.
في 2 أيار/ مايو 2011، انطلقت مجموعة من الشباب السوريّين من ساحة عرنوس في قلب دمشق وهم يغنّون نشيد “موطني“، مخترقين سوق الصالحية قاصدين البرلمان. وعندما انتهوا، غنّوا النشيد العربي السوري: “حماة الديار عليكم سلام، أبت أن تذل النفوس الكرام“.
يومها كان غناء النشيد الوطني في قلب العاصمة شكلاً من أشكال التمرّد على القبضة الأمنيّة، وتأكيداً على أن هؤلاء المعارضين المحمّلين بلافتات التضامن مع المدن الثائرة سوريّون أيضاً. إنّما أحيطت المجموعة برجال الأمن من كل الجوانب، وسرعان ما تمّت مهاجمتها ليتعرّض عدد من الشبان والفتيات للضرب المبرح والإهانات وثم الاعتقال، في الوقت الذي نجح فيه الباقون بالهرب. يومها صوّر هذه الحادثة الشهيد أمجد السيوفي (الذي استشهد في قصف مدينة سقبا في الريف الدمشقي بعدها بسنتين) بكاميرا مخبّأة في قلم بجيب قميصه، والأهم أنّه استطاع التقاط اللحظة الهمجيّة لتعبئة سيارة الأمن بالمعتقلين.
تنتمي هذه المظاهرة إلى فعاليات النضال السوري السلمي ضد الدكتاتوريّة، وتنوّعت لاحقاً مصائر المشاركين فيها، فمنهم من اعتقل وعذّب وخرج بعد فترة، ومنهم من ترك البلد إلى غير عودة، ومنهم من مات بالقصف أو تحت التعذيب، والقليل من بقي صامداً في دمشق حتى هذه اللحظة.
بعد حوالي ثلاث سنوات من مظاهرة “ساحة عرنوس“، وبعد كمية التطورات الهائلة التي حدثت على خط النضال السوري ضد الدكتاتوريّة من تزايد همجيّة النظام، ثم تبنّي خيار العسكرة من قبل المعارضة، وصولاً إلى الكيماوي والبراميل المتفجّرة وحصارات الجوع، وفي حركة تبدو خارج سياق الأحداث: يقوم شبان “مشروع ومضة” الذي ترعاه وزارة المصالحة الوطنيّة (وهم طالبات وطلّاب المعهدين العاليين للفنون المسرحية والموسيقى) بأداء أغاني ممسرحة في قلب دمشق التجاري على بعد أمتار من “ساحة عرنوس” لتصدح أصواتهم وأنغام آلاتهم بالأغاني الوطنية، ويتجمهر حولهم الناس من دون أن يثير وجودهم قمع أو تنكيل.
في “الومضة الثانية“، اجتمع المغنون والعازفون في منطقة من شارع الحمرا الدمشقي، وغنوا وعزفوا أغنية “موطني“. أما في الومضة الثالثة يوم 26 كانون ثاني/ يناير 2014، وسميّت “ومضة إلى ناس 2014″، فقد تجمع المشاركون فيها في منطقة مكتظة من وسط دمشق وبدأ العرض كالتالي:
ممثل يظهر فجأة من قلب الناس فيصرخ بكلمات كان قد كتبها الممثل الراحل نضال سيجري:
“أيّها المختلفون وطني بدء يغضب منك
حاولوا أن تلتقوا
تجادلوا
تناقشوا
اختلفوا
فهذه البلاد لكل أبنائها وتتسع لكل الغيورين عليها
يكفي هدراً للوقت
أحبوا بلادكم فهي تحبكم ويليق بها الحب
أرجوكم جرّبوا ذلك
أرجوكم ضعوها في قلوبكم كما أنتم في قلبها
أيها السوريون
ثم يخرج ممثل آخر ليكمل المونولوج:
اسمعوا صوته اسمعوا استغاثته
اسمعوا صراخه بأرواحكم
وأنتم أيّها الأصدقاء بماذا تشعرون
الانتماء لا يشبه التحريض في شيء
الانتماء لا يعني الخوف من أحد، بل الخوف على كل شيء
ثم يبدأ المغني إياد حنا بغناء أغنية “مهما يتجرح بلدنا” للبناني الراحل زكي ناصيف، ثم تختتم الوصلة بموّال ينادي بعودة الشباب المغتربين إلى أوطانهم ليساهموا ببنائها من جديد.
يثير “مشروع ومضة” الإشكاليّة التقليديّة لرعاية النظام للثقافة وأدواتها. فمن غناء “موطني” في 2011، إلى غنائها في 2014، يبدو أن الفارق الوحيد هو رعاية النظام الأمني. فبتلميع صورة النظام يتم الإيحاء بأن التغيير الديمقراطي قد تم بالفعل، كصورة مضلّلة يبنى عليها “مشروع ومضة” نفسه.
هذا التضليل يجد أساسه في خطاب المشروع: “الوطن الواحد الذي يتسع لكل أبنائه“، و“الأشخاص الذين يجب أن يحبوا بعضهم ويتوحدوا من أجل بناء وطنهم المدمّر“، و“المغتربون الذين يجب أن يعودوا للنهوض بسوريا من جديد“. ماذا تعني هذه المقولات للمدني ابن اليرموك أو الغوطة وهو على بعد عدة كيلومترات يموت من الجوع؟ هذا إن لم يمت بالبراميل (كما يحدث في حلب يوميّاً على سبيل المثال)، أو تحت التعذيب. وماذا يعني الحديث عن “هويّة مشتركة” ككلام فضفاض وكأن المشكلة السوريّة في أقصى تعقيداتها ليست سوى خلاف بين طفلين في شارع فرعي يمكن حلها بعبارة “يلا بوسوا شوارب بعضكن يا شباب“.
تمييع المفاهيم واجترار المقولات العامة المتعلّقة بالمحبة والأخوّة والمصالحة ومصلحة الوطن كان دائماً خطاب الذين لا يريدون اتخاذ موقف حاسم في القضية السوريّة لتغيب هوية المجرم الحقيقي ضمن هذه السرديّة، فتمسخ الثورة لتصير صراعاً بين طرفين متساويين بالقوة والجرم والمسؤولية، وعليهما أن يحلا خلافاتهما حالاً ويشرعا ببناء الوطن “الجميل“.
لن يغيّر استسهال الخوض في تفاصيل الشأن السوري، الذي نراه في فعاليات “مشروع ومضة“، ولو تمّت تغطيته بكل أشكال حسن النوايا، من حقيقة كونه طعنة في الظهر لجميع المظلومين والجائعين في سوريا. فكم هو سهل أن تفعل ما فعله شباب “مشروع ومضة“: تذهب إلى وسط الشارع وأنت محمي بعشرات رجال الأمن المخفيين والظاهرين، وتغنّي للوطن والحب والأخوة والنهوض من الدمار من دون أن تسأل نفسك: أي “وطن” تقصد في هذه اللحظة؟ متناسياً شريكاً لك في هذا الوطن يذبح في نفس اللحظة من قبل من تسعى لتبييض صفحتهم بموسيقاك “الوطنيّة“.
مظاهرة ساحة عرنوس تصوير أمجد السيوفي
الومضة الثانية
الومضة الثالثة