.
حيّر سؤال “ما الموسيقى؟” أكابر المفكرين من مختلف الثقافات وعبر العصور. يمكن القول إن الموسيقى هي الفن المحيِّر؛ فلم يتعرض أي فن سوى الموسيقى إلى سؤال “ما …؟” إلى تلك الدرجة، والتي نجدها كذلك بصدد مفاهيم أخرى مركزية كمفهوم الزمان. بطبيعة الحال قد يتوصل المفكر أو الناقد إلى إجابة، لكنها لا تكون في أغلب الأحيان نهائيةً، أو مُرضيةً، كما سنرى. قد تفتح الإجابة نفسها الباب لأسئلة أخرى على نحو إشكالي. حين نذكر الزمان مثالًا، والذي كان القديس أوغسطين يقول عنه: “حين لا تسألني عنه فأنا أعرفه، أما حين أفكر فيه فإن الإجابة تتلاشَى من ذهني”، فهذا المثال ليس بصُدفةٍ أو اعتباطٍ. علاقة الموسيقى بالزمان قارّة ومعروفة في الفكر القديم، والوسيط والحديث، والمعاصر.
قال الناقد النمسوي المعروف إدوارد هانسلك عن الموسيقى (+١٩٠٤) إنها صوَر ذهنية متحركة في الزمان، ورأى الفيلسوف الألماني آرتور شوبنهور أنها تعبير مباشر عن الإرادة، التي هي أُس الحياة نفسها؛ فقد يفقد الكائن جزءًا من جسده، وقد يفقد عقله، لكن تبقى الإرادة فيه حتى لو كان مشلولًا بالكامل. رأى شوبنهور أنها تعبير عن الحرية، والتخلص التام من السببية الطبيعية؛ لأن الموسيقى تحدث في زمان بلا مكان، فيما رأى فيلسوف العرب أبو يوسف يعقوب بن إسحق الكندي أنها وسيط للتأليف بين النفس من جهة، وبين عناصر المادة والوجود من جهة أخرى. كما وجد الهندوس أنها صوت الآلهة، وتجلِّي المطلَق في العالم، فيما وجد إخوان الصفا أنها الكائن الوحيد في الطبيعة، الذي لا يتكون إلا من جواهر روحية صرفة، هي نفوس المستمعين، وتأثيراتها فيها. أما أرسطوكْسينوس، الموسيقار والفيلسوف الإيطالي، وتلميذ أرسطو، فرأى أنها حركة لا تحدث في مكان، وبالتالي لا تنطبق عليها قوانين الطبيعة المعروفة في زمنه.
ما السبب في غموض تلك الظاهرة؟ إن الموسيقى قائمة بالفعل في المجال الفيزيائي، هي الأصوات التي نسمعها، والتي هي عبارة عن تضاغطات وتخلخلات الهواء التي تؤثر على حواسّنا، لكن مجرد تلك الموجات الميكانيكية ليس ما نفهمه من كلمة موسيقى. ليس اللحن مجرد تضاغطات وتخلخلات، إنه نظام معين لهذه الموجات، وليس الإيقاع مجرد نظام للحركة؛ إن أعم تعريفاته أنه “شيء ما” يحدث على مسافات زمنية متساوية، أو شبه متساوية. أيضًا، ليس العمل الموسيقي مجرد موجات، وليس مجرد ألحان وإيقاعات، بل هو خطة مسبقة معينة نتتبعها ونحن نباشر السماع، وحين تختل ممارسة تلك الخطة فإن الخطة نفسها تتغير، كما جدد بيتهوفن في صيغة الصوناتا في أواخر أعماله كالحركة الأولى من تاسعته، التي هي صوناتا مقلوبة، مثلًا. بالتالي، ليست الصيغة الموسيقية هي الموسيقى، بل إن تلك العناصر، من اللحن والإيقاع والصيغة، ليس من مقومات الموسيقى الضرورية أصلًا، فقد قدم ديمتري شوستاكوفيتش في سيمفونياته وكونشرتواته موسيقى غير لحنية، وقدم آرام خاتشاتوريان موسيقى لا إيقاعية، وقدم كل الموسيقيين الكلاسيكيين أحيانًا حركاتٍ متحررةً من الصيغة عمومًا. بل إن الصوت نفسه، تلك التضاغطات والتخلخلات، ليس من مقومات الموسيقى، كما نجد في أعمال الموسيقى الصامتة لجون كيدج؛ وهي حقيقة قد تبدو غريبة للقارئ، لكنها حقيقة.
إذًا ما الذي يجعل الموسيقى موسيقى؟ ربما كان الأجدر بنا هنا أن نتساءل: ما الذي يجعلنا عاجزين عن فهم ماهيتها؟ لو عرفنا السبب، واستطعنا تجاوزه، فلربما أمكن لنا الوقوف على إجابة.
حين نسأل “ما ماهية الموسيقى؟” أو “ما طبيعتها؟” فهو سؤال يطلَق عليه في فلسفة الموسيقى: السؤال الأنطولوجي حول الموسيقى. أعتقد أن السبب في عدم قدرة الفلسفة على حل هذا السؤال هو نموذج النقاش السائد نفسه. إن هذا النموذج، رغم التعريفات الواسعة التي ينتهي إليها، وفي محاولة من متبنيه لاستيعاب كل التجديدات والتيارات، بات أضيق من الموسيقى، ومن فلسفة الموسيقى. ربما كي نفهم ماهية الموسيقى علينا أن نحاول أن نسمعها كما يسمعها الفلاسفة أصحاب الرؤى الأساسية المؤثرة في التاريخ في مجال فلسفة الموسيقى.
