيته لشرب كأس ومناقشة أفكار ماوتسي تونج.”
“الغضب الأسود مبني على ثلثي شخص (إشارة إلى النظرة العنصرية للسود باعتبارهم من مرتبة أقل) / مبني على اغتصابات وضرب ومعاناة لا تنفك تسوء (…) عندما تعض الكلاب (إشارة لاستخدام الشرطة الأمريكية للكلاب ضد محتجي حركة الحقوق المدنية في الستينات) / وعندما يبدأ الضرب” تروي هيل تاريخ الغصب الأسود، وآثاره على الأمريكان السود الذين عليهم أن يناضلوا لمجرد الحياة، كما فعل أجدادهم. أعادت هيل إصدار نسخة من الأغنية في ٢٠١٤، بعد عامين من صدورها، لتواكب الاحتجاجات التي شهدتها مدينة فرجسون تحت شعار: “يداي في الأعلى، لا تطلق النار”، على إثر قيام شرطي بإطلاق النار على شاب أسود أعزل.
في الخامس عشر من آذار / مارس ٢٠١١، ازدحمت شوارع مدينة درعا السورية بمظاهرات حاشدة، ضد الشرطة السورية التي اعتقلت وعذّبت عددًا من الأطفال قبل أيام، لكتابتهم شعارات منددة بالنظام على جدران مدرستهم. سميت الاحتجاجات ذلك اليوم بجمعة الكرامة، وانتهت بزخ قوات الأمن والشرطة السورية للرصاص الحي على المتظاهرين العزّل، وقتل العديد منهم.
جاءت أغنية يا حيف بعد أيام من هذه المجزرة، استمدت بعضًا من كلماتها من شعارات المتظاهرين “اللي بيقتل شعبه خاين”، قبل أن تتحول باقي كلماتها إلى شعارات استمر المتظاهرون في سوريا بترديدها لسنوات تالية. كانت يا حيف أول أغنية مؤيدة للثورة تصدر عن موسيقي سوري معروف، ولا تزال حتى اليوم الأكثر شعبيةً. بأخذ توقيت صدورها بعين الاعتبار، يمكن ملاحظة ذكاء كلمات سميح شقير ونبرته العاطفية، التي رغم إقفالها الباب على أي مجال للتبرير أو التعاطف مع ما يرتكبه الأمن، عبّر ميلها نحو العتاب والتحسر عن الأمل الشعبي بأن ينشق عناصر الأمن عن النظام، وأن يعودوا إلى صف الشعب باعتبارهم أبناء هذا الشعب. تبع صدور الأغنية بالفعل بموجات واسعة من الانشقاقات التي شملت قوى الأمن والشرطة والجيش نفسه.
البوليس هو العدوّ الأوّل لمجموعات الألتراس في تونس، التي دائمًا ما تتعرّض إلى القمع والاعتقالات والتنكيل. وصل الأمر إلى قتل مشجّع النادي الإفريقيّ عمر العبيدي (٢٢ سنة) بعد مباراة مع فريق ألومبيك مدنين سنة ٢٠١٨. مطاردات ومواجهات دامية مع الشرطة داخل الملعب الأولمبيّ في رادس وخارجه انتهت بمحاصرة عمر العبيدي على حافة واد مليان، أحد أكبر الأودية في تونس، وإرغامه على النزول كي يسبح رغم تأكيده لأعوان الشرطة بأنّه لا يعرف السباحة، لكنّ أحدهم قال له متهكّما: “تعلّم عوم.” نزل عمر إلى الوادي تحت الضغط ومات غرقًا، وتحوّلت الجملة الساخرة “تعلّم عوم” إلى حملة واسعة تطالب بمحاسبة قتلة عمر العبيدي.
