.
عندما تصل الأمور إلى هذه الدرجة من السوء الفني والنجاح التجاري، لا يكفي تبيان مواضع السوء في الأغنية، بل علينا أن نستقرئ بعضًا من الأسباب التي سمحت بنجاح عمل كهذا. ما سبب نجاح أغنية بهذا السوء إذًا، هو سؤال كبير وإجابته معقدة، لكننا مستعدون لنراهن أن جزءًا كبيرًا من هذا النجاح سببه أن السوق المسمى بسوق الشباب، أصبح فيه صناع الأفكار والنزعات هم وكالات التسويق وشركات الاتصالات بدلًا من الموسيقيين الفنانين والكتاب والمفكرين، لننتهي بما يمكن تسميته أغاني الوكالات.
هكذا أحمد مكي في أغلى من الياقوت، مثله مثل زاب ثروت وحمزة نمرة، ينتجون أغاني وكالات جمالياتها جماليات إعلانات، ومحتواها محتوى إعلانات. مثل الإعلانات لها رسالة واحدة مبسطة، وطريقة صنعها أيضًا هي طريقة صنع الإعلانات. تثبط هذه الأغاني من ذكاء المستمع وتخدر أحاسيسه، بينما تقول له شيئًا واحدًا باستمرار: هذه ليست موسيقى هابطة، هذه ليست مهرجانات، وأنت لست هؤلاء العيال الوسخين. أنت متحضر وراقي، لأنك تسمع غير تلك الموسيقى غير المتعلمة أو غير الأخلاقية أو الهابطة، بينما الهبوط كل الهبوط فيما هم يسمعونه. هي أغاني تُطمئن المحافظ المتشدد وتشد على يده في رفضه للتعامل مع كل ما هو جديد، كل ما يبعث على التفكير ويجيش المشاعر. هي أغاني تشد على يد كاره نفسه وكاره طبقته وكاره لغته وشعبه، لتقول له: فعلًا، أنت لست منهم. لا، أنت تلك الصورة المنمقة للمواطن الصالح، الذي ذهب بلا عودة. هو مثل راعي البقر الذي رأيناه في إعلانات مالبورو حتى صدقنا وجوده. كذلك هو السمج المهذب الممل الذي يتقمصه مكي، الذي لم يكن يومًا موجودًا.
قد تصبح أغاني الوكالات هذه الوريث الأشد خطرًا من البوب المتحجر منذ عشرين عامًا، وقد تستمر لوقت أطول. هي تأخذ أسوء ما نمر به كأمة متأزمة، وتستخدمه لتكريس هذا الحال والاستفادة منه. لحسن الحظ، هناك اليوم مقاومة أكثر من أي وقت سابق. هناك موسيقى لا تهرب من واقعنا بل تخرج من صلبه، هناك المهرجانات والراب والموسيقات الشعبية، التي تمثل في مواجهاتها مع أغاني الوكالات، مواجهاتنا الهوياتية للوصول لنقطة بداية حقيقية.