.
يعود تكرار الأسماء شبه الثابتة في المشهدين الخليجي والعراقي إلى اعتماد معظمها عناصر النجاح ذاتها، وبأسلوب التقديم نفسه، الذي يشمل طريقة الكتابة والتلحين والتوزيع وحتى التصوير. لكن الغوص والعودة بأنماط إيقاعية جديدة من أعماق الأغنية التراثية، ووضعها ضمن قوالب وتوزيعات مبتكرة هو ما يجعل هذه الأغنيات دون غيرها من بين الأفضل لهذا العام.
كما في حالة تعال وأبنائها، حاول علي جاسم في حيّة تكرار ضربة يرباي الصادرة منتصف العام، والتي تحولت إلى ترند في جميع أرجاء المنطقة. في الأغنيتين اللهجة لهجة أهل الغربية والمطبك العراقي أساسي في التوزيع، الذي يحمل توقيع سرمد عز الدين في الأغنيتين أيضًا. لكن في يرباي تُنسب الألحان لـ علي الشيخ، بينما في حيّة يُنسب “إعداد الألحان” لـ علي جاسم، ربما استجابةً للجدل الذي أثاره موضوع كون لحن يرباي “مسروق“؛ بحيث لو أثير جدل مماثل حول حيّة يؤكّد جاسم أنه لم ينسب لنفسه إلا إعداد الألحان، لا تأليفها.
على كل حال، لحسن الحظ جاءت محاولة التقليد أجمل وأغنى من الأصل، بكلمات مسلية دون ندب وإيقاع مطرب على الدفوف وتوظيف أصيَع للمطبك.
انطلق اسم يوسف الصميدعي قبل عامين من برنامج مواهب على تلفزيون أبو ظبي، أثبت خلاله جدارة صوته بتقديمه أغنيات عراقية وخليجية شهيرة. فيما يلي البرنامج غنى يوسف من ألحان علي صابر العام الفائت أغنية غدر وخيانة لا بد أن يغنيها كل فنان عراقي، بعنوان لا وألف لا، محققًا نجاحًا كبيرًا في أعداد المشاهدات. يعود يوسف هذا العام بتجربة أكثر نضجًا وحيويةً، مبرهنًا إمكانية الغناء واستعراض الصوت حتى مع زيادة سرعة الغناء والإيقاعات. زاد من شعبية الأغنية إعادة تقديمها من قبل الدي جاي العراقي أصيل، المقيم في دبي وصاحب الشعبية الكبيرة في الخليج، والذي أصبح بوابة لتقديم الأغنيات العراقية الجديدة لجمهور أوسع.
“أنا طبعًا ف امريكا ما كنت سعيد واجد. كان عندي مرض الغربة للأمانة، حنيت للوطن أكثر من اللازم. فكنت في الشتاء، وكان في طيور مهاجرة تجي عادةً يعني ف أوكلاهوما، وكنت قريب من النافذة، وكان في طير صغيّر دابحه البرد وقّف على حديدة في الشباك، وجالس يطالعلي، وانا كنت زهقان؛ وكأنه يقول افزعلي وانا اقول انت افزعلي. بقول:
حزين من الشتا ولّا حزين من الظما يا طير / دخيل الريشتين اللي تضُفّك حلّ عن عيني
دخيل الما وملح الما وحزن الما قبل ما تطير / تهيّا للهَبوب اللي تصافق في شراييني
دخيل الغصن والظل الهزيل وهفهفات اعصير / دخيلك لا تشحّ بنجمتي والليل مَمسيني
ترفرف يا فقير الريش ضيقة والنهار قْصير / علامك كل ما ليّل جناحك جيت ساريني
أنا ماني بخير وجيت يمي وانت ما انت بخير / وانا يا طير فيّ من الهَجاد اللي مكفيني
ترى لو شفت لي ظل ومهابة في عيون الغير / ترى كل الزَّهاب اللي معي جرحي وسَكّيني”
هذه رواية الشاعر الراحل مساعد الرشيدي لقصة كتابته إحدى أجمل قصائد الشعر النبطي والشعر العربي عامةً.
