.
بعمر السابعة، في نزهاتي بمروج البطيخ والبرسيم على كتف دجلة بعلي الغربي، تعوّدتُ بلا وعي حمل حصاتين في جيبي، التقطتهما بعناية في أول المشوار. كانت الدندنةُ شقيقةَ أنفاسي المتقطّعة على مد الأخضرين، النهر والحقل، وكنت أضرب الحصاتين ببعضهما البعض لأستخرج منهما إيقاعًا ما يوالف الدندنة. دهشتُ آن سمعتُ طالب القره غولي يروي لمذيعة برنامج حديث المهجر عن حصاتين في جيب دشداشته الأولى، يستخرج منها الإيقاع في بساتين الغازيّة قرية النصر حاليًا. مطلع الأربعينات. تأتي البداهة بالحلّ، ويعبّد الفقر الدرب للبداهة.
تدخلُ إلى عالم طالب القره غولي كما تدخل موجة شاطئًا أوله سومر ونهايته أخر قصيدة يقولها شاعر في سوق الشيوخ. إذا كان عثمان الموصليّ قد شكّل نقلة نوعيّةً بتطوير المدائح النبويّة موسيقيًا عبر ألحانٍ مبتكرة تحوّل أغلبها إلى أغانٍ، وكان الأخوان صالح وداوود الكويتي قد حولا الطرب العراقيّ من فضاء البستة، ذات الجملة الموسيقيّة الوحيدة المتكررة غالبًا، إلى طور الأغنية المتعدّدة الجمل والأبعاد والمقامات، ما أسّس للحداثة الغنائية، فإن طالب القره غولي صنع انتقالة مهمة باستثمار تلك الخلاصات، وآخذ الأغنية العراقية إلى ذروة نضجها الفنيّ بإنجاز أعمال تمتاز بالبناء والتركيب الموسيقيّ، والمزج بين أثر البيئة العراقية من جانب ومدارس الغناء العربي وعلى رأسها المصريّة من جانب آخر.
استطاع القره غولي في فترة قصيرة من تاريخ العراق المعاصر، قصيرة في حسابات الفنّ ومعقّدة في حسابات السياسة، أن يصنع لاسمه مجالَ تأثيرٍ خاص، بفضل موهبة وعصاميّة تدفعها نزعة فطريّة إلى التمرد والإقدام. ارتبط اسمه بأساطير الموسيقى العراقية شعرًا وغناءً، حتى تحوّل هو نفسه إلى أسطورة، كما لم تحدّه اللهجة العراقية فوصلت معظم أغانيه بلاد الشام والخليج والمغرب الكبير.
ترك القره غولي عشرات الروائع المؤثّرة في وجدان العراقيين على مدار أربعة عقود، وقاد – ومجموعة من جيله – ثورة تحديث الأغنية العراقيّة ونقلها إلى مديات تعبيريّة لم تصلها من قبله، ومن الصعب أن تصلها بعده. يكادُ “الإمبراطور” كما يُلقّب، يكون قد تعامل مع جميع مطربي العراق منذ مطلع السبعينات، مع تشكيله ثنائيًا متفردًا مع ياس خضر قدما من خلاله أعمالًا لا تنسى: البنفسج، ووداعًا يا حزن وعزاز.
ولد طالب القره غولي عام ١٩٣٩ في قرية النصر، المسماة سابقًا بالغازيّة، والواقعة بين الرفاعي والشطرة بمحافظة ذي قار، قريبًا من مرابع ولادة حضيري أبو عزيز وناصر حكيم وداخل حسن، في حيزٍ محدود صنع جزءًا راسخًا من تاريخ الشعر والموسيقى في عراق القرن العشرين.
بيئةُ طبيعة. بيوتات وصرائف مفردها صريفة: أبنية سكنية بدائيّة مادتها من القصب مستطيلة الشكل طولها ٥ - ٦ أمتار يسكنها محدودو الدخل. على نهر الغرّاف. ماء وأرض مترعة بالعشب، تحرثها أصوات الفلاحين قبل مساحيهم أداة لحفر الأرض أو لقطع جذور النباتات. تستخدم أيضًا لنقل الحبوب، وتصنع من الخشب وأطرافها من فلزات.. التنغيم تزجية وقت، وبثّ لشكوى النفس، وتناغم مع المحيط المتداخل بأصواته، حركاته وسكناته. هكذا تشرَّب صوت الناس هناك خصوصيةً آتية من الجذور العميقة لإنسان تلك البقاع والممتدة حتى السومريين.
