.
في مقابلته مع معازف أثناء مؤتمر الموسيقى العربية في الشارقة، تحدث محمد الصقلي أحد مؤسسي نار (منصة إنتاج مغربية أسسها محمد الصقلي برفقة صديقه إلياس غريب) عن ألبوم سفر: “ما نريده هو أن يحقق الألبوم نجاحًا تجاريًا، وليس مجرد اعتراف وتنويه. نريد أن نبيع أسطوانات ونقارع الفنانين العالميين الكبار.” وضع الصقلي ورفيقه إلياس غريب سقفًا عاليًا لانتظاراتهم من ألبوم سفر، الأول لنار. حدس الثنائي أن اللحظة باتت مناسبة لإطلاق التراب المغربي عالميًا بعد جرعة نجاح قوية آخر سنتين. تزامن ذلك مع ذروة النشاط التي يشهدها التراب في المغرب من خلال تكثيف التعاونات وتشابك الأساليب.
احتوت الأغاني على تعاونات بين تسعة فنانين من المغرب (ثمانية رابرز وموسيقي إلكتروني) وأربعة عشر رابر من العالم أغلبهم من أوروبا. يمكن اعتبار الألبوم برمته نموذجًا قويًا عن موجة الكروس أوفر Cross-over بين مشهد التراب المغربي والأوروبي، مع مزيجٍ من التراي (ظهر المصطلح منذ فترة وبات شائعًا في أغاني بعض الرابرز مثل عصام في ما كاينش الزهر والجراندي طوطو في حلمة آدو. يقدم التراي مزيجًا مصقولًا بين الراي الجزائري والتراب) الذي بدأ بفرض جمالياته منذ سنة مستندًا إلى وجوه صاعدة مثل عصام.
جمعت آي كانت وايت، أولى عينات الألبوم، بين شوبي من ثنائي شايفين والرابر الأمريكي أمير أوبي. تطالعنا عينة صوتية شرقية مألوفة في بداية الأغنية، يقطعها صوت الثنائي في حماسة بالغة: آي كانت وايت. تتردد اللازمة كصرخة انعتاق للتخلص من ضجر طول الانتظار. الأغنية مناسبة لإعلان شارة انطلاق الألبوم. تتعزز ذات الإشارة عند المرور إلى الأغنية التالية، اكسيري، التي تشير في العامية المغربية إلى الإسراع. رفع سمول إكس من أسلوبه مقارنة بدوسيه، وحول الأغنية إلى سباق سرعة يستنهض فيها الفرنسي ويحثه على المجاراة، مستعينًا بالمجاز الوارد في العنوان الذي يدل على الإسراع في القيادة. بين مجازات السرعة والمسافات، نستدل رمزيًا على موقع التراب المغربي المتقدم والجاهز لمنافسة الأوروبي. في اكسيري ظهر أن الراب الفرنسي هو الذي استفاد من نظيره المغربي المفعم بالحيوية والتجديدات الأسلوبية التي رأيناها مع سمول إكس، أحد ثنائي شايفين. سبق ذلك الأثر الكبير للعديد من الرابرز من المنطقة على الراب الفرنسي، مثل سولكينج والجراندي طوطو وريمكا. استقدم أغلبهم جماليات الراي ودفع الأوتوتيون خارج استعماله المألوف.