غنّى كثيرون على هذه الحادثة بنفسٍ نزقٍ وغاضب، بما في ذلك أغنية يا حياتنا لجمهور الإفريقيّ التي صدرت أواخر ٢٠١٩، وكانت صرخة ممزوجة بالوجع والانكسار خاصّة بعد قرار المحكمة بختم الأبحاث في قضيّة عمر، وإخلاء سبيل المتّهين تمهيدًا لمقاضاتهم بتهمة القتل غير العمد. تقول كلمات الأغنية لوصف حالة الخذلان: “عمر ولد الفيراج إنشاء الله في الجنّة ندعولو بالرّحمة في قبرو يتهنّى، بلاد غبينة ما عندك ما تستنّى، نجيبو حقّو لآخر دقيقة عنّا، يا القاضي طالبين الحقّ ملّينا من الكلام الفاضي.” رغم مرارة الخذلان والإحباط من القضاء ومن الأوضاع في البلاد، احتوت الأغنية على مقاطع تجييشيّة ضدّ الحاكم (الشرطة في اللسان التونسي)، تصف بوضوح فساده وانتهاكاته: “في كلّ دورة (في كلّ مكان) الحاكم رشوة وجعالة، شحال (كم) من حومة عايشين تهميش وبطالة، ناس مقهورة صارت زطلة وسكارى.”
حملت هذه الأغنية عنوان الألبوم الثاني لفرقة النويز روك سوانز، والصادر في ١٩٨٤. ينتقد المغني مايكل جيرا عنف الشرطة الذي يخلق خوفًا على مستوى وجودي، ويصور ألم التعرض للضرب من الشرطة كألم مجتمع يتعرض للقسوة من الأفراد الذين يدفع لهم لحمايتهم. يركز جيرا على العنف المفرط وغير المبرر، الذي لا يتناسب مع الجريمة، ويتساءل كيف للشرطة أن تحمينا من الجريمة إن كانت الوسائل التي يستخدمها رجال الشرطة تحولهم إلى مجرمين ومنتهكين للعدالة؟
يلعب تشايلدش جامبينو في هذه الأغنية على مجاز البوجيمان، الوحش الخيالي الذي يخيف الأطفال، للحديث عن خوف البعض من الرجل الأسود بسبب الصور النمطية العنصرية. ترتبط الكثير من أغاني هذه القائمة بقيام رجال الشرطة بإطلاق النار على شبّان سود عزّال، انطلاقًا من القناعة العنصرية لدى رجال الشرطة العنصريين بأن ضحاياهم لا بد وأنهم مصدر للخطر أو التهديد، أو أنهم قد ارتكبوا جرائم بالفعل. يهدف جامبينو في هذا السياق لتوريط الإعلام والساسة والعنصريين على وسائل التواصل الاجتماعي، ويذكرنا بأن الصور النمطية التي ينشرونها تضع أصبعهم على الزناد الذي تطلقه الشرطة. بإمكاننا سماع أصداء مبكرة لـ ذيس إز أميركا في هذه الأغنية، التي تعد عينة من أرشيف أغاني جامبينو التي تنتقد تراتبية المجتمع الأمريكي والنظام الذي يحكمه.
من الصعب العثور على أغنية لشب جديد موجهة ضد الشرطة من أولها إلى آخرها، لكن ثيمة الصدام مع الشرطة، وهي في حالته أكثر من مجرّد شرطة، حاضرة في معظم أغانيه المنفردة، وسائدة في ألبومه الطويل الأوّل، سندباد. في ولاد قدس، يصف شب جديد انتماءه في اللازمة: “ولاد قدس / بنخافش من جندي إذا جاي يطخ / بنخافش من شرطي إذا حاملين بوف”، فيما أصبح المقطع من أغنية سندباد، الذي يصف فيه اعتقاله والإفراج عنه، دليلًا على ما يمكن للراب العربي تحقيقه باستخدام اللهجات العامية في المنطقة:
“وأنا سندبادي بادي / شغلي ماشي ماشي
شرطي شافني ماشي / رحت اتفتش
يي مسك بيضاتي / شرطي شكله لوطي
شلتي بعرفوني / وقت اتنرفز
يلا الحقوني / رحت اتمركز
لما يمسكوني / نام بالمركز
غاد بتدلل بتفرهد برتاح
نام بسكوني بفيق وأنا بجهز”
في تشرين الثاني الماضي، بعدما أنهى الراس حفله في ساعة العازرية لحشد من مئات المتظاهرين، استغل البعض مكبرات الصوت المنتصبة وشغلوا سندباد ومتكتك، كإضافات جديدة لأرشيف أغاني التظاهر والصدامات، فيما كان البعض يقتبس “نيكه إذا نكرز، لأنو مصيرو أنيكه إذا نكرز اييه” كنكتة داخلية للتهكم على عناصر الشرطة والأمن.