يروي طالب بأنه عاش طفولة محرومة، بات فيها ليالٍ بلا عشاء. أكمل الابتدائية في النصر وانتظر زميله، ابن تاجر البلدة، سنة كاملة لكي يتخرج من الابتدائية حتى يذهبا معًا إلى الناصرية لإكمال المتوسطة؛ إذْ لم يستطع أهل طالب دفع تكاليف النقل اليومي لولدهم.
جاء طالب، إذًا، من الريف. الريفيّ فطنٌ، صلبٌ، حسّاس، و”خشمه عالي.”
هناك، في الناصريّة، برزت الملامح الأولى لموهبة طالب في الغناء وتعلّقه بإلقاء القصائد وتأدية الأناشيد الوطنية والقومية، وتقديم بعض الأغاني التراثية. كان أحد نجوم ثانوية الناصرية، وكانت حينها مختبرًا حيويًا للفنون، فيها مسرحٌ كبير وتعجُّ بأسماء غدت لامعةً في الفضاء الفنيّ العراقيّ أمثال كمال السيد، وعزيز عبد الصاحب، ومحسن العزاوي، وعبد الرزاق عبد سكر وحسين نعمة.
عُرف القره غولي مطربًا في حفلات الثانويّة، وقدّم من كلمات الشاعر حامد الغزيّ اوبريتًا ساخرًا عن الدروس:
“ضجنا يا أستاذنا ضجنا
صار لك زمان معذبنا
درسك والله مألمنا
والامتحان مخربطنا”
منحته المدينة وأضواؤها مصادفة حُلُمية لا تتكرر. لدى زيارة الملك فيصل الثاني إلى الناصرية عام ١٩٥٣، وفي أثناء حفل استقبال ضخم، دفع المشرف الفنيّ في تربية المدينة بطالب، الفتى الغضّ، ليغني أمام جلالة الملك:
“للناصريّة / للناصرية
بو جناغ أريد / وياك للناصرية
باثنين أديه / تعطش وأشربك ماي
باثنين أديه”
صفّق الفتى الملك للفتى المطرب وصافحه معجبًا.
دخلَ طالب القره غولي دورة لتخريج المعلمين استمرت لأشهر قليلة، وبراتبه الأوّل سافر إلى بغداد ليقتني أول عود في حياته من ورشة الصانع علي العوّاد بـ ١٥ دينارًا، قرب الحيدرخانة بشارع الرشيد. لم يكن يعرف عنه أي شيءٍ. يقول في حوار معه: “أجلستُ العود بحقيبته الجلد الأنيقة إلى جانبي في مقعد السيارة العامّة مثل جثة. لم أكن أعرف عن تلك الكتلة الصامتة شيئًا.”
بدأ طالب محاولاته في التعلّم الفرديّ على العود، لم يطلب مساعدة أحد ولم يدخل في دورة، ولم يستعن بكتاب نظريّ. حكاية القره غولي مع تعلّم العود وحدها برهان صارخ على طبيعته النفسيّة التي تخجل من عدم المعرفة، وتأبى الاعتراف بذلك، وتستصعب تقبل التعلّم من إنسان آخر. كان يحمل كبرياءً متفردةً جعلته يكابد شهورًا من عذاب المحاولات اليائسة في إدراك كنه الأوتار.
في حوار مع إنعام عبد المجيد ذكر القره غولي حكايةً تكاد لا تصدّق عن تعلم دوزان العود بواسطة الفم، عبر ترديد وتقليد أصوات الألحان بفمه ومحاولة مقاربتها في الوتر، مستشهدًا بأغنية من أوائل ما تعلمه، عمّي يا بيّاع الورد:
“بم بمه بررم
بم بمه برررم”
الطريقة البدائية الأكثر شيوعًا في العالم.