ينخفض الزخم في التراك الثالث، سييل (سماء بالفرنسية)، ويختلف المجاز. احتوت الأغنية على صوت سماوي آتٍ من الأعالي، تضاعف أثره مع عينات صوتية ناعمة في الخلفية كثيرة الرواج في الدريم بوب، في محاكاة صوتيةٍ جذابة لمجاز الأغنية وعنوانها. جرّ شوبي لومبال إلى أسلوبه، إذ رأينا استنساخًا أسلوبيًا يصل إلى حد الإرباك أحيانًا. اعتمد الفرنسي على التركيز على حرف السين – إحدى أكثر الحروف جلبًا للانتباه السمعي – ما أضاف ترددًا همسيًا في الأغنية. يستعين الثنائي بنبرة استبطانية حالمة للحديث عن مسيرتهما: “لو أن السماء هي مرشدنا الوحيد / فلم نظل ننظر لتحت؟”
كانت سييل استراحة قصيرة قبل أن يرتفع الزخم مع كازابلانكا. شكلت الأغنية انعطافة مهمة في الألبوم مع ضخ إيقاعات صاخبة ومرقصة. انضم الرابر الكندي جاز كارتييه إلى عصام في هذه الأغنية، الذي أظهر قدرة فريدة على تقطيع النص محولًا العامية المغربية البيضاوية (نسبة إلى كازابلانكا، أي الدار البيضاء في المغرب) إلى علبة استعمالات أسلوبية، يقتطع منها رصيده من الأدليبات ليمزجها بدقة بالغة بين مخارج الألفاظ. تحمل كازابلانكا رمزية مضاعفة، فهي المدينة التي نشأ فيها عصام ومحمد الصقلي وماد ومالكا وأغلب وجوه التشكيلة الحاضرة في الألبوم، وتحولت إلى مركز احتفاء الجميع. في الأغنية التالية ٧٧٧، يستلم ماد الدفة إلى جانب الرابر الإيطالي دراجفولد. صرنا نتعود أكثر فأكثر على صوت التراب القادم من إيطاليا مع جيل جديد صاعد يتصدره التونسي-الإيطالي غالي. سبق لماد التعامل مع رابرز أوروبيين مثل لايلوي الذي ظهر معه في فيزا وموني كول، الحاضرة في الألبوم، والتي كانت باكورة إنتاجات منصة نار منذ سنة، مع فيديو أخرجه إلياس غريب، وكانت بمثابة الواجهة التي صدّرت من خلالها نار مشروعها الواعد. جمعت الأغنية شوبي من شايفين وأخيه الأصغر ماد بالإضافة إلى الرابر الفرنسي لايلوي. تلخص موني كول الحلم النموذجي لشباب الضفة الجنوبية للمتوسط بالسفر إلى أوروبا والبحث عن فرص نجاح وانتشار هناك. تتعزز تلك الإشارات من خلال الفيديو الذي نرى فيه هوائيات على السطح موجهة نحو أوروبا، وكأنها بوصلة الحلم.
تنبئنا الأغنية الموالية، لا سيلها، بمزاج مختلف عن بداية الألبوم. ينضم كوبا لا دي إلى طاني، المغربي من أصل كاميروني الذي كان برفقة ماد في مجموعة كزاكتو قبل أن ينفصل في منتصف ٢٠١٧ ويبدأ مسيرة منفردة. يتشارك طاني وكوبا سمة مميزة من خلال صوت معدني مسرف بالأوتوتيون فوق إيقاعات تراب غليظة. يعود ماد للظهور مرة أخرى في بيضا بجانب الرابر الإسباني كايدي كاين، مع حضور مميز للموسيقي الإلكتروني مالكا. تحضر إيقاعات الأفرو-بيت لأول مرة في الألبوم، مع عُرب مميزة تظهر بين الفينة والأخرى، وعينات إلكترونية نحدس حضور مالكا وراءها. تتداخل أصوات الثلاثي بشكل جذاب في اللازمة الرئيسية. الأغنية مزيج مكثف ومحكم يحضر فيه زخم الإيقاعات الإفريقية والسنثات المميزة لمالكا، مع بنية صوتية مركبة تظهر من خلالها شخصية مالكا التي ألفناها في أعمال سابقة مثل كازابلانكا جنغل.
لا تتوقف مفاجآت الألبوم على زخم التعاونات والتقلبات المزاجية الصوتية، إذ نتفاجأ إثر بيضا بتسجيل صوتي لمجموعة من الحراقة (الحراق من الحرقة، التي تعني الهجرة السرية) المغاربة الشبان، تمهيدًا لأغنية بابور لشايفين وهورني لافراب (رابر فرنسي من أصل جزائري) التي تناولت نفس الموضوع بشكلٍ مباشر. الأغنية حوارية بين ضفتين، الأولى مركز انطلاق الحرقة، تتردد سردياتها الحزينة مع ثنائي شايفين، الأقرب إلى لغة الشارع وهموم الشباب المغربي الحالم بالهجرة. أما الضفة الثانية فهي نقطة استقبال يمثلها لافراب الذي يتكلم عن المشاكل التي تعترض الحراقة المغاربة عند وصولهم إلى أوروبا. تظهر تلوعات شوبي في الأغنية وحديثه عن حلم يائس يراود الشباب بالهجرة وآلام عائلاتهم، فيما يصبغ سمول إكس أداءه بنبرة حزينة مرتعشة.