سجلت فرقة بلاك فلاغ هذه الأغنية قبل فك ذ بوليس بسبعة أعوام، إذ كان رجال الشرطة غالبًا ما يحلوا كضيوف غير مدعوين على حفلات الفرقة. تشير كلمات الأغنية إلى العنف المترسخ في عقول رجال الشرطة، وإلى وجود حرب قائمة بينهم وبين أي فرد حر، طوال الوقت. لأنها كانت من الأغاني المبكرة التي هاجمت الشرطة بهذه المباشرة في الموسيقى الغربية المعاصرة، وصفت الفرقة حربنا مع الشرطة على أنها حرب لا يمكن الفوز بها، إلا أنه علينا خوضها على كل حال. ترينا الأغنية كيف تطور وانتشر خطاب معاداة الشرطة مع الوقت، ليتجاوز اليوم حتمية فوز الشرطة ويعيد المعركة إلى حالة مفتوحة النهايات.
سنة ٢٠٠٦، قام سكيح، أحد أبرز قيادات مجموعة البريجاد روج (الكتيبة الحمراء) التابعة لفريق النجم الرياضي الساحلي، باقتباس ألحان أغنية وليد الصالحي بعدوني عليك، وكتب واحدة من أهم أغاني جمهور كرة القدم في تونس، المناهضة لقمع الشرطة. تصف الأغنية عمليات المداهمة التي تقوم بها فرق التدخل، والاعتقالات والتنكيل الذي يتعرض إليه مرتادو ملاعب الكرة. “هزوني بالمتراك (هراوة) والمينوت (الأصفاد) / ضربوني ياو منهم ريت الموت / ضرّوني بدني الكلو سقوط (أضرار) / أه يا الحكومة ربي في الوجود.” لم تتوقف الأغنية عند سرد واقعة اعتقالٍ فقط، بل توعدت بالعصيان والشغب “مازال الدهر طويل ومازالت الأيام / يا الحكومة باش تشوفو الإجرام”، ما خلّف في فترة لاحقة تبِعات قضائية لأصحابها، ولِجُل مجموعات الألترس التي غنت ضد الشرطة.
تظافرت كل العوامل لتحويل رينو إلى مغنٍّ نزق مشبع بالحنق الأناركي. ولد الفرنسي لأم من عائلة لها تقاليد نقابية شيوعية من عمال المناجم، وأب اشتراكي. في أحداث ماي ٦٨، احتفل رينو بعيد ميلاده السادس عشر في قلب المظاهرات، وعلى خط المواجهات مع البوليس، كتب أثناءها موتي أيتها العاهرة التي تحولت إلى نشيد للمتظاهرين، وكانت بمثابة مانيفستو أرّخ للسردية النضالية لـ ماي ٦٨. مثّلت تلك الحقبة من تاريخ فرنسا الحدث السياسي الأبرز في حياة رينو، الذي تأثر بالخطابات الحماسية في الشوارع والجامعات، مع أيقونات مثل دانيال كون بنديت الملقّب بالأحمر، وسطوع نجم ليو فري الذي ألهم الأناركيين في فرنسا.
رجع رينو سنة ١٩٧٥ بأغنية هيجزاغون من ألبوم آموري دي بانام، التي أرّخ فيها بشكل موجز وساخر لحياة الفرنسيين وكبرى الأحداث التي عاشوها على مدار سنة، موجهًا كل غضبه وحنقه على دولة البوليس كما سماها: “فرنسا بلد البوليس، هنالك مائة منهم في كل ركن من الشارع، لفرض النظام، فيما يقتّلون الناس بدون خوفٍ من العقاب.” لم يفت رينو أن يعود إلى أحداث ماي ٦٨ مع شعور بالحنق والمرارة: “سيتذكرون أنه ذات شهر ماي، سال الدم أحمرًا وأسود، من ثورة غير مكتملة، أوشكت على تغيير التاريخ.” مُنعت هيجزاغون من راديو فرانس أنتر، ومثّلت إلى جانب العشرات من الأغاني التي أصدرها رينو معجمًا ضد غطرسة البوليس. رجع الشباب الفرنسي مؤخرًا أثناء أحداث السترات الصفراء إلى ترديد أغاني رينو أثناء المواجهات مع البوليس.