سنحاول أن نستمع إلى بيتهوفن، الذي يؤمن كاتب هذه السطور إيمانًا عميقًا أنه أكثر الموسيقيين عبقرية على مر تاريخ الموسيقى المعروف. سنحاول أن نضع أنفسنا مكان فيثاغورس، وأفلاطون، وأفلوطين، والكندي، وهيجل، وشوبنهور، ونيتشه، وهيدجر، وماركس، وأن نستمع بآذانهم إلى أشهر أعمال الموسيقى. هي مغامرة، لكنها تستحق أن نخوضها.
إن أي ظاهرة للوعي، طبقًا للبداهة العقلية، تتمثل لنا في نطاق أعمِّ خواصِّ محيطِ الإدراك، وإن إدراكنا بما نحن بشَر محدودٌ بحدود الزمان والمكان، اللذين هما بُعدا وجودنا الفيزيقي. مع ذلك، إذا قلنا بحصر حدود الإدراك في خواص الزمان والمكان، فإننا نتجاهل بذلك بعدًا ثالثًا للإدراك، هو التجريد؛ تجريد الظاهرة من وجودها الفيزيقي، بهدف إدراك خصائصها الأساسية المميِّزة لها. بالعكس كذلك، أي كائن يتمتع بثلاثة أبعاد: كونه كيانًا خارجًا عنّا أولًا، وكونه في علاقة مع المكان، وكونه في علاقة مع الزمان. لذلك في الفقرات القادمة سنقوم بقسمة قاعات الاستماع الفلسفية إلى ثلاثة: المكان، والزمان، والكيان.
تعني الموسيقى كمكان تصورنا عن الموسيقى بما هي مجردة من عنصرها الزماني. من الصحيح أن الموسيقى فن ديناميكي، يحدث فيه شيء، بل يعتمد على مبدأ الحدوث، والذي يتمثل لنا في حركة اللحن على السلم، وتطور اللحن الواحد لينتج لنا ألحان جديدة، والانتقال من لحن إلى لحن، ومن قسم إلى قسم داخل الصيغة الموسيقية، وتتابع حركات العمل، وكذلك بلا شك في الإيقاع نفسه. لكننا إذا نظرنا إلى العمل الموسيقي الواحد بنظرة شاملة، وحاولنا إسقاطه هندسيًا على لوح الكتابة، لاستطعنا ذلك بسهولة. وقد يقول القارئ: هذا يصلح مع أي فن، يصلح مع الفيلم، واللوحة الفنية والقصيدة، والعمارة وغيرها. هذا صحيح كذلك، لكن الفارق أن الموسيقى ستبقى مميزة بخاصية أنها لا تحمل مضمونًا معينًا، بخلاف تلك الفنون. لا تحمل العمارة كذلك مضمونًا مباشرًا، لا “تقول” شيئًا هي الأخرى. لكنها تحيل إلى طرازها، وطرازها يحيل بدوره إلى فترتها التاريخية، فهي فن تاريخي، يوضع لكي يلخص لنا عصره، يلخص لنا الزمان في المادة، ويلخص التاريخ في جغرافيا. في مقابل ذلك ليست للموسيقى هذه الوظيفة، حتى إذا كان الأسلوب فيها يحيل إلى فترة تاريخية محددة، فهذه الإحالة غير مقصودة منها.
إذا أمكن رسم مخطط يخلو من الإحالة إلى مضمون في الموسيقى، فنحن نتحدث عن نظام ما؛ والنظام من أهم خصائص الموسيقى بالذات. كما قلنا في مقالات سابقة: الموسيقى فن مميز بالنظام، لأن النظام هو ما يميزه عن الضوضاء. الأصوات قائمة في الطبيعة، وفي المجتمع، ولا تتحول إلى موسيقى إلا حين يضفي الإنسان عليها نظامًا معينًا. لهذا يعتمد تصور المفكرين عن الموسيقى كمكان بالأساس على هذه الصفة، أي النظام الشكلي، ومدى تمييزها للموسيقى عن سائر الفنون، التي وإن تمتع كلها كذلك بنظام، فإنها ليست مميزة به، بل بخواص أخرى كذلك إلى جانبه، كالنظام الدلالي مثلًا. يمكننا أن نتصور قصيدة ذات إحكام شكلي تامّ، لكن دون نظام دلالي لن تكون في نظرنا سوى تلاعُب بالشكل، وربما قلنا عنها إنها “تلاعُب بالموسيقى”. أما في الموسيقى فإن التلاعب الشكلي البحت لا حرج فيه، بل ربما رفعه بعض النقاد درجةً فوق العمل الموسيقي الحامل لفكرة، تحت عنوان الموسيقى الخالصة أو اللا موضوعية.
