.
بقدر ما نسمع إسماعيل الحطّاب ونألف غناءه وحضوره في الذاكرة الجماعية، تغيب سردية نشأته وصعوده وراء افتتاننا ببحّة صوته وصدى حفلاته. كيف قدِم هذا الرجل إلى العاصمة وفرض اسمه على الجميع في الريف والمدينة؟ من أين لقف كل ذلك الإرث المحمّل بالتاريخ والوجع والجمال؟ لماذا احتفى به الجميع – وفي مقدمتهم بورقيبة – في الوقت الذي كان فيه الغناء الشعبي مغيبًا من التغطية الإعلامية؟ تحوم أسئلة عديدة حول الرجل، يغمرها طمي الإعجاب والنوستالجيا دون أجوبةٍ موسيقية وتاريخية. لم يقل حجم أثر إسماعيل عن قاماتٍ كبيرة في الموسيقى التونسية، من صليحة إلى الهادي الجويني وغيره، لكن المراجع شحيحة أو تكاد تنعدم حوله، تكتفي بشذراتٍ عن سيرته وتقتصر على المرويات الشفوية وبعض التسجيلات الإذاعية والتلفزية. هنا مفارقة أخرى: أن يحتضن المركز إسماعيل الحطاب ويبقى أثره هامشًا يُغيّب من المراجع، رغم امتداده إلى أجيالٍ من المغنين على اختلاف الأنماط.
ولد إسماعيل الحطاب سنة ١٩٢٥ في قرية الخمامرة الواقعة بين جهتي جبنيانة والحنشة تشير أغلب المراجع إلى هذه السنة، لكن يجدر الإشارة إلى اضطراب سجلات الولادة في تونس خلال بدايات القرن العشرين.. تقع المنطقة برمتها في قلب المجال التاريخي لقبيلة المثاليث التي تمركزت في ساحل الوسط التونسي بين ولايتي المهدية وصفاقس، ويعود أصلها إلى القبائل السليمية العربية. عُرف المثاليث بشدة البأس وانخرطوا في صداماتٍ مع القبائل المجاورة، كما شهدت علاقتهم مع السلطة المركزية تقلبات عدة. ناصروا الصف الباشي نسبةً إلى علي باشا في مواجهة عمه الحسين بن علي، أول بايات تونس، خلال الحرب الأهلية التي مزّقت البلاد في القرن الثامن عشر. كما عقد حكماء القبيلة ووجهاؤها ميعاد المثاليث الميعاد هو اللقاء، وهي تسمية دراجة في عرف القبائل لتنظيم اجتماعاتهم وقراراتهم الكبيرة. لتنظيم عمليات المقاومة ضد المستعمر الفرنسي سنة ١٨٨١ محمد دبوسي. قادة المقاومة المسلحة في البلاد التونسية سنة ١٨٨١، صفحة ٢١٣.. احترف الأهالي نظم الشعر والتبجح بمفاخر القبيلة وقيم الفروسية والحرابة التي توارثوها عن أسلافهم. ينتشر قول في تلك الربوع يتغنى بفخر الانتماء إلى المثاليث: “مثلوثي وناسي فزّاعة ركّابين الخيل” ورد على لسان شبيل الجبراني، أحد فحول الشعراء في ذلك الوقت بجانب عبادة السعيدي ومحمد الصغير ساسي، وخال إسماعيل الحطاب.
تسيّد شبيل ساحة الشعر الشعبي في عصره، ورافقه حطّاب والد إسماعيل وعمه الزين في الأعراس والحفلات. لقّب شبيل بشاعر المثاليث ورفعه الأهالي إلى مقامٍ كبير محمد جوهر حزوق. الأغنية الشعبية الريفية: إسماعيل الحطاب نموذجًا، صفحة ١٢.، مستقبلين إياه بالتهليل والزغاريد في أعراسهم لدى شروعه في الإلقاء بصحبة الحطّاب وإسماعيل الذي رافقهم صغيرًا: “يا لا لمة ويا لا لا / جانا شبيل وأولاد أخته.”
علّم شبيل قريبه الشعر وعزف القصبة، فيما كان الحطّاب، والد إسماعيل، قصّابًا (عازف قصبة)، وعلّه الأهم في تاريخ تونس بحسب الشاعر عبد المجيد بنجدو. اشتغل الحطاب في مواسم الحصاد وجمع الزيتون، وعرفه الأهالي بعزفه على القصبة في أوقات فراغه. ذاع صيته بين قومه، ليتنقّل من مكانٍ إلى آخر مطربًا الناس في الحفلات والأعراس، ومؤديًا الألحان البدوية من صالحي وعرضاوي وغيرها. كما صاحبه ابنه إسماعيل الذي أظهر بوادر تمكّنٍ ملفت من الحفظ والأداء. تنتشر بعض القصص في تلك المنطقة عن نبوغ إسماعيل صغيرًا في الغناء. روى لي الهادي الجبراني، نقلًا عن بلقاسم الخماري الذي عاصر إسماعيل، عن تردد الحطاب على تاجرٍ في جهة مركز الحطاب القريبة من مدينة صفاقس، شدّه عزف الرجل وابنه، فأصبح يقيم حفلاتٍ صغيرة في محلّه بمقابلٍ، واستقطب السامعين من الأرياف المجاورة إلى أن سُمّي المكان باسمه الرواية شفوية، ولم أعثر عن سجلات إدارية توثّق أصل التسمية. كما أن تسميات بعض القرى والمناطق النائية خلال العهد البورقيبي كانت اعتباطيةً في بعض الأحيان..