صدرت هذه الأغنية بعد فك ذَ بوليس بخمسة أعوام، واستُخدمت عيناتٌ منها في أكثر من ٢٠٠ غنية، لتصبح واحدة من الكلاسيكيات المبكرة للراب الاحتجاجي. بشكل مشابه للكثير من الأغاني في هذه القائمة، يطال التمرد في الأغنية جانبها الأسلوبي، إذ ساهمت الطريقة التي يستخدم بها كاي آر إس صوته في اللازمة لتقليد صافرة سيارات الشرطة في نجاح ساوند أُف دا بوليس. تشدد الأغنية على الفكرة التي يصرخ بها جزء كبير من مكتبة الراب الاحتجاجي: “لم يتغير شيء مع الوقت”، إذ يقول كاي إس آر: “بعد ٤٠٠ سنة، لا أزال لا أملك خيارات”، ويضيف: “الشرطي لديه حق بالتطاول عليك / ولو قاومت فلديه الحق بقتلك.”
يقوم فيديو هذه الأغنية على مشاهد من المظاهرات التي شهدتها بيروت بعد أزمة النفايات عام ٢٠١٥. تظهر في منتصف الفيديو خشبة طويلة، علّق بطرفها خيط يحمل ورقة نقدية من فئة الخمسين ألف ليرة، يلقيها أحد المتظاهرين أمام أعين قوات الشرطة في إشارة إلى المبلغ الذي يتلقونه عند الرشوة. بعد الرقص والهرج والأصابع الوسطى المرفوعة في السماء، أتى الرد قاسيًا. في مشاهد أخرى من الفيديو، تركض الشرطة خلف المتظاهرين في الشوارع، تتزامن كلمات بوناصر الطفار “أنت قناني عم تنضرب” مع صور قنابل الغاز المسيل للدموع. في المقطع التالي، يقول الراس “راسي بارد / قد ما تورموا وتسخنوا” في إشارة إلى تعرض عدد من المتظاهرين إلى الضرب على الرأس بهروات الشرطة. تنتهي المشاهد بصور عناصر الشرطة الراكضين “بسرعة” كما يقول واحد من الضباط وراء المتظاهرين، بعد أن أخافوهم بإطلاق الرصاص في الهواء.
صح، هذه إحدى خيارين واضحين في أي قائمة أغاني ضد الشرطة. لو قسّمنا الراب الاحتجاجي إلى حقبتين رئيسيتين، فمن السهل تمييز فك ذَ بوليس كالأغنية النموذجية للحقبة الأولى، بينما تتقاسم أغنيتان هذه المكانة في الحقبة الثانية: نيو سلايفز لـ كانيه وست، وأولرايت. شكلت هاتان الأغنيتان لحظة هامة في انفتاح الراب الاحتجاجي على الثيمات الشخصية واحتوائها، لينتج عن ذلك مجموعة تُحَف معاصرة، تحافظ على ميراث المواجهة الجريئة ورفع الإصبع الأوسط، فيما تفتح الباب على أساليب تعبير أكثر ديناميكية وَسِعةً بالموارد، أو كما قال الرابر الإنكليزي جايكا حول حاضر الموسيقى الاحتجاجية في مقابلته مع معازف: “حقيقة أنني لا أزال موجودًا هي احتجاجٌ على أمورٍ معينة.”