هنا تبرز أهمية الشكل في الموسيقى بدرجة تفرقها عن بقية الفنون، وفي مقابل ذلك تقل أهمية الموضوع بالدرجة نفسها؛ فليس من الضروري أن يكون العمل الموسيقيّ موضوعيًا لنتلقاه كما أراد مؤلفه. بسبب ذلك جرى ضم الموسيقى إلى العلوم الرياضية في “الحكمة الرباعية”، وكان هذا هو السبب أيضًا في تقديس فيثاغورس القديم للموسيقى، واعتقاده أنها تمثل خطة معينة، عليها بُنيَ الكونُ. تُرى كيف سيستمع فيثاغورس الآن إلى الحركة الأولى من تاسعة بيتهوفن؟
تبدأ الحركة الأولى من تاسعة بيتهوفن بدوزنة متوترة، تتكون منها الجملة الدائرة مؤداةً بكل الأوركسترا. يتلو ذلك قسم العرض في صيغة الصوناتا، لكنه غير تقليدي، فهو في الحقيقة إنماء، وليس استعراضًا لألحان أساسية متتابعة. بعد نهايته، يبدأ قسم الإنماء كالعادة بما بدأ به قسم العرض، وهو من أثرى إنماءات بيتهوفن، خاصة في تلك المرحلة المتأخرة من حياته الفنية. ينتهي قسم الإنماء ليبدأ قسم إعادة العرض، والذي هو استعادة لقسم العرض بتفاصيل مختلفة، وفي مقام مختلف، تتلوه الكودا، أو الختام، وهي كودا طويلة كعادة بيتهوفن في استثمار الكودا كمساحة لمزيد من الإنماء، وتنتهي الحركة في ختام الختام كما بدأت.
يتراجع فيثاغورس في مقعده، ويهمهم مفكرًا، ثم يرفع وجهه إلى السماء قائلًا جملته الشهيرة: الآن تأكدتُ أنّ “السماء عددٌ ونغمٌ” Aristotle, The complete works of Aristotle; the revised Oxford translation. Metaphysics, 985b23-986a13.. يفكر فيثاغورس إلى أي حد بعيد للغاية تطورتْ الموسيقى؛ فالموسيقى عند الإغريق لم تكن فنًا مستقلًا، تمامًا كما ظلت لفترة طويلة عند العرب، كانت تعني الغناء كما نفهمه الآن. لابد أن هذا الفيلسوف، الذي رأى العدد والهندسة أساس الوجود ذاته، كان يتقلب في مضجعه كل ليلة طاردًا الشعر من الأغنية، ومتخيِّلًا إياها عاريةً بلا مضامين لغوية. لا بد أن عملًا كهذا لبيتهوفن هو العمل المثالي بالنسبة له، والذي سيسمح له بأنْ يختبر أخيرًا فرضيته: الموسيقى أساس بناء الكون.
يخرج فيثاغورس لوحه وقلمه وأدواته الهندسية، ويقوم بإسقاط هذه الحركة لبيتهوفن كرسم هندسي، فنكتشف معه الخطة العامة لهذه الحركة: فالجملة الدائرة تتكرر إحدى عشرة مرة بالضبط، لكن بعض مرات تكرارها تجتمع معًا أحيانًا، لتصنع لنا صيغة ظهورها من الدوزنة، اختصارًا: صيغة نشأتها، ست مرات: مرة في مفتتح الحركة، ومرة في قسم العرض، ومرة في قسم الإنماء، ومرة في بداية إعادة العرض، ومرة في بداية الكودا، ومرة أخيرة في نهاية الكودا ونهاية الحركة. يختلف التوزيع، وأحيانًا المقام، كل مرة، لكن الثابت هو تلك الخطة. في الواقع اختار الكاتب هذه الحركة تحديدًا لأنها من أعقد الخطط البنائية التي وضعت لحركة في سيمفونية.
حين نستمع إلى هذه الحركة عدة مرات نبدأ في تبين تلك البنية بوضوح متزايد، بحيث تمارس هذه الخطة نوعًا من التغذية الرجعية، فتعيد تصورنا عما نسمع هي نفسها، بعد أن كانت حصيلة السماع. هذا الأمر الذي دعا روبرت شومان ذات مرة في مجلة المسارات الجديدة إلى القول بأن بيتهوفن يحاول هنا تلخيص قصة سفر التكوين في خلق العالم في ستة أيام، نظرًا للتشابه في رقم ستة في الحالتين. هذا إسراف في التأويل بطبيعة الحال، فقصة التكوين لا تكتمل إلا باليوم السابع، كما أن الهدف من العمل لم يكن تمثيلًا موسيقيًا لسفر التكوين. حتى لو قلنا أن الحركة تمثل التكوين، فإلامَ ترمز الحركات التالية مثلًا من السيمفونية؟ هل ترمز إلى سفر الخروج؟ وماذا عن الحركتين التاليتين؟ لكن رأي شومان هنا له أهمية مختلفة؛ هو وقوفه هو كذلك على الخطة نفسها، التي وقفنا عليها.