يروي أهالي جبنيانة أيضًا قصصًا مماثلة عن إسماعيل ووالده. خلال الثلاثينيات، وكل يوم خميس الذي يسبق السوق الأسبوعية، تأتي العائلات الميسورة والتجار إلى البلدة لقضاء الليلة. يلتقي الجميع مساءً في مقهى دَي بحضور الحطّاب وابنه. يشرع إسماعيل في الغناء ويطرب الجميع بمخزونه الذي حفظه من تراث المنطقة وعن شبيل وأبيه، ليمتلئ التِّبسي (إناء صغير من الفخار) بالقطع النقدية التي تُدرّ على الثنائي.
طاف إسماعيل مع والده القرى والأرياف التابعة لمنطقة المثاليث، قبل انتقال العائلة إلى تونس.
سكنت العائلة في جهة باب بنات قبل انتقالهم إلى حي بوسلسلة في المرسى، الضاحية الشمالية لتونس العاصمة. استقطبت تلك الأحياء الشعبية وفود النازحين من أعماق البلاد مع تفاقم الأزمات الاجتماعية تحت وطأة الاستعمار الفرنسي. اشتغل إسماعيل مع والده مدّاحًا في ساحة الحلفاوين، واكتسبا صيتًا نسبيًا مكّنهما من حضور حفلات الزفاف الشعبية. اقتصر الغناء البدوي والريفي وقتها على بعض المقاهي المنتشرة التي استقطبت البدو والنازحين مثل قهوة المحبس في ربض باب الجزيرة أحمد خواجة. الذاكرة الاجتماعية والتحولات الاجتماعية من مرآة الأغنية الشعبية، صفحة ١٧٢.، فيما كان للشعر الشعبي روّاده، خاصة مع ازدهار الصحف الهزلية مثل الزهو لصاحبها عثمان الغربي. في المقابل، سيطر المالوف والغناء الحضري على مشاهد الفرجة في تونس العاصمة على حساب الغناء البدوي. يذكر أن الأوساط الحسينية الحاكمة دعمت الغناء الأندلسي التقليدي والموسيقى الحضرية المتقنة على حساب بقية الأنماط الشعبية المختار المستيسر. نشأة الرشيدية، صفحة ٣٦..
شيئًا فشيئًا، جذب الحطّاب وابنه اهتمام المشرفين على الإذاعة التونسية التي كانت في بواكيرها الأولى بعيد تأسيسها سنة ١٩٣٨، وشاركا في تسجيل مقطوعة طرق الصيد البدوية، التي وصفها المستشرق الألماني روبرت لخمان بأنها سيمفونية بدوية لا أثر لها في بقية الجهات، لدى لقائه بـ حسن حسني عبد الوهاب في جهة جبنيانة حسن حسني عبد الوهاب. الموسيقى وآلات الطرب في القطر التونسي، صفحة ١٣٣..
انقطع إسماعيل بعدها عن مرافقة والده، وتعرف إلى صالح بن زيد في جهة المرسى، زوج عائشة غريب أخت مامية، اللتان رافقتاه فيما بعد في مسيرته. لازم إسماعيل عَرفه (معلمه) الجديد الذي لاحظ براعته في العزف على القصبة، ودفعه إلى تعلّم الزكرة على يديه. يروي لي عبد اللطيف الغزي نقلًا عن إسماعيل الذي عايشه لسنواتٍ طويلة، أن معلمه صالح بدأ يرى فيه تهديدًا له في ساحة الغناء الشعبي، وقال عنه ساخرًا: “باش يفكلي الصنعة” (سوف يفتك بحرفتي)، متوجسًا من قدرة الفتى بعد أن بدأ جمهور الحفلات التي يذهب إليها بطلب إسماعيل للغناء. استمر إسماعيل معه لثماني سنوات كَزكّار إلى حين وفاة معلّمه يشير عبد اللطيف الغزي إلى انفصال إسماعيل عن معلمه قبيل وفاته إثر خلافٍ بينهما.، وترأّس بعده فرقته الخاصة التي ضمت وقتها عائشة ومامية. تزوّج إسماعيل عائشة، أرملة معلمه، التي اشتهرت بالغناء والرقص. تميزت عائشة بصوت قوي وساهمت في تكريس حالة إسماعيل الحطاب.