لا تأتي ضراوة هذه الأغنية من عنوانها وكلماتها فحسب، بل من إصرار جاي ديلا على إصدارها في موعدها الأصلي، الذي تصادف أن يأتي بعد أحداث ٩/١١ بأسبوع، رغم تسبُّب ذلك بخسارته شركة التسجيل (إم سي آي) التي كان من المفترض أن تُصدر الأغنية. يبدأ جاي ديلا الأغنية بتنويه حذر، تفيد بعض الروايات أنه جاء من تعاطفه مع الشرطة الذين ماتوا في عمليات إنقاذ ٩/١١، لكن هذا التنويه الأخلاقي يُتبع باستدراك حاد، بتهنئة لكل شخص قتل شرطيًا من قبل: “بإمكاننا أن نخسر بعضًا منهم، لدينا الكثير منهم.” تعرض ديلا (الذي عمل كشرطي مبتدئ لفترة) للاضطهاد العنصري من قبل الشرطة بشكلٍ ممنهج، لدرجة أنه شعر بأن الأغنية لم تكن كافية وفكّر بتسجيل جزءٍ ثانٍ منها. تتصل الأغنية مع باقي الراب الاحتجاجي من حيث التركيز على التاريخ والسياق، فتظهر على غلافها صور للسجين السياسي موميا أبو جمال، الذي ينتظر حكمًا بالإعدام لاتهامه بقتل رجل شرطة، المهاجر الغيني أمادو ديالو، والناشط رودني كينج، أو كما يقول ديلا: “الأمر أكبر من مشكلة مع الشرطة / (عندما نكون) في الشارع مع الشرطة، نحن في معركة بقاء.”
عندما تسلّم بورقيبة الحكم في تونس بعد الاستقلال، بدأ بفرض لاءاته على أنواع موسيقية اتهمها بالسقوط. كان المزود مغضوبًا عليه من طرف النظام، إذ انتمى أغلب مغنيه إلى الأحياء الشعبية، وكان البعض منهم أصحاب سوابق. امتزجت ثقافة المزود بالحي الشعبي، واحتفت بصورة أبطاله المحليين التي نافست في رمزياتها صورة المجاهد الأكبر والزعيم، التي أراد النظام فرضها لتمجيد صورة بورقيبة وفسخ أيَ بطولاتٍ تُنسب لغيره، وإن كانت من الفتوّات (الباندية في العامية التونسية) في المدن والأرياف.
كان صالح الفرزيط أحد مغني المزود الذين انتموا إلى قاع المدينة (اعتمد المؤرخ عبد الواحد المكني في كتابه المعادلة الصعبة مصطلح قاع المدينة كترجمة مباشرة لأفكار الباحثة الفرنسية كوليت بيتوني، للإشارة إلى عالم المدينة السفلي ومهمّشيه). عاش الفرزيط في أحد الأحياء المغضوب عليها من نظام بورقيبة، بتهمة أن الحي كان محسوبًا على الطرف اليوسفي أثناء الأزمة السياسية التي عصفت بتونس في عيد الاستقلال (نسبةً إلى الصراع اليوسفي – البورقيبي). مرّ الفرزيط بالسجن، وتشبع بتراث الزندالي، كما جاور مساجين اليسار وتأثر بهم. أدّى الفرزيط أغنية ارضى علينا يا لميمة، المتوارثة داخل سجون تونس، وأضاف إليها مقطعًا تسبب بملاحقة النظام له لفترة طويلة: “البريجاد اتبع فينا حتى لباب الدار” في الإشارة إلى ملاحقة البوليس للمحتجين في إحدى المظاهرات المناصرة لفلسطين. مُنع الفرزيط من إحياء الحفلات في بعض الأحيان، وكان يتعمد غناء المقطع المثير في مناسبات عديدة لإغاظة البوليس المترصد.