جرى تلحين وغناء القصيدة ثلاث مرات، تتفوق الأخيرة هذه بسهولة وتنصف كلمات الرشيدي، بلحن على مقام الصبا هو أفضل ما أنتج سهم طوال العام، وأداء مشترك بينه وبين أحلام يتحقق فيه توزان جذّاب بين حزم وكبرياء أحلام ومناجاة سهم. بالإضافة إلى توزيع كلاسيكي مهيب في مكانه من خالد عز.
منذ جيناك بهاية قبل ست سنوات، يستمر نور الزين عامًا تلو الآخر بمناوشة التراث العراقي، والانفراد بشيء من خصائصه ليخرج بنتيجة جديدة. فاقت حصيلة الأرقام التي حققها عبر سنوات المحاولات هذه التوقعات؛ كما يؤكّد إقبال الجمهور وحماسهم لحفلاته الحية حول العالم أن نجاحات نور الزين لم تأتِ مصادفةً، بقدر ما كانت بفعل فهمه للمشهد الحالي.
لا يعني هذا بالضرورة أن جميع إصداراته على امتداد العام أغنيات ضاربة، وأنها جميعها تستعيد من التراث العراقي، فعلى العكس تأتي الكثافة الكبيرة الإنتاج في ساحة الأغنية العراقية، سواء من إنتاجات استديو الريماس أو نجوم الدار البيضاء أو غيرها، بأغنيات كثيرة مخيبة ومكررة سمعنا حتمًا ما يشبهها في السنوات الماضية. لكن هاي هية التي لحنها نور الزين بنفسه تندرج تحت خانة الأغنيات محلية العناصر، والمحببة للجميع بإيقاعاتها، ولهجتها البصراوية الثقيلة.
كما في المشهد العراقي تمامًا، بقدر ما يوجد في مشهد الأغنية الخليجية المعاصر من عناصر مستهلكة، بقدر ما يتضمن تراث هذه الأغنية من تنوع وغنى؛ حيث يقدم القليل من الغوص والاستكشاف والاستعادة الكثير للألحان التي قد لا تطمح إلى التجديد. منذ بدايات دحوم الطلاسي وهو يعود في كل إصدار جديد إلى التراث السعودي ومدارسه المختلفة ليقدم أغنيات حماسية بتوزيعات تعج بالآلات الإيقاعية التقليدية.
في أخت السعد التي صدرت هذا العام بالتزامن مع موسم الأعراس، كزفّة لفتاة اسمها مضاوي بنت بندر، والتي يؤديها إلى جانب مشجع مسفر، يغني الطلاسي أحد أجمل ألحان سهم المستندة إلى التراث، حيث التأثّر بالشيلات والسامري، لون الطلاسي المفضّل. يشوب الأغنية المشكلة الأزلية مع ألحان سهم التي تختلس من بعضها، إذ نسمع في الأغنية أصداء لحنَي أبوك في الجنة وطلابتك وجد لسهم نفسه، لكن أداءات دحوم الطلاسي ومشجع سفر كفيلة بمنح الأغنية فرادتها.
على عكس معظم الأسماء في ساحة الأغنية العراقية اليوم، لم يبدأ مشوار وليد الشامي في استديوهات التسجيل المحلية وإنما عُرف في بداياته مع روتانا قبل أكثر من عشر سنوات؛ ورغم بعض النجاحات التي حققها في تلك السنوات، إلا أن العمل مع روتانا لا يشهد لصالح الفنان العراقي، الذي سرعان ما يجد نفسه عالقًا في قوالب مكررة صنعتها له الشركة كما في حالة ماجد المهندس.