قد نختلف في المرموز، قصة الخلق في هذه الحالة، لكننا سنتفق في الرامز: الهيكل العام للحركة. لهذا اعتقد بعض المفكرين أن جوهر الموسيقى هو الخطة البنائية، التي لا نختلف بصددها، والتي يمكن البرهنة عليها رياضيًا، كما قمنا أعلاه بإحصاء مرات تكرار الجملة الدائرة، وعدد مرات نشأتها من الدوزنة. هكذا كان يمكن لفيثاغورس أن يستمع إلى تاسعة بيتهوفن، وأن يجد فيها هذا المعبد الفرعوني العالي المهيب. لن تتحرك مشاعره، وربما لن يبكي كما يفعل أغلب من يفهمون أسرار هذه الحركة، لكنه سيجد فيها خطة بناء ساطعة الوضوح. ربما ليست هي بالذات خطة بناء كوننا، لكنها قد تستحق أن تكون كذلك.
ربما لو انتقلنا إلى أفلوطين، لوجدنا لديه تصورًا أقرب لمشاعرنا. الفرق الأساسي بين فيثاغورس وأفلوطين أن الثاني لا يتجاهل الطبيعة الديناميكية للموسيقى، بل بالعكس يؤكد عليها، وهي التي لم يركز عليها فيثاغورس كثيرًا. الموسيقى عند أفلوطين معراج سماوي، وطريق، ليس للتواصل مع الإله فحسب، بل للوصول الفعلي إليه.
تحدثنا عن فلسفة أفلوطين في الموسيقى بتفصيل أكبر في مقالات سابقة، مثل الموسيقى بين التدجين والتوثين وكلمة من الله، وقارنّاه بفلسفة الهندوس الموسيقية. لكن في هذا المقال ربما يمكن أن نلخص وجهة نظره في التالي: كان أفلوطين فيلسوفًا صوفيًا، وكان المنافس الوحيد تقريبًا، الذي مثل منافسة حقيقية، للمسيحية في قرونها الأولى. كان يؤمن أن وجودنا المادي قد فاضَ عن وجود آخَر غير محسوس، يتربع على عرشه، وهو ما دعاه بالبروتون، أي الواحد أو الأوّل باليونانية. يستطيع الإنسان في نظرية أفلوطين أن يسير في طريق الفيض معكوسًا: من الوجود الحسي إلى العالم غير الحسي، لكن بشروط معينة، أهمها الزهد، والتخلص من ربقة الجسد عن طريق الرياضة الروحية. في هذه النظرية كان للفن وضع خاص؛ فهو بقدرته على تربية الحاسة الجمالية عند الإنسان من أهم طرق الارتقاء الروحي، هذا إلى جوار الرياضيات، والفلسفة، والحب. صحيح أن الموسيقى لم تكن الفن الأهم في اعتبار أفلوطين في هذا المعراج، لكنها كانت أحد الطرق المهمة مع ذلك.
ربما إذا استمع أفلوطين إلى الحركة الأولى من تاسعة بيتهوفن لما وجد فيها ضالته؛ فهي مبهرة على مستوى البنية العامة، وربما على مستوى الجمل اللحنية. لكن من قال أن أفلوطين يولي البنية الهندسية للعمل، أو حتى اللحن، الأهمية الكبرى؟ في الواقع كان الإيقاع عند أفلوطين هو أهم عناصر الموسيقى. ربما قارن بعض الباحثين بينه وبين أفلاطون من هذه الزاوية، وهو منتسب إلى الأفلاطونية في رأي الأكاديميين الغربيين بشكل ما، حتى دعوا مذهبه بالأفلاطونية المحدثة. قد يكون لهذه المقارنة وجهٌ؛ فكل من أفلاطون وأفلوطين اعتبروا الإيقاع أهم عناصر الموسيقى، لكن الفارق في وجه الاعتبار. بينما اعتقد أفلاطون في أهمية الإيقاع بما هو نظام صوري، قادر على الإيحاء للنشء في جمهوريته المثالية بالنظام بما هو نظام، وترويض وحشية النفس الفطرية، فإن أفلوطين نظر إلى الإيقاع من جهة دوره النفسي والمعرفي، لا التربوي Dalton, Sidna Poage, A Critical Review of the Theory of Education in Plato's Republic, University of Missouri, 1914..
يعتقد أفلوطين أن الإيقاع هو مبدأ الديناميكية في الموسيقى؛ بمعنى أن العالم لو كان خلوًا من الإيقاع، من نظام معين للحركة، فإن شيئًا لا يمكن أن يصدر عن أي شيء؛ وكما قلنا تهتم فلسفة أفلوطين بصدور الموجودات عن مبدأ واحد بالدرجة الأولى في كون ديناميكي، وقد كان الإيقاع بما هو إيقاع مثالًا على ما أراد أفلوطين توضيحه. عن طريق الوحدات الإيقاعية نفسها يمكن لنا أن نصنع سلسلة من الأحداث، وهو صدور للكثرة عن الواحد بشكل أو بآخر.
