.
مع بداية الألفية زاد الاحتكاك بالغرب وزاد معه تطوّر معدّات التسجيل وأساليب توليد ومعالجة الأصوات والإيقاعات. أحسن البعض استغلال هذا التطور في دعم شعبية موسيقاهم، كالأغنية الشعبية السورية وتجربة طلال الداعور فيها منتصف التسعينات (مقال دفاعًا عن الأورغ لحسان علي). إلا أن هذه التجربة لم تكتمل وانقسم روادها، إذ بقي بعضهم يكرر نفسه مثل علي الديك، بينما انضم آخرون إلى البوب العربي مثل سارية السواس. هناك أيضًا من وقف بين بين، وحاول المزج بين الأغنية الشعبية السورية والرومانسية اللبنانية، كتجربة حسين الديك وطلال الداعور نفسه في بعض الأغنيات، تجربة لا هي أضافت لأحد النمطين الممزوجين ولا خلقت صوتًا جديدًا.
في لبنان، بقيت أغنيات الدبكة نمطًا رائجًا، وبقي الموزعون عين على الجديد وعين على القديم، معتمدين على تطبيق الأصوات الإلكترونية الجديدة على موسيقى الدبكة بما فيها من طبول وزمور. كانت مشكلة التوجه التوزيعي بأن ساده التكثيف الصوتي على اعتبار أن الأصوات القوية والحادة أساس في الأغنية الإيقاعية، لكنهم أرادوها بحلّة جديدة في نفس الوقت. نتج عن ذلك خط موسيقي تُركّب الأصوات فيه على بعضها دون محاولة الإفادة من تمايزها، وبحيث تغلب عليها الإلكترونية، ما أدى إلى الملل أحيانًا، وتشابه الأغنيات بسبب تشابه الإيقاعات والمقامات وتكرارها من جهة، والتقاطعات المستمرة بين الأصوات المستخدمة من جهة أخرى.
https://youtu.be/gEpCH8j9AsQ
لكن يبدو أن الأغنية العراقية الإيقاعية الجديدة، والتي بالمناسبة أغنى وأحلى من الرومانسية، قد خلت من أغلب المشكلات السابقة حتى الآن. يُمكن تتبع سمات هذه الأغنية في تراث الأغنية العراقية، لنجدها غالبًا في الأغنيات المعتمدة على الفنون الشعبية، كما في يمة انباك رجلي لقارئة المقام فريدة، المبنية على قالب المربع البغدادي، أحد أبرز الفنون الشعبية العراقية، المميز بمداه الصوتي المحدود وبساطة ومرح كلماته، والذي يُعزف عادةً على الخشبة والطبلة والدف، ولا يحتاج لملحن. هناك أيضًا الأغنيات التي دخل عليها فن الخشابة مثل العمة والجنة لـ إبراهيم العكرب، لجعلها أقل جدية وأكثر تسلية. يشمل فن الخشابة الغناء والرقص ولا يُنوّط، ويقود الفرقة فيه الكاسور أو عازف الكاسورة الذي يعزف فقط في الفواصل الموسيقية. كذلك نجد التوليفة التي يتسيّد فيها الإيقاع مع لحن بسيط في الجوبي الجوبي (الدبكة بلهجة بلاد الشام) موسيقى ورقصة دبكة عراقية الأصل.، مثل جوبي الحلوة لكاظم الساهر، وفي الهجع كما في أغنية البرتقالة (٢٠٠٤).