انفصل وليد الشامي عن روتانا قبل حوالي العامين، وجرّب التعاون مع نجوم الدار البيضاء، ثم عاد للإصدار عبر قناته الخاصة، ومن ألحانه الخاصة، كما في حالة أغنية مرت الصادرة هذا العام. في مرّت يغني وليد الشامي باللهجة السعودية شيلة تقليدية شديدة الجاذبية بتوزيعها وإيقاعاتها، مستعرضًا ثقافته الموسيقية وخبرته في الغناء الخليجي.
على امتداد السنوات الماضية كانت إصدارات مشاعل قليلة ومتباعدة، لكنها كانت دائمًا صاحبة اختيارات مدروسة تناسب صوتها وتحمل شيئًا من التجديد إلى مسيرتها، لتحظى من بينها صوب الرياض هذا العام بالشعبية الأكبر منذ سنوات.
أغنية عاطفية بامتياز تتخللها مفردات العتب والملام، من كتابة الشاعر اليمني المقيم في السعودية أحمد أشرف المطري. يخدم التوزيع كلمات الشاعر وعاطفية الأغنية بمقاطع العود المنفردة الشجية في أجزاء مختلفة من اللحن.
كالعادة مع كل اسم يكثّف إنتاجه مع كثافة العروض، دون أن يعطي كلّا منها الوقت الكافي لتقييمها ثم العمل عليها، تصبح هناك هبوطات واضحة في الجودة قبل العودة بقفزات بين حين وآخر. هذا حال الموزّع جلال الحمداوي مع إنتاجاته هذا العام، التي تتراوح بين أغانٍ بسماجة تخنتي وأخرى بجودة لا تغيب.
كتب الحمداوي ولحن ووزع الأغنية، بنتيجة أقل من متواضعة كلامًا، ونتائج جذّابة وممتعة في اللحن الحيوي والتوزيع الذي يستمر في التطوّر طوال الأغنية بمساعدة سنث ملفت.
منذ أن كان في الخامسة عشر، حظي متعب الشعلان بشعبية متزايدة مع انتشار مقاطع غنائية له عبر إنستجرام. اليوم، في رصيده أغنيات جدية بنسب مشاهدات عالية، وجمهور يطالب بحضوره في مواسم الحفلات والمهرجانات. خلال مسيرته الهادئة المتواضعة، عرف متعب بغناء ألوان رومانسية تظهر خامة صوته وهدوء أدائه. أما في أغنيته معزوم الصادرة بداية صيف هذا العام يغني لونًا إيقاعيًا للمرة الأولى، بتوزيع تقليدي لا يحمل تجديدًا، إلا أن انسيابية اللحن تخلق شعورًا من الألفة مع الأغنية مباشرةً، وتجعل العودة إليها أمرًا حتميًا.
لم يكن خيار التعاون بين الاسمين هذا العام مفاجئًا تمامًا، فكلاهما من أصحاب المشاهدات المليونية، كلٌ في مساحته، ولا شيء أفضل من النجاح الكبير سوى ضربه باثنين. لكن المفاجئ كان تنسيق صوتين وخامتين بهذا الاختلاف ضمن لحن واحد. يرتاح سيف نبيل بالغناء في الجواب واضعًا كل ثقل أدائه في الطبقات العالية، فيما تحافظ بلقيس دائمًا، إلا في حال اضطرت، على رزانة أدائها في طبقات منخفضة لا تمنع ظهور خامة صوتها المميزة بأفضل حالاتها. في ممكن يظهر التباين بين الصوتين ممتعًا وجذابًا ضمن التوزيع الذي وضعه عمر الصباغ، الاسم الذي يظهر عامًا تلو العام كاختصاصي توزيع أغنيات البوب الضاربة باختياراته الجذابة للمؤثرات الصوتية المضافة، وكثافة الأسطر الإيقاعية التي تضبط سرعة الغناء وتربط بين مقاطع الأغنية.