يروي طالب كيف أنه ظل يبكي في لحظات شعوره بالعجز عن التعلّم؛ والعود، لمن لا يعرفه، صعبٌ منال تعلمه بلا معلّم. لاحقًا اشترى طالب أحد كتب تعلّم العزف. بدأ شعوره بأن له علاقة خاصة مع الأغاني حين اكتشف أن طريقة سماعه للأغنية تجزيئية، بمعنى أنه يستطيع سماع كل آلة داخل اللحن بمعزل عن باقي الآلات، من ثمّ حفظ حركاتها وتنقلاتها في كل مرّة على حدة، ما مكّنه من النسج والمقاربة على منوالها في بداياته التي حاول فيها تقديم أغانٍ وأناشيد للفرق المدرسية المشاركة بمهرجانات التربية.
لحن أُولى أغانيه يا خوخ يا زردالي وجذّاب، وغنّاها في الجلسات اليوميّة الخاصّة التي جمعته وأصدقاءه المعلمين في ريف الناصرية، نهاية الستينات، حيث لا سلوان مع ليل العراق الطويل غير الطرب والوتر والحكايات. لكنه لم يعرف قيمة وأهمية تلك الألحان وقتها بحسب رأيه.
سرعان ما صار المعلّم الجديد مديرًا لتلكَ المدرسة، ما أنبأ عن صفات قياديّة مبكرة.
لاحقًا نُقلَ القره غولي إلى ابتدائيةٍ في الريف بسبب خلافات شخصيّة. لقد كانت المدرسة الجديدة هي مدرسته الأولى على طريق مسيرته. اختير مديرًا هنا أيضًا، مديرًا لأساتذته الذين درّسوه. كانت الأطيان تحاصرُ طريقَ المدرسة في الشتاء ما يجعل مرور السيارات مستحيلًا. “كنا نُضطر إلى نزع أحذيتنا ورفع بناطيلنا إلى الركبة والسير حفاة عدة كيلومترات للوصول إلى المدرسة. وقتها، كانت قد أذيعت أُولى أغنياتي ونالت شهرةً طيبة في مركز المحافظة.”
“يا خوخ يا زردالي
بَذّات مالك تالي
داريتك ومن حومرت
صار الجني لعذالي.”
كانت المدارس العراقيّة، مطلع الستينات، تستقبلُ كفاءات البلاد المتخرجة توًّا من الكليات والمعاهد، هكذا تصادف تنسيب طالب القره غولي في مدرسة واحدة مع شاعر شاب متحفّز يدعى زامل سعيد فتّاح. انعقدت بين الاثنين صداقة سريعة عمقتها الاهتمامات المشتركة بالفن والشعر والموسيقى.
شغل التحديث تفكير الشابين الفاتحين صدرهما لعراق الستينات، حيث تتلاطم في غضونه وقتها الأماني والانقلابات. خلق النقاش المستمر حالةً من الفهم المشترك، الذي تُرجم لاحقًا إلى روائع تشعر معها بأن الكاتب والملحن متداخلان حد التوحد. أغنية عزاز برهان على ذلك، كما يقول طالب في حوار متلفز.
خرجت عزاز – باكورة تعاونهما – ثمرة نقاش مطوّل بين طالب وزامل، وجرى عليها تغيير وتحوير وتحسين. أُشبعت القصيدة تفكيرًا بين الاثنين حتى نضجت؛ خاصةً أن طالب ملحن أفكار بالدرجة الأساس. أثمرَ النقاش عن أغنيةٍ فيها الحبّ للأب والأم والوطن والزرع والناس والأرض، لهؤلاء الـ أعزاز جميعهم، و”هذا نمط جديد على الغناء العراقيّ حينها”، كما يقول القره غولي.
في أحد التسجيلات المتأخّرة يذكر ياس خضر: “الأغاني التي لحنها لي طالب القره غولي لم تولد دفعة واحدة، كنا نجتمع ونسهر عليها أيامًا وليالي وقد تستمر لأشهر، وبعد أن نحصل على لحنٍ أولي نشرع بإسماعه لأصدقائنا في الجلسات الخاصّة ثم يتبلور ونسجله بعد إلحاح الآخرين”، ليجيبه طالب “كنا نلحن ونغني بلا هدف سوى الفن، ما عدنا أغراض أخرى.”