قد يبدو من المكثر إدراج ثلاث أغانٍ لـ آيس كيوب (اثنتين منفردات وواحدة مع إن دبليو آي) في نفس القائمة، لكن من يلقي نظرةً على مسيرته، يجدها كرسالة دكتوراه ممتدة لأكثر من ثلاثة عقود، ومختصة في الاضطهاد العنصري من قبل الشرطة في الولايات المتحدة، وفي العالم عمومًا. في أغنيته الضاربة من عام ٢٠٠٦، والتي سجلت عودته إلى الراب بعد ست سنوات من الانقطاع والتفرغ للإنتاج السينمائي، يدرّس آيس كيوب حياة السود في الأحياء المهمشة في الولايات المتحدة، يسألنا: “لم يعتقدون أننا نتمرد؟” ثم يجيب بالتفصيل. كتب آيس كيوب الأغنية بنبرة مراسل حرب، لغته تقريرية، مقتضبة وجليّة، وذات وقع عاطفي جزل. عندما يتحدث عن مناوشاته مع الشرطة، يمسك بعاطفة وانتباه مستمعيه عبر بارات سريعة ودقيقة، واصفًا مشهد مداهمة الشرطة لمنزله، بينما يقف بجوار الحمام بيده المخدرات، يفكر ممن عليه أن يخشى آكثر: الشرطة أم زعيمه تاجر المخدرات؟: “لا أتحمل التوتر / أخرجت مسدسي الـ ٤٤ ميلي من دولاب الملابس / أمسكت بكيس المخدرات في الخزانة / الشرطة آتية، لكنني خائف من أن أتخلص منه / كلكم تعرفون ما الذي حصل في آخر مرة تخلصت (فيها من المخدرات) / لا تريدون أن تعرفوا ما الذي فعله رئيس (العصابة) بيّ / تعبت من لعبة المخدرات / علي أن ألجأ إلى صفقة التعاون التي قدموها لي / عشرين سنة، على شو؟ / لأنني أتجاوز القوانين الفاسدة أصلًا؟”
واحدة من أول أغنيتين على الإطلاق سجلتهما فرقة الروك الأيقونية ذَ ستروكس. أُدرجت الأغنية في ألبوم ذَ ستروكس الطويل الأوّل إز ذس إت، الذي كان من المفترض أن يصدر في الولايات المتحدة في ٢٥ أيلول / سبتمبر ٢٠٠١، قبل أن يجري تأجيل إصداره واستبدال هذه الأغنية بسبب أحداث ٩/١١، علمًا أن الأغنية كُتبت على وقع حادثة عنصرية عام ١٩٩٩، حيث قام أربعة من عناصر شرطة نيويورك بإطلاق النار على المهاجر الغيني أمادو ديالو، ما أسفر عن مقتله مباشرةً. بعد مرور عقدين على تسجيل الأغنية، كانت الفرقة تؤدي مؤخرًا في رالي لدعم برني ساندرز، عندما لاحظ الموسيقيون تصرفات الشرطة الخشنة مع جمهور الحفل، ما دفعهم لأداء نيو يورك سيتي كوبس، ليسفر ذلك عن مشهد انتشر بشكل واسع على وسائل التواصل الاجتماعي: جوليان كازابلانكاس يغني عن حماقة الشرطة في وجه أحد عناصر شرطة ولاية نيو هامبشر، ممن صعدوا على المسرح لدفع الجمهور.
بعد انتهاء مباراة النادي الأفريقي التونسي وأولمبيك مدنين في آخر أيام آذار / مارس ٢٠١٨، اندلعت مواجهات حامية بين قوات البوليس وجماهير الأفريقي المعروفة بصلابة مراسها واحترافها الكر والفر مع الأمن. انتقلت المواجهات إلى خارج الملعب، واستمرت مطاردات البوليس للجماهير وصولًا إلى وادي مليان القريب. سقط أحد المشجعين، عمر العبيدي، في الوادي الموحل تحت أعين رجال الشرطة. رغم الاستغاثات التي أطلقها، أجابه أحد رجال الشرطة ببرودة دم: “تعلم عوم”. لكن الشاب لم يكن يتقن السباحة فمات غرقًا.
أطلقت تلك الحادثة موجة تضامن قوية بين جماهير كرة القدم في تونس، وتحولت جملة “تعلّم عوم” إلى عنوان لمعركة الجميع، رابرز وجماهير كرة ومهمشين، ضد البوليس. نزّل فندالز الشمال أغنية رجال بقلوبها، وتعاطفت ألتراس الترجي مع جماهير غريمها التقليدي، وانضم الرابرز إلى الحرب المعلنة وعلى رأسهم كلاي، ابن باب الجديد والمتيّم بحب النادي الأفريقي. نزّل الرابر أغنية تحت الماء، التي هاجم فيها البوليس بضراوة، ما تسبب له بمزيد من المتاعب بعد أن كان مُضيّقًا عليه من السلطات ومحرومًا من الحماية الأمنية في المهرجانات. استعمل كلاي مصطلح الحنشون، كاسم تصغير للحنش، وهو الوصف الشائع للبوليس في تونس، فيما اعتمد صورة الشيشة (النارجيلة) في إشارة إلى الجنس الفموي: “يا الحنشون إيجا غرقني نهبطك شيشة تحت الماء”. كعادته، شحذ كلاي معاجمه اللاذعة موجهًا أسطرًا شديدة الوقع إلى البوليس، متخليًا عن الرمزية ومنتصرًا للذخيرة الحية المباشرة.