لم يُغذَّ هذا الجانب من المخزون العراقي، سواء كان السبب تجاهل المجتمع أو المسؤولين عن حفظ الفنون الشعبية، أو حتى ابتعاد المطربين أنفسهم عن تقديم هذا النوع من الأغنيات. انحسر المربع البغدادي القادم من البصرة إلى حارات بغداد الشعبية، كما تراجع فن الخشابة وقل عدد رواده، ولم يؤخذ جوبي عمر سليمان بعين الاعتبار على عكس جوبي كاظم الساهر، بعد أن ثبّت صورته كملحّن كلاسيكي مبتعدًا عن أغنيات مثل عبرت الشط في بداياته. اعتُبِرت البرتقالة نكسة خصوصًا أن صاحبها علاء سعد كان أحد مطربي الأغنية الكلاسيكية وعمل مع أبرز ملحنيها كريم هميم. أفسحت هذه الفنون الطريق للأغنية الأكثر تعقيدًا بأطوارها المختلفة، بدايةً من المقام العراقي، مرورًا بما بناه صالح وداوود الكويتي على البستات الأغنية القصيرة الملحقة بوصلة المقام العراقي.، إلى تأثيرات الأبوذيات الريفية والألحان العربية، سواء خليجية أو مصرية أو لبنانية عليها، مع التركيز على الجانب اللحني.
بدأ التركيز على الجانب الإيقاعي العراقي من جديد بين عامي ٢٠١٠ و٢٠١١. أصدر محمد سالم أغنيات: بلا بلا وحباب وقلب قلب، محققًا بها نجاحًا لافتًا. أغنيات لا تعقيد لحني فيها ولا تتطلب صوتًا ممتدًا، جمعت بين الإيقاع العراقي والتوزيع الإلكتروني، واستخدمت عامية من معجم الحياة اليومية.
عام ٢٠١٥ ظهرت أغنية جيناك بهاية لنور الزين وغزوان الفهد لتتجاوز الـ ١٠٠ مليون مشاهدة على يوتيوب، وتزامنت مع ضربة المعلم لـ سعد لمجرد (قبل المعلم بأيام). كانت أغنية تقدم لأول مرة الهوسة في البوب العربي. الهوسة فن شعري، هدفه إشعال الحماس، وموضوعه غالبًا المديح أو التحفيز على النصر، يتضمن إلقاء المهوال مبالغة اسم الفاعل من هَوَّلَ، وهو لقب مغني الهوسة بسبب مواضيعها المتضمنة لتهويل بقصد إشعال الحماس. ثلاث أو أربع أبيات شعرية تليها أبيات على إيقاع مختلف يشارك فيه الناس بالإلقاء والرقص، واضعين أيديهم على رؤوسهم بينما يدقون بأرجلهم الأرض مع الإيقاع. هذا الفن من معطيات العراضة، بحسب بحث للشاعر والناقد والباحث حامد كعيد الجبوري، والتي تتضمن أسلحة وإطلاق نار ضمن مراسيمها.
في فيديوهات الهوسات أو العراضات على يوتيوب لا نسمع آلات، سوى اللهم صوت إطلاق الرصاص، أو رقص الرجال ودقهم الأرض بأرجلهم وترديدهم وراء المهوال أثناء ذلك. أما في جيناك بهاية فقد أُدخلت آلات إلكترونية وعراقية محلية، سمعنا فيها تفنن في توزيع الأدوار بين الصمت والموسيقى، كما أن تركيبها الكلامي الذي يجمع بين الهوسة والهتاف مختلف عما نسمعه عادةً، تسحبك الجملة إلى الأخرى مسرورًا بهذا التدفق عبر متاهة، حيث الكلمات عراقية قُحّة وفيها الكثير من الأقوال التي لها دلالة لا يفهمها غير أهل اللهجة مثل: أهلك وفاية (أصحاب وفاء)، وهما الحجاية (هم أصحاب الحديث والكلام اللبق).
لا تقتصر الأغنية العراقية الجديدة على تقديم فنون شعبية لم تُقدم سابقًا في البوب العربي، بل امتد تأثير هذه الفنون إلى التوزيعات في الأغنيات الإيقاعية العادية، أي غير المعتمدة في قالبها على فن شعبي معين؛ إذ بدأت تستعين بعناصر وسمات من الفنون الشعبية المذكورة سابقًا، حتى أنها ضمت أصواتًا مستوحاة من قوة اللطم وحدته في اللطميات (تجدر الإشارة هنا إلى أن الكثير من اللطميات تحولت إلى أغنيات كاملة والعكس في السنوات الأخيرة).