أصبحُ طالب القره غولي مديرًا للنشاط المدرسيّ في تربية الناصرية، نهاية الستينات، وتهيأ لانتقاله إلى العاصمة بغداد، تحديداً عام ١٩٦٨.
في مطلع السبعينات قرر القره غولي قطع خطوة هامّة تمثّلت بالتقديم للإذاعة في بغداد. كانت لجنة القبول تتكوّن من أسماء لامعة ومخيفة لكل شاب متقدّم: روحي الخمّاش، خضر إلياس، جوزيف حنّا وخزعل مهدي. أدى الشاب القادم من الناصرية أغنية صعبة مليئة بالتحولات النغميّة والجمل الموسيقية التي تحتاج براعة العزف، هي عندما يأتي المساء لمحمّد عبد الوهاب. حين ختم الشاب غناءه صاح الخمّاش:
“عفية، عفية. أكيد إنت من طلابي.” ردّ القره غولي: “والله أستاذ أنا لا داخل معهد، ولا متخرج من دورة، ولا إلي علاقة بالموسيقى.”
قُبِلَ الشاب فورًا بصفة مطرب وملحن، لتكون أول مهامه مع الفرقة الصباحيّة المشهورة وكانت من أساتذة العزف المكفوفين. غيّر الملحن الشاب سريعًا من واقع الفرقة وأعطاها، بحماسته واندفاعه، رونقًا جديدًا، ما لفت الأنظار إلى الملكة الإداريّة في القره غولي فضلًاَ عن موهبته.
كما غنى في برنامج هواة من إعداد وإخراج كمال عاكف وقدم أغان عدة للتلفزيون قبل أن ينسحب من الغناء لصالح التلحين.
في تلك الفترة، كان قد انتقل بوظيفته الحكوميّة من مديرٍ لنشاط الناصريّة المدرسيّ إلى تربية بغداد حيث أدار نشاطها المدرسيّ أيضًا.
كانت المرحلة التي دخل فيها طالب وأبناء جيله من الملحنين إلى الإذاعة مرحلة تغيير وتبدّل جيلي، ناهيك عن التبدّل الأيديولوجي الذي تزامن مع استلام البعثيين للسلطة ومحاولتهم السيطرة على الإعلام الرسمي.
كان وديع خونده وروحي الخماش والباقين قد بلغوا الخمسينات من العمر، وبدا أن الأوضاع الجديدة في أروقة الإذاعة والتلفزيون باتت مهيئة لتسليمها لجيل جديد شاب قادر على استيعاب متطلبات المرحلة، وهذا ما حدث؛ إذ اعتزل روحي خماش الفن نهاية السبعينات مثلًا، وانحسر حضور الباقين. كانت الأرضية مهيأة لصعود الفتى العصامي وتحقيق الفترة الذهبية في الغناء العراقي، وما عرف لاحقًا باسم الأغنية السبعينية.
أنجز القره غولي في السنوات الخمس الأولى من السبعينات أعمالًا بارزة، وحفر له موقعًا في الصدارة في وقت كان التنافس فيه بين ملحني البلاد على أشده.
عام ١٩٧٥ ذهب للعمل في الكويت لسنة واحدة، ثم انتقل بعدها إلى الإمارات ليعمل في قسم الموسيقى بإذاعة أبو ظبي لمدة أربع سنوات عدّها فجوة في مشواره الفني، إذ انقطع فيها عن التلحين: “لا أستطيع التلحين إلا وأنا قريب ومنهمك بالوسط الفني وأجوائه التي تمدني بالتفاعل.”
عاد القره غولي عام ١٩٨٠ إلى العراق متعطّشًا للاستوديوهات والتسجيل ليجد البلاد على شفير حرب مدمرّة.
اتهمه النقاد بـ مصرية ألحانه، ولم ينكر ذلك، وأعلن غير مرة تأثّره بعبد الوهاب والسنباطي وبليغ حمدي والموجي، لكنه أشار إلى جذوره العراقية التي لم يتخلَّ عنها.