دخل إسماعيل سوق التسجيلات من بوابة شركة بشير الرصايصي وأصدر أسطوانته الأولى أوائل الأربعينيات. ذاع صيته بعد أن ورث سمعةً قوية من معلمه صالح بالإضافة إلى مشاركته في الإذاعة، وأصبح مطلوبًا في المحافل مع فرقته التي ضمت فيما بعد زينة وعزيزة، أهم راقصتين في تاريخ تونس. مثّلت فقرة إسماعيل في برنامج القافلة تسير على الإذاعة الوطنية حدثًا هامًا في ظل دولة ما بعد الاستقلال، وإن وظّفها النظام البورقيبي لترويج سياساته. تحول البرنامج إلى دعايةٍ شعبوية للنظام وقتها في إطار ثقافة المشروع التحديثي البورقيبي. بُث البرنامج على مدار حصتين أسبوعيًا، وتضمن أشعارًا وأغانٍ بدوية خضعت إلى التدقيق والمراقبة من طرف عبد المجيد بنجدو الذي اضطر في كثير من الأحيان إلى تغيير الكلمات وفق ما يتطلبه الظرف السياسي أحمد خواجة. الذاكرة الجماعية والتحولات الاجتماعية من مرآة الأغنية الشعبية، صفحة ٢١٤..
استفاد إسماعيل الحطاب من التسهيلات التي منحها له النظام من خلال برنامج القافلة تسير، الذي تزامن مع ذروة انتشار ثقافة الراديو في تونس واستمر طيلة العهد البورقيبي تقريبًا ـ حتى عام ١٩٨٧. يعد إسماعيل أول مغنٍ بدوي ريفي يظهر في الإذاعة ويحظى بهذا القدر من التغطية والاهتمام، في مفارقةٍ مثيرة، خاصةً وأن بورقيبة منع المزود من وسائل الإعلام الرسمية خلال السبعينيات. كان اختيار إسماعيل ضمن الإذاعة استحقاقًا. تميز الرجل بصوت قوي ومترعٍ بالفحولة، مجسدًا الشخصية التي نجد جذورها في البيئة البدوية وشبه البدوية والريفية، غناءً وصوتًا ومظهرًا.
يعرّف كثيرون إسماعيل الحطاب كمغني البداوة التونسية، والحال أن المثاليث، ورغم أصلهم السليمي البدوي، تداخلت تركيبتهم تدريجيًا بين البدو وأشباه البدو وبعض المجموعات المستقرة التي اعتاشت على الزراعة وحتى الحضر.
يعرّف الباحث توفيق بوقرة في لقائي معه إسماعيل الحطاب كمغنٍ شعبي، مشيرًا إلى ثنائية الغناء الكلاسيكي والشعبي في الموسيقى التونسية. يذهب آخرون إلى اعتماد التصنيف الجغرافي معتبرين إسماعيل مغنيًا ريفيا نسبةً إلى أرياف المثاليث. أيًّا كانت التسميات، ورغم اختلاف البنى الاجتماعية التي تفصّل تحديد تلك التصنيفات، يمكن إدراج الريفي – موسيقيًا – تحت خانة البدوي الجامعة. تتفق أغلب المراجع على تسمية الغناء البدوي عندما يصاحب بالزكرة (أو القصبة) والطبلة، ويعتمد الإيقاعات والأصوات البدوية. من جهته، يتبنى إسماعيل تسمية البدوي، أو الشعبي البدوي، ويعلن عن ذلك في مطلع أغنيته اسمع ياللي تحب تغني: “الفن البدوي ناي مولاه”، ويتفق معه مؤرخو الغناء في تونس مثل عبد المجيد بنجدو؛ فالأصل بدوي حتى بالنسبة إلى الغناء الريفي.
ارتبط الغناء الشعبي البدوي بالبوادي الموجودة في صحراء الجنوب التونسي والقبائل من أصلٍ عربي، وأهمّه غناء الموقف (غناء خالٍ من المرافقة الآلاتية) الذي ينسب إلى أقاليم الجنوب والشرق التونسي حيث تتواجد القبائل البدوية كنفزاوة وأولاد سعيد والمثاليث. يقول المنوبي السنوسي عن غناء الموقف: “يقتصر على أصوات الحناجر دون أن يساوَق أو يدعَم بأصوات أية آلة من آلات الطرب المصوتة. أصحاب هذا الغناء يؤدونه وهم وقوف ولكل واحد منهم موقف يقف زملاؤه إزاءه وإزاء الحاضرين في الحفلات التي تقام للغناء.” المنوبي السنوسي. الأغنية الشعبية في البادية التونسي، صفحة ١٦-١٨.
نهل إسماعيل الحطاب من شعراء الموقف، خاصة وأنه ردّد كأحد السعفة السعفة: ثنائي يعمل بجانب الأديب ويردّدان ورائه. وراء فحول الشعراء مثل محمد الصغير ساسي وخاله شبيل الجبراني، إذ يقول في مقابلة معه: “أنا غنيت مع الصغير ساسي ومع شبيل، شدّيت معاهم سعفة”، وأدخل غناء الموقف ونصوص فحول شعرائه إلى مجال الغناء المرافق بالآلات، معتمدًا على الزكرة والطبلة.