بالتالي قد لا ندعو أفلوطين إلى الجلوس جوار فيثاغورس في الحفل نفسه. ربما كان الأجدر به أن يستمع إلى الحركة الثانية بدلًا من الأولى من تاسعة بيتهوفن. هذه الحركة هي التي قال عنها د. حسين فوزي مستلهمًا نقادًا وموسيقيين غربيين كثُر إنها انتصار للإيقاع على اللحن حسين فوزي: بيتهوفن، دار المعارف، القاهرة، ١٩٨٧.. إن ألحان الحركة الثانية من هذه السيمفونية لا يمكن تقديرها في حد ذاتها؛ فهي ليست على مستوى جمال الجمل اللحنية العام في هذا العمل. لكن ما يمنحها حيوية هائلة يستشعرها السامع حتى من السماع الأول، وحتى مع خبرة متواضعة بالموسيقى الكلاسيكية، هو طاقتها الإيقاعية، حتى يمكن القول إنها أجمل ما وضع بيتهوفن في مجال الاسكرتسو، وأكثره ابتكارًا. وصل بيتهوفن بالإيقاع في هذه الحركة إلى درجة التعرية الكاملة أو شبه الكاملة له؛ ففي قسم التفاعل – والحركة اسكرتسو في صيغة الصوناتا – نسمع الطبل مدويًا خمس مرات على الإيقاع.
ليس من المعتاد عمومًا أن نسمع الآلات الإيقاعية بهذا الوضوح في الموسيقى الكلاسيكية، التي تخلصت من الإيقاع سابق التجهيز منذ القرن السادس عشر تقريبًا. حتى الآلات غير الإيقاعية في قسم التفاعل نجدها تقدم عزفًا متقطعًا (بيتسيكاتو)، وكأنها تحاكي الطبول؛ ما أكسب الإيقاع بروزًا غير تقليدي في هذه الحركة بالذات، حتى لنكاد في بعض المواضع نتخيل الحركة كرقصة همجية من طقوس الخصوبة البدائية. على كل فهذه الحركة ليست فقط من أهم مقطوعات بيتهوفن الإيقاعية، بل من أهم المقطوعات الإيقاعية في الموسيقى الكلاسيكية عمومًا.
كيف سيستمع أفلوطين لمثل هذه الموسيقى؟ ربما وجد فيها في الوهلة الأولى درجة من الفجاجة، والنشاط الزائد، وعدم التحكم في الانفعال. ربما أزعجه فيها دور النحاسيات في قسم إعادة العرض الصاخب، أو أدهشه انفجار الطبل في قسم التفاعل. لكن بعد تكرار السماع سوف يزداد اهتمامه، ويدرك خاصيةً هامةً؛ هي أنها ليست مجرد تلاعب بالإيقاع، فالحركة محكمة البناء، وغنية بالجمل اللحنية، التي وإن كانت أقل أهمية من بقية ألحان الحركات الثلاث الأخريات، فإنها ليست مجردة من جمال اللحن. سوف يفهم أفلوطين أن هذه الحركة عمل متميز؛ فهي ترسِل الإيقاع إلى أمامية العمل نسبيًا، لكن دون تجاهل العناصر الأخرى للبناء، بل من خلالها. لكنه سوف يدرك كذلك أمرًا أكثر أهمية؛ فالحركة مثال قويّ على صدور كل هذا التنوع من مبدأ بسيط كالوحدة الإيقاعية الثلاثية، التي يوظفها العمل. كما سيؤول دور الطبل في قسم التفاعل تأويلًا خاصًا؛ فإن هذا العرْي الإيقاعي، إن جاز التعبير، يوضح للسامع الهيكل الأصلي لإيقاع العمل، والذي يعرَى للحظة، قبل أن يغيب في لحمة الأوركسترا مرة أخرى.
بعد قسم إعادة العرض الزاعق نبدأ في الاستماع إلى الألحان السماوية للحن التريو، الذي كما هو معتاد تبرز فيه أدوار آلات النفخ: الكورنو والكلارينيت والأبوا، والفلوت والفاجوت. حين نسمع هذه الألحان، التي تنقل السامع إلى حالة من التأمل والهدوء، بعد قسم إعادة العرض، وحين تتوسط الحركة كفريدة القلادة، فإنها تبدو وكأنها الهدف الأساسي للحركة. لا جرم في ذلك، وبقية ألحان السيمفونية ككل، خاصة في الحركتين التاليتين، لها الطابع نفسه. يدخل أفلوطين إلى هذه الحالة من التأمل المتأنّي الهادئ الصافي، ويستشعر كأن الإيقاع قد صعد به إلى السماء؛ حيث يلتقي بالواحد، الذي طالما حلم به، ودعا الآخرينَ إلى الحلم به.
نقفز لمسافة طويلة حقًا في التاريخ هذه المرة، من القرن الثالث الميلادي إلى التاسع عشر، من أفلوطين فيلسوف التصوف الأول في العصر القديم، وطيلة العصور الوسطى، إلى جيورج فلهلم فردرش هيجل (+ ١٩٣١) فيلسوف الديالكتيك، أو الجدل، الأول في العصر الحديث. لا بد أن نتوقف باختصار، سنحاول قدر الممكن ألا يكون مخلًا، عند مفهوم الديالكتيك؛ لأنه أكثر منظورات التفسير نجاحًا بالنسبة لموسيقى بيتهوفن كما سنرى، ولأنه كذلك لب الماركسية، حين نتعرض لماركس. للديالكتيك عدة صور في تاريخ الفكر الإنساني؛ فهو عند هيراقليطس في القرن الخامس قبل الميلاد، غيره عند هيجل، غيره عند ماركس وإنجلز. لكن هذه المذاهب، وغيرها من مذاهب الديالكتيك الأقل شهرة، تجمع على مبدأ واحد: إمكانية وقوع التغيُّر في نظام ما معزول، ككوننا ككل مثلًا، دون تدخل خارجي. الواقع أن الفكرة لا تتميز إلا بالضد؛ بمعنى ضرورة الحديث أولًا عن التغير غير الجدلي، لنفهم ماهية التغير الجدلي.