قدّم القره غولي ألحانًا عراقية جديدة تغنّت بالحب والأرض والوطن والمعاني الإنسانية، وكان وفيًا لصناعة أغنية عراقية فخمة تُقابل نظيرتها في مصر، بمقدمة موسيقية طويلة وكوبليهات متنوعة مع تنويعات عديدة في المقامات والإيقاعات وثراء نغمي واضح. كما يُشهد له بالجرأة في طرق جمل وتقنيات موسيقية لم توجد قبله عراقيًا، مثل سلم الكروماتيك في مقدمة اتنه اتنه، مثلما يُشهد له بالتحديث والرصانة والغزارة؛ وهذه الأخيرة ميزة قرغولية.
يعطي القره غولي للكلمة حيزًا واسعًا للإفصاح الصوتيّ، وبذلك تتّضح لنا أبعاد التلوين الشعوري في كل لفظة من القصيدة المغنّاة، كما نجد في المطلع “هذا أنا.. وهذاك انته”، أو”وأنت تدري.. تدري كل ليلة بغيابك، ينهدم ثلثين عمري.”
كما تتميّز أعماله بتنوع إيقاعي، إذ تجاوز الجورجينا الشائع في الغناء الشعبي إلى استخدام عدة إيقاعات شرقية، ما منح الأغنية عمقًا تعبيريًا. مثال: “حيل اسحن كليبي”، “حاسبينك”، “يكولون باجر تمر”.
اعتمد طالب في بناء اللحن على جسور موسيقية طويلة نسبيًا، تقارب في امتدادها المقدمة الموسيقية، لتهيئة المتلقي سمعيًا قبل كل فصل / مقطع غنائي. مع وضع لحن مستقل لكل كوبليه يختلف وزنًا ونسيجًا، ما أضفى على العمل طابعًا متغيرًا ومنع الرتابة، في توظيف لحني يستدعي الأسلوب التعبيري في التلحين.
في البنفسج وحدها استخدم تسعة مقامات رئيسيّة وفرعيّة وهي النهاوند (مقام الأغنية الرئيس)، الكرد، السيكاه، البيات، الحجاز، الصبا، الرست، اللامي، ناهيك عن العجم الذي فرش به ميدان المقدّمة الموسيقيّة.
تركزت إسهاماته الفنية على رؤية مسبقة تعتقد أن هناك حلقة مفقودة بين الغناء الريفي – لون المنطقة الجنوبية وبعض مناطق الفرات الأوسط – وبين الأغنية البغدادية التي رآها “مُحيّرة”، أيّ ليس لها موقع في الحياة الغنائيّة، ولا استقرار، وتعاني احتضارًا. كما أعلن مرة أن الأغنية البغدادية – قبل إسهامات الجنوب والفرات الأوسط – كانت تتضمن هنات معيبة كالغزل بالمذكر، وعدم وحدة الزمن في القصيدة، وفراغ كلماتها ، ما رآه لا يكمل رسالة الغناء الذوقية.
كان القره غولي يستشعر هذا الفراغ ويريد ملأه على أسس وقواعد فنيّة أخلاقية (التعبير لطالب نفسه): اختيار الكلام الرصين، غير المبتذل، لا خدش للحياء فيه ولا غزل فاحش، كما أنه لا يتناقض في نظرته للرجل والمرأة والحب والحياة.
اللافت أنه تعامل مع الأصوات كلها تقريبًا وظلّ مهتمًا بتقديم الجديد منها على مدار السنوات والمواسم. لنتذكر مثلًا في السبعينات: مائدة نزهت في جذاب ولا يا هوى، رضا الخياط في تكبر فرحتي، فاضل عواد في حاسبينك واتنه اتنه، حسين نعمة في فرد عود، فؤاد سالم في العب يا شوك، قحطان العطار في بالكيف وننتظركم، هناء مهدي في يكولون باجر تمر، سعدون جابر في حسبالي، رياض أحمد في أنت البادي، ستار جبار في شدات الورد، حميد منصور في اعذرني ولا تزعل ويم داركم، وغيرهم.
تسلّم القره غولي في الثمانينات رئاسة قسم الموسيقى في إذاعة وتلفزيون العراق؛ وبدا ذلك المنصب تتويجًا لخصاله القيادية طوال حياته. أتاح له المنصب الوصول إلى أسماء عربية هامة، فلحن لوردة الجزائرية ووديع الصافي وسميرة سعيد وسوزان عطيه، ورباب ودلال شمالي وسعاد محمد.