لم يجد إسماعيل منافسةً كبيرة في مجال الغناء الشعبي البدوي، عدا شعراء الموقف والإدبة جمع الأديب. تتعدد تعريفات الأديب في الشعر الشعبي التونسي. في العرف المتداول عند الناس، يكون الأديب صاحب القدرات والموهبة في نظم الشعر وغنائه، ويرتبط اسمه بالمناسبات الاحتفالية باعتباره الركيزة الأساسية في تنشيطه. يشترك في الأديب عدة خصال أخرى ترفعه إلى مقام الإمامة أحيانًا، ويطلق عليه البعض تسمية الغنّاي (فيصل القسيس. الطريق من خلال الموروث الشعبي في الذاكرة الجماعية للمثاليث، صفحتي ٤٣ و٤٤). الذين يؤدون أشعارهم في إلقاءٍ منغّم خالٍ من المرافقة الموسيقية، والذين لم يتسنَّ لهم الظهور في الإذاعة أو المشاركة في مهرجانات وحفلات خارج البلاد مثل إسماعيل. عزّز تفرّد إسماعيل شهرته مقابل خلوّ الساحة من منافسين في طابعه، حتى بعض المحاولات لم تكن جدية كفايةً لزعزعة عرشه. يقول في إحدى أغانيه: “اسمع ياللي تحب تغني / دير ثنية خصوصي ليك / ما اتبعش لحني وفني / راهي ثنيتي بعيدة عليك”، منصبًا نفسه سيد المجال وصاحب الفضل فيه، وموظّفًا مضامين وأساليب الأحرش، وهو من أغراض الشعر الشعبي المستعمل في الهجاء.
نكاد لا نعثر على صوتٍ تونسي قادر على استيعاب وأداء الطبوع والخصوصيات التونسية كما فعل إسماعيل الحطّاب. يضع بنجدو (في ظهوره في برنامج نجوم اليوم وغدًا) إسماعيل الحطاب بجانب الطاهر غرسة، أحد أهم أصوات المالوف التونسي، كأعظم الأصوات التونسية التي استوعبت خصوصيات الأصوات الشعبية التونسية، التي تختلف عن مقامات الموسيقى الكلاسيكية للمالوف. يقرّ بنجدو إلى أن الطاهر غرسة من الأصوات النادرة التي استوعبت الطبوع التونسية (المصطلح المتداول لِـ المقامات في الموسيقى التونسية)، في تعريفها الكلاسيكي، ويمكن اعتباره صوتًا تونسيًا قاطبًا ومكتملًا يختزل الموسيقى الكلاسيكية.
اتجه التركيز إلى العثور على قطبٍ آخر موازٍ في الموسيقى الشعبية. مثّل إسماعيل الحطاب ركن ذلك المشروع أخيرًا، واكتمل نصف دين الموسيقى التونسية بقطبيها الشعبي والكلاسيكي، في حين توسطت صليحة – رمزيًا – تلك الثنائية مع أدائها للفوندوات تميّز محمد الصادق باي عن بقية البايات بميله إلى الغناء البدوي والشعر الشعبي، ما دفع حركة إدخال القطع البدوية في الغناء البلدي الحضري التي ضُمّت إثر ذلك في تراث الفوندوات، جمع فوندو، وهي كلمة دارجة منقولة عن اللاتينية تعني الأصل والأساس. استعملها تجار المصوغ لنعت الجواهر النفيسة وانتقلت إلى الوسط الغنائي للدلالة على القطع الغنائية ذات الطابع التونسي الأصيل، والتي تجمع بين الرصيدين الشعبي والكلاسيكي. التي جمعت بين الرصيدين الكلاسيكي والشعبي، لتكتمل معالم المشروع الموسيقى التونسي الرسمي، وإن تفرّد إسماعيل بكونه خارج أطر المدارس والمركز المتمثل في الرشيدية، أساس ذلك المشروع برمّته.
لعب بنجدو ورجال الإذاعة دورًا كبيرا في مسيرة إسماعيل الحطاب، ودفعه عبد العزيز العروي ومصطفى بوشوشة إلى أداء الصالحي المثلوثي وتقديم تراث جهته، بعد أن بدأ بأداء أصواتٍ متعددة من التراث على اختلاف أنواعه. مثّل ذلك نقطةً مفصلية في مسيرة الرجل وفي تاريخ الغناء الشعبي.
جعل إسماعيل الحطاب من الصالحي مفتاح غنائه، لما فيه من عذوبةٍ وقوة في الآن نفسه. يعرّف فيصل القسيس الصالحي الطريق من خلال الموروث الشعبي في الذاكرة الجماعية للمثاليث، صفحة ١٩١-١٩٢. بأنه نمط غنائي تقليدي يندرج ضمن البرنامج الغنائي الرجالي المتداول في الاحتفالات، والمسمّى الطريق بنطق القاف جيمًا مصرية، وهو البرنامج الغنائي الذي يؤديه الأديب وسعفته في المحفل. يقال: ’كل حد وطريقه’، أي لكل واحد دوره في الغناء، في إشارةٍ إلى التناوب الحاصل بين الإدبة في الغناء. المحفل: الإطار العام الذي يجمع الغنّاية والإدبة لأداء أشعارهم.. يجمع المخبرون على أن النصوص الشعرية للصالحي التي يتغنى بها الإدبة في المحافل مجهولة المؤلف، ومتوارثة شفهيًا.