حين ننظر مثلًا إلى فكرة المحرك الأول عند أرسطو، نجد أن كوننا لا يمكن أن يكون نظامًا معزولًا يستمد التغير من داخله؛ فنحن نرى بالملاحظة المباشرة المتكررة أن لكل متغيرٍ مغيِّرًا. لو تتبعنا كل سبب، لوجدنا له سببًا أعمق، حتى نصل إلى سبب لا يحتاج وجوده أو فعله إلى سبب، هو المحرك الأول الذي لا يتحرك، أو الله، سبب الأسباب الخارجي. لكن نشأت عن هذه الفرضية مشاكل أخرى. مثلًا، كيف نفسر أفعال الله نفسها؟ هل لها سبب؟ إذا لم يكن لأفعاله سبب، فهل يتحرك “بطبيعته”، أي بدون إرادة منه؟
من الحلول المبتكرة، والتي تستبعد فرضية المحرك الأول دون أن تقع في مشاكل ذلك الاستبعاد، وأهمها كيفية حدوث التغير في عالمنا دون تدخل فوق-طبيعي، هي فرضية الجدل، أو الديالكتيك. يرى الجدليون أن الطبيعة ملتئمة، بمعنى كونها لا تترك مجالًا لأي تدخل خارجي، ومع ذلك فهي قابلة للتغير بسبب نظام معين للتفاعل بين أجزائها المختلفة. هذا التفاعل هو الجدل ذاته، الذي يتسبب في تغيرات الطبيعة بسبب التناقض بين أطرافها؛ من الحار والبارد، والكبير والصغير، والمتحرك والثابت، والموجب والسالب … إلخ. يعتقد أصحاب فكرة الجدل أن التناقض هو جوهر الطبيعة نفسها، فهي ليست ثابتة في الأصل لنفترض لحظة معينة تتغير فيها، وسببًا لتغيرها.
أهم من اعتقد في هذه الفكرة على الإطلاق هو الفيلسوف الألماني هيجل، الذي قدم للمرة الأولى في تاريخ الفلسفة المعروف معادلةً محددةً للجدل. لأن هيجل فيلسوف مسيحي أولًا وأخيرًا، لم ينكر وجودَ الإله، بل افترض أن الإله مُباطِن للطبيعة والتاريخ، وليس منفصلًا عنهما، وأن كل ما نراه ونفكر فيه، بلا استثناء، هو تجليات للإله الواحد. هكذا لم يوفِّق جدل هيجل فقط بين الطبيعة والتاريخ، بل وفق كذلك بين الطبيعة وما بعدها. باختصار يرى هيجل أن كل تغير في الطبيعة والمجتمع يتم عن طريق وعي ما. قد يكون وعي الإله نفسه، وأحيانًا يكون وعي الإنسان. إذا كان الإنسان هو الذي يصنع التاريخ، وليس هو نفسه نتيجة للتاريخ، فإن صراع الأفكار هو السبب في كل تغير في التاريخ، والمجتمع.
من المصادفات الحقيقية أن كلًا من بيتهوفن وهيجل قد ولد في السنة نفسها في البلد نفسه، عام ١٧٧٠ في ألمانيا؛ وهي مصادفة، كما هي مفارقة. مصادفة لأن الاثنين قد قدما الديالكتيك؛ أحدهما على المستوى النظري، أي هيجل، والآخر على المستوى التطبيقي الإبداعي، أي بيتهوفن. لذلك فقد يكون هيجل هو أهم من في هذا الحفل الموسيقي-الفلسفي في هذه المقالة من جهة علاقته ببيتهوفن. هي كذلك مفارقة؛ لأن هيجل لم يهتم تقريبًا ببيتهوفن، ولا بالموسيقى الكلاسيكية الخالصة، أي الصوناتا والسيمفونية، والكونشرتو والرباعي الوتري … إلخ. لقد عاصر هيجل نضجَ بيتهوفن، والثورة التي أحدثها في الموسيقى عمومًا بسيمفونيته الثالثة، إيرويكا – وهي التي سنتوقف عندها لاحقًا – ومع ذلك فقد خصص للموسيقى آخِر موضع في تسلسل الفنون؛ باعتبارها الفن الأقل في القدرة التعبيرية. ليست المفارقة ما سبق بالضبط؛ فإن الأكثر إدهاشًا أن بيتهوفن قد قدّم الديالكتيك، العمود الفقري للهيجلية، في موسيقاه على نحو صريح.
إن العلاقة بين بيتهوفن والديالكتيك تكمن في ما يمكن تسميته في المقابل بالعمود الفقري للبيتهوفنية في التأليف، أيْ ما جعل بيتهوفن بيتهوفن. يمكن للقارئ هنا أن يرجع إلى مقالة سابقة ليطالع تلك الخاصية التأليفية بالتفصيل تحت عنوان بيتهوفن الصمَد. هذا العمود الفقري هو الاشتقاق اللحني. لا يقدّم بيتهوفن ألحانًا جديدة عادة في الحركة الواحدة في العمل بعد اللحن الأول، وإنما يشتق اللحن الثاني، وكل الإنماءات اللاحقة من جملة واحدة. بل قد اشتق بيتهوفن في بعض أعماله كسيمفونيته الخامسة، كل العمل بحركاته الأربع من جملة واحدة بسيطة كل البساطة. في هذه القدرة لم أجد من ينافس بيتهوفنَ على الأقل في حدود اطلاعي.