أحد أهم الأمثلة على ذلك أغنية تعال لـ علي جاسم ومحمود التركي ومصطفى العبد الله التي برزت فيها الكاسورة، كذلك التوزيع المميز في أغنية شكول شكول التي لحنها وغناها نور الزين حزيران الفائت، ووزعها نور هاشم. سمعنا في شكول شكول الكاسورة والأصوات البشرية المرددة (توبة عند الثانية ٦، أبد عند الدقيقة ٢:١٤) وراء المطرب، الموجودين في أغلب الفنون الشعبية، كما سمعنا التصفيق كحلية توزيعية، الذي كان في المربع البغدادي مثلًا ضرورة لملء اللوازم الموسيقية. كذلك سمعنا أصوات دق الأرجل بالأرض أو اللطم (الدقيقة ١:٤٢)، ناهيك عن شكل المزج بين هذه العناصر، واللعب بتوزيع الأدوار بينها، كما بين الصمت والصوت الآلاتي أو الغنائي، ما خلق الحماس على طول الأغنية.
تعترض الأغنية الإيقاعية العراقية، كغيرها من الأغنيات الإيقاعية العربية، مشكلة التقدير الاجتماعي. حتى إن لاقت العراقية حظ الإيقاعية اللبنانية، واجهتها مشكلات أخرى، منها مقارنتها بالأغنية الغربية أو العربية غنية الألحان، حيث نجد كريم هميم، أحد ملحني الأغنية العراقية الكلاسيكيين، يقول: “الموسيقى تتكون من شيئين، زمن اللي هو إيقاع، واللحن اللي هو الميلودي. كلما تتقدم الشعوب وتتثقف وتتطور، ينزل إيقاعها ويعلى الميلودي. كلما تتصحّر الشعوب ثقافيًا، يصعد الإيقاع ويموت الميلودي.” لكن الأغنية تتألف من الشقين معًا، فإذا كان القصد هو البنية المعقدة هل تكون الأغنية الشعبية البسيطة بطبيعتها لحنًا وإيقاعًا أقل قيمة من غيرها لمجرد هذا السبب؟ بالأحرى هل تجدر المقارنة أساسًا؟ بشكلٍ واعٍ أو لا واعٍ تأثر الكثيرون بتلك المقارنات، حيث تبدو أغانٍ مثل غيرك ما بختار لـ حسين الديك استجابةً للمقارنة بالعربية الكلاسيكية، بينما تبدو أغنيات الدبكة اللبنانية الحالية استجابةً للمقارنة بالغربية.
تتصدر الآلات والإیقاعات العراقیة الواجهة في أغنیتهم حتى الآن، ويبدو من أغلب تجاربهم الناجحة أن صناعها على عكس السائد، یلتفتون إلى المخزون ویجرون الجدید لتعزیزه وإظهار جمالیاته، غیر متنازلین عن شوارعّیته وحّدته، الثیمة الأساسیة فیه؛ لكن يبدو من تجارب أخرى أنهم معتمدين في مسيرتهم على حس فني غير موجّه، أو أن ما أنتجوه كان أهم مما خُطّط له. تشعرنا أغنيات مثل الله وياه لـ محمد السالم ونور الزين التي تشبه مهرجان عراقي غير ناضج، أو خايف من عندي لـ نور الزين وسيف نبيل وضياء الميالي التي تشبه المعلم لـ سعد المجرّد دون النجاح بتحقيق صوت مُنافس، أن الأغنية العراقية على مفترق طرق. لنأمل خيرًا بخامات البعض القادرين على تطوير هذه الأغنية في المراحل اللاحقة إلى حد لا تُرى أفقه بعد.