اتفق رواة الشعر على تعريف الصالحي كَـ طبع أو صُوت وهو نمط غنائي شعبي خاص بسكان البوادي والأرياف وينتج عن تزاوج نغمةٍ موسيقية معينة مع الشعر الشعبي.، أي طريقة أداء ومسار لحني يميّزانه عن غيره. يعتمد الغناء الشعبي الريفي أو البدوي على أصوات، جمع صُوت، ارتبطت بخصوصيات ضروب هذا الغناء، في مقابل الطبوع التي ميّزت الموسيقى الكلاسيكية. الأصوات إذًا هي طبوع الموسيقى الريفية الشعبية فتحي زغندة. نقاط توقف، صفحة ١٠٦-١٠٧.. لا يُعرَّف الصالحي كمقام، إذ اقتصرت مقامات أو طبوع الموسيقى الكلاسيكية التونسية على المالوف (التي حددتها ناعورة الطبوع). على سبيل المثال، يجمع العرضاوي بين خاصيات المقام والصُوت لأنه قريب من المقام الشرقي، وله حضور كبير في الغناء الشعبي، في حين اقتصر الصالحي على الصوت، إذ لا نجد تركيبةً تغمية آلاتية تعزف مقام الصالحي مثلًا.
تختلف الروايات حول نشأة الصالحي كصُوت ونمط غنائي، فيما يتفق أغلبها على ارتباطه المتين بجهة المثاليث، موطن إسماعيل الحطاب. خلافًا لـ حسن حسني عبد الوهاب الذي ربط الصالحي بِصالح بن خليفة من عشيرة نفات المقيمة في جنوب صفاقس حسن حسني عبد الوهاب. الموسيقى وآلات الطرب في القطر التونسي، صفحة ١١٦.، ترى السردية الغالبة في ذاكرة المثاليث أنه من إبداع شخص آخر يحمل نفس الاسم، وهو الصالحي بن علي السلامي بن عمار الحنشي المراحي المثلوثي، الذي توفي في سجن تونس العاصمة سنة ١٩١٢ حسب أغلب الروايات الشفوية، فيما تشير أخرى إلى أنه توفي في معتقل الكايان، تدريج عامي لمعتقل غويانا الفرنسية في الساحل الشمالي لأمريكا الجنوبية، والذي جمع المساجين السياسيين التي حبستهم فرنسا، وتحول منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى نهاية الحرب العالمية الثانية إلى معتقل ومكان للأشغال الشاقة.، وكان أول من غنى هذا الصوت وأبدع فيه حسب البعض. لكن أغلب المراجع الشفوية التي لا تشملها السردية القبلية المتحّيزة للمثاليث، موطن قبيلة الصالحي، تفنّد هذا الربط وتشير إلى أن الصالحي كنمطٍ غنائي أقدم في وجوده من الصالحي الشخص، الذي كان له الفضل – ربما – في نشر هذا الغناء وصقله. يقرّ فيصل القسيس بصعوبة تحديد نشأة هذا النمط الغنائي، رغم اقترانه لدى الناس بشخص الصالحي، إذ ردّده الأهالي قديمًا أثناء العمل وكلما خلوا إلى أنفسهم أو في مجالسهم، وحمّلوه مضامينًا عديدة ارتبطت بشواغلهم وتقلبات الدهر.
تلازم الصالحي في الذاكرة الجماعية للمثاليث مع الحزن والألم، وارتبط بِدخول البّاردية اشتقت التسمية من البارود، وهم الرجال الذين يستعملون القَربيلة لإطلاق النار. في المحفل. يقترن صوت إطلاق البارود بصرخة المؤدي في أدائه الصالحي في دلالةٍ انفعالية وكأنه لا يفي بالحاجة التعبيرية للألم، فيضاف إليه صوت آلةٍ قوية حتى تستوعب حجم هذا الألم الذي يكتنز في سرديات الصالحي الغنائية / الشعرية. بمجرد انطلاق الأديب أو السعفة في إنشاد الصالحي، يقوم الباردية بحركاتٍ استعراضية متوثبة تسبق إطلاق النار. يشعر البارديّة بتشنجٍ وتوتر نفسي لا يزول إلا بعد النهوض من المجلس لإطلاق النار أثناء غناء الصالحي، وكما يقال: “ما يرتاح البّاردي إلّا ما يفك غيظه ويُصرخ” (أي يطلق النار) فيصل القسيس، المصدر السابق، صفحة ٢٢٥-٢٢٧.. قد يخاطب الباردي سلاحه أثناء الإطلاق، مثلما نرى إسماعيل الحطاب في حفل ختان ابن عبد اللطيف الغزي وهو يبرع في أداء دور الباردي ويتمتم ببعض الأبيات. يمسك إسماعيل ببندقية صيد ويستعرض مهاراته الفروسية في ترويض البندقية والتلاعب بها والطخ أثناء الحركة. تتعالى الزغاريد من كل صوب، وتنهال عليه التحميسات من الجميع.