تندرج تحت الماء ضمن سلسلة طويلة من أغاني كلاي ضد البوليس، جمع فيها الرابر بين قوة أسلوبه وفرادة كتابته.
بالنسبة لفينس ستايبلز، الذي ولد في كومبتن ونشأ بصحبة عصابات مدينة لونج بيتش، فإن التوجس من الشرطة والصدام معها جزء من الحياة. يمكن تتبع هذه الثيمة في الكثير من أعماله، كأغنية هاندز آب التي يشير فيها إلى إعادة تعيين رجال شرطة بعد ارتكابهم أعمال عنف: “ما شفتهم بيحبسوا حد من الخنازير بعد / بالكثير بيرجعوهم ليقمعوا المظاهرات”، أو أغنية وور ريدي التي يشبّه فيها باص نقل السجناء بسفن نقل المستعبدين.
لذلك من الطبيعي أن أكثر أغاني فينس شعبيةً، نورف نورف، تدور حول هذه الثيمات. بين كلماتها الصدامية التحريضية والفيديو المحتفى به نقديًا، تُصور نورف نورف استحالة أن تحظى الأقليات بحياة طبيعية في الولايات المتحدة، حيث التوقيف والتفتيش والتعدي والاعتقال والسجن جزء من الروتين اليومي. دفع الحس الصدامي في الأغنية والفيديو سيدةً (ووالدة) أمريكية إلى تسجيل فيديو من ١١ دقيقة، تعترض فيه على بث الأغنية من منطلقات محافظة. انتشر الفيديو على الإنترنت تحت اسم ذ نورف نورف لايدي، وجلب انتقادات واسعة للسيدة التي سجلته، لدرجة أن فينس ستايبلز اضطر إلى التدخل والدفاع عنها.
فور صدورها نهاية الثمانينات، أصبحت فك ذَ بوليس أغنية معاداة الشرطة الأكثر شهرةً في العالم. تزامنت الأغنية مع صعود الموجة الأولى للراب، وصعود فرقة إن دبليو إيه الأيقونية، التي أصدرت هذه الأغنية ضمن ألبومها سترايت آوت أف كومبتن، بعد تعرُّض أعضاء الفرقة للتعدي على أسس عنصرية من قبل الشرطة. تحاكي كلمات الأغنية مرافعة قضائية، حيث يتتالى رابرز الفرقة، الواحد تلو الآخر، كشهود وقضاة ومحامين في دعوى موجهة ضد شرطة لوس آنجلس. ضمن الميراث الواسع للأغنية، الذي يتضمن مشاكل مع الإف بي آي وأعمال شغب ومواجهات مع الشرطة خلال الحفلات، يبقى الأثر الأكثر خلودًا من فك ذ بوليس المرافعة الافتتاحية لـ آيس كيوب، الذي يصل خلال أربع بارات قصيرة إلى الخلاصة: “لديهم السلطة لقتل الأقليات.”
أثناء حراك ٢٠ فبراير في المغرب (٢٠١١)، كان الراب حاضرًا بقوة كمنصة لأحد أكثر الخطابات تمردًا واحتجاجية ضد النظام المغربي. مثّل معاذب لغوات، الملقّب بـ الحاقد، واجهةً للحراك، ولسانًا شعبيًا ضد البوليس والمخزن. أصدر الرابر أغنيته كلاب الدولة التي هاجم فيها وحشية البوليس في قمع الاحتجاجات، وتسببت في سجنه. احتوت كلاب الدولة على معجم شوارعي متمرد وحاقد، بعامية مغربية مباشرة لا تتصنع المواراة.
ارتبط اسم الحاقد باعتقاله أثناء بداياته كرابر، عندما ألقي القبض عليه وجرى استنطاقه ووصفه بالحاقد من طرف البوليس. تبنى الرابر تلك التسمية التي ارتبطت بالراب السياسي الصاخب المواجه للبوليس، والذي امتزج في مرحلة ما بثقافة جماهير كرة القدم واقتحم أهازيجهم التشجيعية.