علاقة الاشتقاق بالديالكتيك وثيقة، فهي برهنة عملية على أن التغير داخل نظام معزول ما لا يتطلب بالضرورة محركًا لا يتحرك، لا يتطلب حتمًا تدخلًا خارجيًا. يكفي أن الجملة اللحنية الأولى حبلى في ذاتها بالتناقضات، التي يمكن أن تنشأ منها جملٌ مختلفة عنها، تدخل معها في علاقة بنّاءة، لتتفرع عنها جملٌ أخرى مختلفة، تحمل كل منها تناقضاتها الداخلية، وهكذا. هذه هي بالضبط “معادلة” هيجل للجدل المذكورة أعلاه. مع ذلك لا نعدم أن نجد نقدًا لهيجل لأعمال بيتهوفن الهامة، صحيح أنها شذرات، لكنها قد ترسم صورة عامة، وهامة.
“هذه ليستْ ’موسيقَى’ بالضبط؛ لقد تجاوزنا ذلك تمامًا في أيامنا هذه“، هيجل مستمعًا إلى إعداد فيلكس مندلسون لعمل باخ آلام القديس متّى في محادثة على مائدة طعام في برلين عام ١٨٢٩، نقلًا عن عالم الموسيقَى الألماني الكبير كارل دالْهاوْس (+١٩٨٩). يفسر دالهاوس هذا الكلام؛ فهيجل يتفق مع القول بأن سيمفونية بيتهوفن الخامسة، بما هي موسيقى خالصة أولًا، وبما هي تحقق توازن الشكل والمضمون ثانيًا، صالحة لأن تكون تعبيرًا عن المقدَّس، أن تصير عملًا دينيًا، دون أي إشارة إلى ذلك، ودون مصاحبتها بالشِّعْر C. Dahlhaus, Klassische und Romantische Musikästhetik, (Laaber, 1988), S. 86.. وهو ما يتجاوز فكرة عنونة عمل معين كهذا العمل لباخ. يعني هيجل أن بيتهوفن في سيمفونيته الخامسة قد استطاع تحقيق القداسة بلا مقدَّس، بلا موضوع للتقديس، وإنما صنع حالة التقديس ذاتها. هكذا – في نظر هيجل – يكتفي العمل الفني بذاته، ولا يتطلب أية إحالات خارجية موضوعية.
لكننا سنتعرض الآن لتجربة ذهنية جديدة؛ سنحاول أن نضع أمام هيجل أحد أهم أعمال بيتهوفن، وربما أهم أعماله في مجال السيمفونية، والتي قال عنها بيتهوفن نفسه في أواخر أيامه إنها أفضل سيمفونياته، ألا وهي السيمفونية الثالثة (إيرويكا) مقام مي بيمول الكبير مصنف ٥٥، والتي أتمها في سن الثالثة والثلاثين تقريبًا. هي التي أطلق عليها أدولف برنارد ماركس، الناقد الموسيقى المهم ومن أوائل من كتبوا سيرة أكاديمية عن حياة بيتهوفن وأعماله، وهو بالمناسبة صاحب التنظير الأساسي لصيغة الصوناتا في رأي غالبية الباحثين، لقب السيمفونية المثالية؛ ليس لأنها الأفضل في مجال السيمفونية، أي ليس لحكم جمالي أو نقدي، بل لكونها تحمل مثالًا أفلاطونيًا.
في رأي أدولف ماركس، إيرويكا هي السيمفونية التي تدور حول فكرة موضوعية، هي فكرة البطولة، دون إحالة إلى بطل معين وضعت السيمفونية في الأصل إلى نابليون، وكان عنوانها الأصلي بونابرت. لكن بيتهوفن قام بشطب اسم بونابرت بعدما نصّب نابليون نفسَه إمبراطورًا مطلقًا، وبالتالي خان الثورة الفرنسية في نظره، ووضع عنوانًا بديلًا، هو إيرويكا، أو البطولية.. نحن نتفق على الأقل أن البطل رفيع الخلق، نبيل المنبت، شُجاع، وله قدرات أكبر من العادية بشكل أو بآخر أهلته ليكون متفردًا من البداية. هذا هو مثال” البطل، والبطولة، بالمعنى الأفلاطوني لكلمة مثال، أي فكرة سرمدية تعبر عن حقيقة ثابتة من حقائق الكون، والواقع، لا يختلف البشرُ بشأنها. هذه كانت بدعةً خارقةً في الفن حقًا. بعدها استمرت هذه البدعة، لكنْ كسُنَّة متَّبَعَة، وصرنا تلقائيًا نتصور الموسيقى كوسيط للتعبير عن المُثُل المجردة، بشكل أكثر تجريدًا من أي وسيط فني، وبذلك صارت أقرب إلى طبيعة المثل المجردة الأفلاطونية؛ وهي مرحلة متقدمة في الفن والفلسفة، لأن الفلسفة – طيلة قرون طويلة – لم تجد أي تعبير مادي عن مثل أفلاطون، برغم تشكك الجميع في وجودها، وفي عدم وجودها. كانت الموسيقى متقدمة في تلك القرون، لكنها كانت تستعمَل – بتعبيرات أدولف ماركس – إما للإمتاع الذهني Speilseligkeit، أو التعبير عن المشاعر Gefühle، وقبل بيتهوفن لم تستعمَل قط للتعبير عن فكرة See: A. B. Marx, Musical Form in the Age of Beethoven: Selected Writings. On Theory and Method, Cambridge Studies in Music, Theory and Analysis; ed. by Scott Burnham, 12, Cambridge University Press, 1997. See also: A. B. Marx, Ludwig van Beethoven, Leben und Schaffen, Verlag von Otto Janke, Berlin, 1901.. فلما استعمِلَت لذلك لأول مرة أحدثت كل هذا الزلزال، الذي لم يزل صداه يتردد في الأرض حتى اليوم. إذا كان اكتشاف شيء كامل يتماهى مع اختراعه، يمكن القول إن هذه السيمفونية قد اخترعتْ لأول مرة مثالًا أفلاطونيًا، اخترعتْ البطولة.