https://www.youtube.com/watch?v=uAKyWzR5D1k
انتهى القسيس إلى أن نغم الصالحي يؤثر أكثر في الحضور في المحفل من النص الشعري، ذلك أن نطقه لا يكون واضحًا أثناء الغناء، ولما يتميز به من خصوصيات أدائية مثل الغناء في طبقةٍ موسيقية حادة وبصوتٍ قوي، متطلبًا قوة نفس لتأدية جمله الصوتية وحركاته الممتدة التي يطلق عليها البعض بالتطويح، فيما تؤثّث جمله بِـ اللّيات، وهي غمغمات تعبّر عن النداء والاستغاثة (واي / ياه / آه)، والكلمات المضافة (يا وجاعي / يا جرحي) التي نجدها بكثرةٍ في أسلوب إسماعيل الحطاب، بالإضافة إلى الترقريقات التي تبدو أقرب إلى الزغردة بتكرار حرف أو أكثر وسط الكلمة وترديده، وهو تنغيم مرافق لأداء الصالحي وأكثر ما يميّزه، لا نجده في الغناء الحضري. تستحوذ الليات والكلمات المضافة على زمنٍ طويلٍ نسبيًا في أداء الصالحي، يتجاوز زمن النص الشعري الأصلي عند إلقائه بشكلٍ خام دون زخارف فيصل القسيس، المصدر السابق، صفحة ١٦٤.، وهو ما يجعلنا إزاء ظاهرةٍ تطريبية ذات خصوصياتٍ شعبية.
ارتبط الصالحي المثلوثي بِإسماعيل الحطاب، وكاد أن يقتصر عليه في ذلك الوقت. وظّفه في أغانيه واستلهم من خصوصياته ليصنع به أسلوبه الخاص الذي ثوّر به الغناء الشعبي.
تمكّن إسماعيل من المقامات الشرقية إلى جانب الطبوع التونسية والموازين والنغمات الشعبية، إذ غنى في الطابع الشرقي مثل تونس أغلى حبيبة، ولوّن أداءه للطبوع والأصوات الشعبية بانتقالاتٍ مقامية شرقية في بعض الأحيان.
يرى محمد مرابط، في لقائي معه، أن إسماعيل الحطاب يجمع بين قوة الصوت وطربيّته، ويعدّه من الأوائل الذين غنّوا الشعبي البدوي، ونشره ليس فقط بلسان المثاليث، بل اختار أشعارًا من فحول الشعراء على تنوّعهم مغنيًا بلسان أكثر من جهة، ما وسّع من قاعدة مستمعيه، خلافًا لأغلب المغنين البدويين الذين التزموا بإنتاجاتهم الخاصة أو اقتصروا على تراث قبائلهم ومناطقهم.
امتدت إسهامات إسماعيل إلى عنصر الفرجة، إذ حوّل غنائه إلى عرضٍ فرجوي متكامل بعد أن أخذ عن معلمه صالح اصطحاب الراقصات في حفلاته في مجتمع الأرياف والبداوي، المحافظ في أغلبه، رغم معارضةٍ شديدة من الإدبة. ساهم إسماعيل في التعريف بالثنائي زينة وعزيزة، اللتان خلفتا عائشة ومامية، وجعل منهما أيقونتا العروض الراقصة في الكافيشانطات في جهة باب سويقة في تونس العاصمة وداخل ربوع البلاد.
ساهم إسماعيل في تكوين الفرقة القومية للفنون الشعبية حيث أشرف على تعليم الرقص الشعبي والعزف على الزكرة والدربوكة بصحبة علي بوقرة والخطوي بوعكاز وصالح المهدي محمد جوهر حزوق. الأغنية الشعبية الريفية: إسماعيل الحطاب نموذجًا، صفحة ٢١.. أدخل إسماعيل الزكرة إلى الإذاعة التونسية، تزامنًا مع الشيخ بودية من صفاقس، كما حوّل رصيدًا مهمًا من الشعر الشعبي وتراث الإدبة إلى أغانٍ باقية، رغم معارضة المحافظين إقحام الإيقاع والزكرة في محافل الإدبة. في النهاية الشعر الشعبي أصل الغناء، وإن ترك الشعراء قديمًا حرفة الغناء لمن يصغرهم شأنًا.
لحّن إسماعيل كل أغانيه وبرع في العزف على الزكرة. يظهر في هذا المقطع وهو يتخمر في العزف مرافقًا تلميذه محمد الشارني في أداء توحشتك لا ريت أوهامك التي لحّنها إسماعيل لخاله شبيل الجبراني، مخلّدًا قصة حبه اليائس.
بجانب متوحش لا ريت أوهامك، خلّد إسماعيل معلقات الغزل الكبرى التي عاشها فحول الشعراء، وضم إلى رصيده أغنية مرحوم اللي سمى عيشة، التي ارتبطت بقصة محمد الصغير ساسي مع حبيبته عيشة. يحتل اسم عائشة رمزية مضاعفة في مسيرة إسماعيل. فهو تزوّج من عائشة أرملة معلّمه صالح الدغباجي، كما أنه فتّح قريحته على إرث محمد الصغير ساسي وقصص حبه مع عيشة، علاوةً على أن اسم عيشة تردّد أكثر من مرة في نظم فحول الشعراء مثل عبادة السعيدي الذي عاصر محمد الصغير ساسي وتغنى بِـ عيشة خاصته في: “يا عيشة حبك ما أمرّه خلاني مهموم.”
وسّع إسماعيل رصيده من سيل الشعر المنساب من حوله، من خاله شبيل إلى الصغير ساسي، واستوعب في أدائه مضامين الغزل وملاحم المقاومة، وحتى ما اشتبك بينهما مثل ما بين الوديان، التي عرّفت جمهورًا واسعًا من خارج الشعبي على إسماعيل الحطاب.