قد تكون تلك الفترة هي لحظته الذهبية التي انتظرها، فألّف الرجل في المجالات كلها؛ في الأغاني والأوبريتات وموسيقى المسرحيات والأفلام وتترات المسلسلات. لقد أُتيحت لطالب القره غولي فرصة أحسن استغلالها، خاصة بعد تعيينه مسؤولًا عن إجازة المطربين والملحنين في الإذاعة والتلفزيون لمدة طويلة، ظلّ فيها مشرفًا على الفرق الموسيقية الحكومية في البلاد، وأتيح له تحقيق رؤيته الخاصة في تشذيب الأغنية العراقية وتهذيب ما يُنتج منها شعرًا ولحنًا وأصواتًا.
“هذاك انت ويمر طيفك / واشوف آمالي لو شفته
كبرنا وكبرت الدنيا بهوانه / وكل حلو عرفته
عرفتك جوري لو فوَّح / عرفتك طير من يصدح
ومن حبك غناي انه تعلمته / وهذاك انت”
لقد أظهر طالب قدرة على استيعاب التغيرات في الأعراف الموسيقية بين السبعينات، حيث الأغاني الطويلة ذات المقدمات والتنويع المركب في الإيقاع والمقامات، وبين الثمانينات حيث اختصرت المقدمات ولم يعد المستمع الجديد متفاعلًا مع أغنية تتجاوز مدتها الخمس دقائق، فقدّم أعمالًا عذبة لمحمود أنور مثل: تعودت عيني، أخاف، أتحدى عيونج، ولرضا الخياط شوق الحبايب، ولكريم حسين من أولها، ولسيناء بس لا تزعل، وغيرها، جميعها بحدود ٥ دقائق فحسب.
لكن الوضع زاد تعقيدًا مع دخول موجة المطربين الشباب في تسعينات القرن الماضي وافتتاح تلفزيون الشباب المملوك لعدي صدام حسين، إذ سحب البساط لأول مرة من لجنة الاستماع والإجازة في الإذاعة والتلفزيون، ولم يعد المطربون الجدد بحاجة إلى تشذيب الكلمات وتجويد الألحان لتبدأ بذور انهيار عام في ذائقة الأغنية العراقية بانت ملامحها واضحة بعد نيسان ٢٠٠٣.
في حوار بُثَّ بعد احتلال العراق في فضائية الفيحاء باغتت المذيعةُ القره غولي والمشاهدين بسؤال: “لماذا كنت تُسمى – في الأروقة الفنية – بالديكتاتور؟” جاء الرد هادئًا ومخاتلًا: “واحدة من صفاتي التي أتميّز بها الصراحة. أنا لا أتردّد في القول لفنان ما إنك لا تصلح ملحنًا أو مطربًا في يوم من الأيام.”
تعكس الإجابة جانبًا إشكاليًّا من شخصية الملحن الكبير. لقد كان دكتاتورًا فنيًا تمتّع بصلاحيات واسعة. يُقصي ويُدني بشخطة قلم. شاع في العراق في الثمانينات أن لا أحد يمكنه الغناء إلا بتوقيع من طالب القره غولي. كلام فيه من المبالغة بقدر ما فيه من الصحة، غير أنه كان يتمتع بشجاعة واضحة في تطبيق قرارات لجنته الفنية.
بالفعل، أسهمت لجنة الإجازة التي ترأسّها القره غولي لسنوات في الحفاظ على تقاليد أغنية عراقية رصينة تتحرّى التدقيق والتمحيص في سلامة كلمات الأغاني ومعانيها، وأصالة الألحان وجدّتها، وجودة الأصوات وصفائها. في الأخص عندما تكون ظروف الزمان والمكان مناسبيَن، فالأنظمة العربية – ما بعد الاستقلال – كانت مسيطرة بشكل تام على قنوات التلفزة والإذاعات ومحتكرة منصات الظهور، واتخذت من لجان السماع والإجازة وسيلة وغاية في آن لمن تُبثّ أغانيه لـ “جماهير الأمة العريضة” من سواه.