تتوسع دائرة التعاونات في الألبوم أكثر فأكثر. في مولا، نرى فلاق مع كريم كالوكو من مجموعة أثكيدز اليونانية، أحد أبرز وجوه الراب في اليونان الذي اختار منهج الغناء بالإنجليزية لتعثَّر محاولاته الأولى في الراب باليوناني، ولتأثره الكبير بالمدرسة الأمريكية وخاصة كانييه وِست ودرايك. لم نرَ خصوصية يونانية مع كريم الذي نسخ أساليب أميركية في طريقة الأداء، وسايره فلاق في بعض المقاطع. سرعان ما ننسى خيبة مولا مع الأغنية التالية سيتي، التي جمعت بين الفرنسي نليك وماد الذي استأثر بأكثر حصص المشاركات في سفر. يؤدي نيلك على نسق واحد تقريبًا، خلافًا لماد الذي ينتقل بين مستويات مختلفة، بين الراب والغناء، معددًا من سرعات تدفقه. يظهر الرابر المغربي ممتلئًا بالحيوية ومطوعًا خامته لخدمة أكثر من شخصية صوتية. نكاد نلمح نفس المقاربة التي لمسناها في اكسيري، بين أسلوب سمول إكس المتوهج من جهة، ودوسيه المنضبط لكلاسيكياته الأدائية. يظهر وكأن الرابرز المغاربة قد استغلوا فرصة التعاونات داخل سفر للكشف عن أساليبهم ومقارعة المشهد الأوروبي.
يلتحق إنكونو بتشكيلة سفر بصحبة الرابر الفرنسي جوكار في ماردي آ كازابلانكا (ثلاثاء في كازابلانكا)، التي نرى فيها احتفاءً جديدًا بالمدينة الأيقونية. يؤكد إنكونو على تفوق التراب المغربي مع تلوينات فريدة في أدائه، إذ يصعّد نسقه ويخفضه تدريجيًا ليخلق لحظة طرب أوتوتيونية جذابة. فيما تبدأ مفاجآت وحيوية الألبوم بالنضوب في حشيش الموالية وباد بيتش، اللتان لا تتجاوزان جمعما لأسماءٍ مثل داموست وطاني.
مع كافيار لعصام، يبلغ سفر الألبوم وجهته. يمكن القول بأن محمد الصقلي ورفيقه قد أحكما الاختيار. كافيار هي حبة الكرز التي نضعها فوق الكعكة، أسوة بالمثل الفرنسي، وهي الأغنية الوحيدة الفردية في الألبوم. يمسك عصام بتوليفة فريدة لصوت التراي. يروي حكاية عشقه للراب متنقلًا بين الشاب مامي وحسني، أحد أكثر الفنانين الذين أثروا فيه. كما يحفر في دواخله الدفينة ليكشف عن شعور مرير بالغربة يواجهه في بلده: “وأنا غريب في بلادي براني”. استعان الرابر بعينات صوتية من أغنية ما بقات محبة لحسني، ليضيف مسحة حنينية لصوت الراي التسعيني الذي كسّر الدنيا في تلك الفترة، ويرصف بجانبها أسطرًا بنفس الشجن: “كازا كازا باي نايت / سكران في طريق جاي سايغ”.
يمكننا المراهنة على أن ألبوم سفر سيجعل من نار القنطرة الفعلية لإطلاق التراب المغربي، الذي نراه اليوم بصدد خلق مشهد مختلف يضم عصام وماد وشايفين والبقية، مع ألق واعد يذكرنا بتوهج السبعينات مع ناس الغيوان المغربي وأمجاد الراي التسعيني. لنا أن نحصي عددًا لا بأس به من الأعمال الفنية التي حملت نفس اسم سفر، سواء في الموسيقى أو سواها، لكن هذا الألبوم يبعد نفسه عن رومانسية التسمية أو اعتباطيتها. علّها إشارة من الصقلي وشريكه إلى الصعوبات التي اعترضت الرابرز وخاصة عصام في مسألة الحصول على التأشيرة للسفر خارج المغرب، أو إفادة بأن التراب المغربي جاهز لأن يسافر بعيدًا لوحده.