يبدأ إسماعيل الأغنية بصيحات مناداة تبدو كصراخ صيّاد تخترق الفيافي المقفرة باحثةً عن صدًى، في صوت صالحي يميّزه بحّته الفريدة وأداؤه القوي: “ناديت يا غالي وكثّحت”. يبدو صوت إسماعيل قادمًا من أعماق المثاليث، ليخترق وديان واد الزاس ويجد صداه بين جبال الكاف. يرتق إسماعيل ثوب السردية الشعبية الممزقة بين رواياتٍ عدة في بين الوديان، ويلبسه صوت الصالحي المنقوع في الألم والتلوّع.
وظّف إسماعيل الصالحي لمضامين أخرى غير الغزل، وحفر في أعماق الذاكرة الجماعية في صراعها ضد الاستعمار الفرنسي، وتغنى بِملحمة محمد الدغباجي في الخمسة اللي لحقوا بالجرة (الخمسة الذين تقفوا الأثر). تغوص ملحمة الخمسة اللي لحقوا بالجرة في تفاصيل معركة مخزن مطماطة في الجنوب التونسي، ومطاردة الكيلاني المحضاوي للدغباجي: “جو خمسة يقصوا في الجرة وملك الموت يراجي / لحقوا مولى العركة المرة، المشهور الدغباجي.” تنتهي فصول الملحمة بانتصار الدغباجي واصطياده لمطارديه الواحد تلو الآخر.
يؤثث إسماعيل الصالحي بليّات يغمغمها في أنينٍ ووجع، وكأنه يحاكي شخصًا أصيب لتوه بالرصاص ويتلوّى من الوجع، فيما يطلق صيحات وجع يعتصرها من فرط الألم الذي يمزق أحشائه في ضربٍ من المناداة الذي يميز الصالحي، بجانب التمديد الأول في بداية جمل الغناء، موظفًا طبقته الصوتية العالية ومنتقلًا بين القرار والجواب.
ضاعف إسماعيل الحطاب من حضور الدغباجي في ذاكرة المقاومة الوطنية ضد الاستعمار، في اتساقٍ مع السردية الرسمية التي انطلقت مع حكم بورقيبة لتونس واعتمدت على الأيقنة من خلال صناعة أبطال وطنيين، وأدى الخطرة صارت ماكبرها (هذه المعركة ما أعظمها) التي ارتبطت أيضًا بسيرة الدغباجي، وبعود نسبها إلى الشاعر التومي الغبنتني، أحد فحول شعراء غبنتن من ولاية مدنين، الذي اشتهر ببلاغة وصفه للمعارك الحربية محمد المرزوقي. القسم الأول من الأعمال الكاملة. الدغباجي، صفحة ٢٤٩..
مثّل إسماعيل الحطاب لدى الأغلبية صوت الملاحم الحربية، والتصق حضوره في الذاكرة الجماعية مع سرديات المقاومة ضد الاستعمار.
أشار محمد الشارني في مقابلة تلفزيونية إلى علاقته مع إسماعيل الحطاب، وكيف قضى أكثر من نصف عمره مع إسماعيل عازفًا ومرافقًا ومتابعًا له: “أنا شربت مالبحر”، في الإشارة إلى ما نهله من تجربة إسماعيل الحطاب. يعرب الشارني عن انبهاره بإسماعيل الحطاب، ويعقتد أنه كان “ممكونًا”، أي مسكونًا بجنون الشعر، وهو اعتقاد شائع في الإشارة إلى فحول الشعراء وأسطرتهم، مستندًا إلى قصة أغنية مع إسماعيل الحطاب عندما اقترح عليه الشارني مطلعها: “قسمي على الله كان ما ما تبغوني / ناكل ونشرب من دموع عيوني” وعدّلها إسماعيل إلى: “قسمي على الله كان ما تبغوني / ترضوشي ناكل من دموع عيوني”. لا يوافق عبد السلام شوشان، وهو شاعر شعبي من جبنيانة، كلام الشارني، ويعتبر شعر إسماعيل ضعيفًا مقارنةً بالفحول السابقين، كشبيل الجبراني ومحمد الصغير ساسي، دون أن ينكر براعته وحرفته في الغناء وقوة صوته الفريد. يستند شوشان على سبيل المثال إلى موال بين الوديان، معتبرًا إياه أقلّ شعرية من نص الأغنية الذي دخلت عليه تحريفات عدة، وتضمن إشارات غير متوازنة ومضامين بعيدة عن قوة أغراض الشعر الشعبي مع شبيل والصغير ساسي: “آش اللي لابس صبّاط / وآش جاب اللي ساقه حفيانة.”