لكن، إلى أي حدّ أسهم تحكّم ذائقة فرديّة للجنة تضمُّ القره غولي ود. عادل الهاشمي وسرور ماجد وآخرين في الحدّ من التنوّع في الأغنية العراقية؟ في الأخص فترة الثمانينات وحتى مجيء تلفزيون الشباب؟
يروي قاسم السلطان، المطرب العراقيّ، أن أروقة مبنى الإذاعة والتلفزيون ببغداد تُصبح مهجورةً فجأةً إذا ما ظهر طالب القرغولي متمشيًا في الممرات. كما روى فاروق هلال أن التنافس بينه وبين القره غولي دفع الأخير الى منع كل مطرب يعمل مع هلال والتضييق عليه.
لقد تسلّم الرجل بعد عودته من الإمارات منصبًا هامًّا في التلفزيون، وصادف أن دخلَ العراق حربه مع إيران. كان القره غولي أثناء الحرب صاحب سلطة، قريبًا من المسؤولين، في أهم وزارةٍ عراقية بعد وزارة الدفاع. تلقّف الرجل المسؤوليةَ باندفاع كبير وشهية مفتوحة للتلحين. قدّم القرغولي عشرات الأغاني والأناشيد التي حشدت للحرب وتغنت بـ “الانتصارات” ومجدّت “القائد”.
لقد تخلّى العاشق المرهف عن “جفنك جنح فراشة غض” لصالح “حلو نوط الشجاعة يلوك لرجاله”. منحت الحرب الملحن الشهرة والمال والجاه لكنها استنزفته وضيّعت عقدًا ذهبيًا من عمره الفنيّ في أعمال ظرفية، مؤقتة، وإشكالية.
بحسب القره غولي نفسه، كان جنرالًا موسيقيًا يُحارب من المواقع الخلفيّة: “لقد لحّنت أغانٍ تعبوية. إنها أغانٍ تتحدّث عن العراق. كان وطني في حالة حرب. أخوتي وأولاد عمومتي يقاتلون في الجبهات وعليَّ أن أكون عاملًا مساعدًا لهم في الصفوف الخلفية”؛ وكان قد خسر شقيقه كاظم خلال الحرب.
حين سألوه عن أيديولوجية تلك الأغاني وكيف أنها ساعدت الحاكم في إدامة زخم الحرب التي أودت بآلاف العراقيين. قال طالب: “لست سياسيًا. أنا فنّان، وتعليلي وتفسيري فنّيّان. الجانب السيء في السياسة لا أراه ولا أعرف به ولا أوافق عليه. لقد صادف أن يكون للعراق رئيس اسمه صدام في الفترة التي عشت فيها. أنا لم أُعيّنه رئيسًا”، ليضيف في ذكاء: “كانت أغاني حرب حقًا، لكنني لحنتها بحرارة وجودة فنية عالية وانفعال صادق. العراقيون إلى اليوم يتذكرونها ويرددونها ويشتاقون إليها. أليس هذا دليلًا على تميزها؟”
وقد نوّه، من منفاه السويدي، مرّةً، بأغنية ما هوه منّا يا شعبنا التي أدتها المجموعة عام ١٩٧٧ مطالبًا بإعادة الاعتبار للأغاني التي تغنّت بالعراق ولا شيء سواه.
كانت أناشيد إحنا مشينا للحرب ومنصورة يا بغداد ويا محلى طلعة الريّس، ولا والله والعباس وغيرها العشرات، تُبَثُّ على مدار الساعة ولثمانية أعوام من الحرب التي أكلت الأخضر واليابس. هل نتذكر عزرا باوند وتأييده للفاشيين؟ أم نستعيد أسطوانات هايدجر والنازية؟ بالقدر الذي تبدو فيه إجابات القره غولي واقعية، إلّا أنها تبسيطية تُزيح الإرادة الفردية إزاء حاكميّة الحدث الجمعيّ.
لم يُقرر طالب الحرب فعلًا، لكنه قرَّرَ أن يتغنّى بها. لا تريد هذه المقالة عقد محاكمة متأخرة؛ فقد ترك العراقيون هذه المعادلة الشائكة للزمن. قرر بعضهم أن يتذكر حاسبينك وينسى نحبك يا صدّام ليغفر للملحن، ولا يزال بعضهم حتى اليوم غير متسامح مع الملحن الذي هجر أغاني الحب والعذاب و”هوّس” للجماجم المعطوبة وخنادق الدم وقوافل الشباب المأخوذين إلى موتهم رغم أنوفهم.
العراقيّ نسّاء، وطالب المرهف، المنكسر عذوبة في ألحانه العاطفية الملوَّعة، أعمق وأطول عمرًا من أغاني البارود. إن الألحان الخالدة التي أبدعها، ورفعها جمهوره لمقام المعلقات في الشعر، وجهوده التي تكاد تنطق بها جدران الإذاعة والتلفزيون، ستقيم له تمثالًا أبديًا في تاريخ الفن العراقي ينطق به كل عاشق وعاشقة، ومؤسفٌ رغم كل شيء ألا يكون لطالب القره غولي تمثال في وطنه.
بعد احتلال العراق ٢٠٠٣ خرج القره غولي إلى سوريا، لكنه لم يستطع الانسجام مع البيئة الفنية الجديدة. لقد تغيّر الحال، واختفى رفاقه المتحلقون به كل حين. “طشّر” الزمن مطربي جيله الذين باتوا يغنون في المطاعم والكازينوهات وسط أعمدة دخان الأرگيلة، وظهرت على المسرح وجوه جديدة. كما إن الذوق اختلف. بات المطربون يغنون لـ العگربة والبرتقالة ولـ صديقي باك محفظتي. هاجم القره غولي الموجة الجديدة بعنف، ووصفها بالسخف والتفاهة وتنبأ بنهايتها الحتمية. لكنه ظل وحيدًا، غريبًا.
أدرك القره غولي أن وقته انتهى. “يجب أنّ أعرف أن لي وقت. والوقت الآخر هو لغيري. أنا لي وقت محدد. بعده، أظل أساهم ولكنها مساهمة في وقت غيري. وليس كل فنان يدرك هذا الشيء.”
يضيف في بوح مرّ: “الآن عندما انحسر وقتي، جاء وقت غيري. هذا الانحسار لم يربكني. هنا تبدأ الإغراءات. الإنسان يتمسك بتلابيت الشهرة والنجاح ويريد البقاء على نفس المستوى السابق وهذا ما يجعله يخسر كل المبادئ التي آمن بها. تسقط مبادئه لأنه جاء في وقت ليس وقته. فيصطدم بواقع جديد وعلاقات فنية جديدة.”
أودت هذه التبدلات بعرش القره غولي الفنيّ وسلطته، لكنها لم تربكه فعلًا، ولم تجعله يقدم تنازلات على حساب نفسه. لقد ظلّ وفيًا لما قاله. لم يتنازل ولم يتزلف لأحد، ولم يخرج في حوارات يفتعل الأزمات ويغازل دولًا طمعًا أو “يناشد” سوء حالته الصحية أو المادية. كان صلبًا، متماسكًا راضيًا بمآله.
كما جاء من حرّ الناصرية أوائل السبعينات فإنه ذهب إلى صقيع كيرونا السويد مغتربًا بضع سنين، يكابد وحشة الغربة وثقل مضاعفات السكريّ والجلطة. بُترت الساق الساعية إلى المجد، وتورّمت الأصابع التي خلقت أعذب الألحان وأخلدها. حاولت بعض الجهات غير الرسمية تكريمه، وتنبّهت متأخرة كعادتها وزارة الثقافة فاستضافته في فعاليات بغداد عاصمة الثقافة العربية ٢٠١٣، لكن “مو حيل أول”، كما قالها القره غولي بصوته بعد إكماله بصعوبة بالغة مقطعَين من أغنيته جذّاب، في حفل تكريم أقيم بنقابة الفنانين في الناصرية. حيث كانت البداية والنهاية.
انفضّ من حوله الصخب، وتوارى ما يُمسك من الحياة كما يتوارى خيطُ لحن قديم. بقيت الموسيقى تسري على مهلٍ في ذاكرة البلاد، وصدى الحصاتينِ اللتينِ رافَق إيقاعُهما أخرَ انتباهة على سُلّم الحياة.
“ثاري على ساعة
وترجع تبايعني (تبيعني)
محيّرني
ساعات، الصبح، شو جنَّك تودعني؟
وساعات، بغياب الشمس، ملهوف ومضيعني.”