يختلف حضور إسماعيل في الذاكرة الجماعية باختلاف الأجيال التي واكبته أو شهدت أثره فيما بعد. لم يسبق أن نال مغنٍ شعبي هذا القدر من الاهتمام طوال فترةٍ طويلة من الزمن. يعرفه القدامى بحفلاته في الأرياف والبوادي وبرنامج القافلة تسير. في لقائي مع حسن المقدّم أحد كبار قريتي حزق الذي استدعى إسماعيل الحطاب إلى زفافه أول السبعينيات، حدثني عن عادة سكان القرية على التجمّع عند الساعة الحادية عشر أسبوعيًا من كل يوم جمعة أمام دكان أبيه، صاحب الراديو الوحيد في ذلك الوقت. ينتظر الجميع فقرة إسماعيل الحطاب الأسبوعية في برنامج القافلة تسير التي تسبق صلاة الجمعة. ينصب البعض عرباتهم ويتظلل آخرون بجدران المنازل المحيطة للانتشاء مع صوت إسماعيل القوي ونغمات الزكرة وإيقاعات الطبلة. يتناقل البعض أساطيرًا من قبيل أن بورقيبة يريد محاربة الإسلام عبر برمجة فقرة إسماعيل في ذلك التوقيت، حتى يشد الناس إلى غنائه ويعزفوا عن أداء صلاة الجمعة. روى لي حسن عن أبيه الذي استقبل إسماعيل الحطاب صغيرًا مرافقًا لخاله شبيل على الكريطة (العربة التي تجرها الدابة) لتأثيث جلساتٍ ومسامرات يجتمع حولها السامعون.
خلافًا لسكان الأرياف البعيدة، يتذكر أغلب سكان العاصمة إسماعيل الحطاب من خلال سهراته في الكافيشانطات. يستعرض الكاتب أحمد محفوظ بعضًا من تلك السهرات في روايته غناء الشوارع المظلمة التي صدرت في ٢٠١٧، وسلّط فيها الضوء على الحياة الحضرية في العاصمة خلال الستينيات والسبعينيات. يستمر أثر إسماعيل الحطاب قويًا في الذاكرة على امتداد حقباتٍ عدة، قبل وبعد الاستقلال ووصولًا إلى التسعينيات، حين تزايد الاهتمام به بعد ظهوره في عرض النوبة سنة ١٩٩١ الذي أخرجه الفاضل الجزيري وأقيم على مسرح قرطاج. عدا عن أدائه القوي لِـ بين الوديان ودزيتيلي هاني جيتك، مع مشاركةٍ حامية للراقصات معه، حيث علق بالأذهان مشهد صعود ليليا الدهماني إلى الركح وشروعها في غناء يا أم العوينة الزرقاء، قبل أن يراقصها إسماعيل في مشهد للتاريخ.
لم يبتلع عرض النوبة إسماعيل الحطاب، ولم ينمّطه كما فعل في ذاكرة البعض مع المزود على سبيل المثال. في حين اقتصر تعريف البعض للمزود بالرجوع إلى عرض النوبة، امتد أثر إسماعيل على جيلٍ كامل من المغنين الشعبيين مثل عبد اللطيف الغزي ومصطفى السعيدي ومحمد الشارني والشاب سليم، وحتى فاطمة بوساحة التي تصدّرت مشهد الغناء الشعبي النسائي بعد وفاته. مر على مدرسته أيضًا أسماء من المزود الحضري، إذ رافقه الهادي حبوبة ولطفي جرمانة في العزف على الإيقاع في فرقته.
يشير عبد اللطيف الغزي إلى أن النظام البورقيبي احتضن إسماعيل ووفّر له تسهيلات مقارنةً بغيره حظي إسماعيل الحطاب بمسدسٍ مرخص يحمله معه للحماية، كما كان مبجلًا من قبل بورقيبة الذي اصطحبه معه أثناء زيارته إلى أمريكا في الستينيات.، ليستفيد في المقابل من شهرته وقوة انتشاره في ربوع البلاد. يروي الغزي في مقابلة إذاعية كيف استغل بورقيبة إسماعيل الحطاب أثناء زياراته إلى الجنوب التونسي، الذي جمعته ببورقيبة علاقة متوترة من مخلفات حرب الاستقلال ومعارك بورقيبة الاستئصالية ضد صالح بن يوسف وبقايا الفلاقة ومجموعة ١٩٦٢ التي أرادت الانقلاب عليه حسب السردية الرسمية. يقول الغزي بأن بورقيبة تعمد إرسال إسماعيل الحطاب قبله حتى يجمع الناس في حفلة، ليستثمر تجمهر الجموع ويصعد وراءه مؤديًا خطابه.
احتل إسماعيل الحطّاب مكانةً رفيعة وتسيّد الغناء الشعبي لعقودٍ، لا لفرادة حنجرته وصوته فقط، بل لإرثه الثوري المجدّد في الغناء الشعبي وسيرته الملهمة، ودوره في تحويل تراث جهته إلى إحدى أعمدة الغناء. رفع راية الغناء الشعبي البدوي في ظل دولة الاستقلال وسياسات التحديث الثقافي، والنموذج البرجوازي للدولة الذي أراد بورقيبة فرضه، وتراجع البداوة في البلاد. شقّ طريقه من عمق مجال المثاليث إلى قلب العاصمة، ومن بعدها إلى أعماق البلاد.
تحدث محمد الشارني في مقابلة تلفزيونية عن معلّمه إسماعيل الحطاب بانفعالٍ مستفيض: “سألت نفسي بعد وفاة إسماعيل، هل سيجرؤ الدود على الاقتراب من حنجرته؟”