يجلس هيجل في المقاعد الأولى ليستجيب إلى هذا التحدي: نتحداه أن يغير رأيه في الموسيقى، وأن يبدل موقعها في تسلسله للفنون، حين يستمع إلى إيرويكا. يمكن للقارئ أن يتابع هيجل، وهو يستمع إلى هذه السيمفونية، على الفيديو التالي، الذي يشمل الحركة الأولى من إيرويكا بالعرض التحليلي. كذلك يمكن للقارئ الرجوع إلى مقالة تحليلية لهذا العمل على معازف.
لا يكوّن هيجل رأيَه في الأشياء سريعًا، وإنما يفكر فيه، ويعيد فيه التفكير، بغيةَ إدماجه في نسقه الجدلي. لهذا سنضطر إلى الاستماع إلى قسم العرض كله على الأقل؛ لكي نرى كيف اشتقّ بيتهوفن الكل من واحد. كما قلنا ذات مرة على معازف: “لا شيء جديد، أو يحدث لأول مرة عند بيتهوفن”. حين تسمع بيتهوفن لا تتوقع خَلْقًا، بل توالدًا تلقائيًا. توقعْ كل شيء من شيء واحد. ليست الجملة الأولى من إيرويكا لحنًا بالمعنى المصطلح عليه للحن. إنها مجرد جملة بالمصطلح الموسيقيّ، ولا تكتمل كلحن إلا بنهاية الحركة. إن الحركة كلها – حرفيًا لا مجازًا – هي قصة نمو واكتمال هذه الجملة لتصير لحنًا. كان هذا جديدًا كل الجدة في وقته، ومن هذه الجملة البسيطة، المأخوذة أصلًا من افتتاحية باستيان وباستيين لموتسارت، ظهرت كل تلك التناقضات التي صنعت جملًا لحنية جديدة، مختلفة عن الجملة الأم، واندمجت في الصراع معها، حتى لم تعد هناك أمّ. كل جملة صارت أمًا جديدة تحبل ببناتها، وكل من بناتها صارت أمًا حبلى.
كان هذا على مستوى التركيب، أما على مستوى التوزيع الأوركسترالي فالأمر كذلك لافت للنظر في تشابهه مع جدل هيجل. يقسّم بيتهوفن الآلات الميلودية – أي آلات الأوركسترا دون الآلات الإيقاعية – إلى ثلاثة مجموعات، كما يقسم هيجل الأفكار إلى ثلاثة قضايا. هي عند هيجل أولًا: القضية، ونقيض القضية، والقضية المركَّبَة؛ وهي عند بيتهوفن ثانيًا: آلات النفخ الخشبية، الآلات النحاسية، والوتريات. يستعمل كل من الفيلسوف والموسيقار الأوركسترا نفسَها، وفي مقابل ذلك الثالوث الأوركسترالي نجد كذلك الثالوث اللحني، وهو الذي يتبلور لدينا قرب نهاية الحركة، أو في ختام الكودا. ففي هذا الختام نرى الوتريات المنخفضة – الباص والتشيللو والفيولا – “تقول” برصانة أبوية، لتردّ عليها خطوات طفل راقصة خفيفة بالكورنو، ثم ترد في النهاية الوتريات العالية – مجموعتا الكمان – في أمومة غامرة وحنان. الآب، والابن، والأم، أو الروح.
كما قلنا، هيجل فيلسوف مسيحي، يؤمن بالآب أو الموضوع في مصطلحه، والابن أو الذات في قاموسه، والروح أو المطلَق في عُرفه. هذا “التشابه” مجرد تشابه من الناحية العلمية الدقيقة، لكنه لا ينفكّ عن كونه لافتًا للنظر بشدة. سنجد هذا الثالوث بشكل أو بآخَر في أعمال أخرى لبيتهوفن، كافتتاحية إيجمونت، وسيمفونيته السابعة.
ها هو الديالكتيك صار مسموعًا. هذه – ربما – الكلمة التي سيقولها هيجل بعد الاستماع إلى إيرويكا، وإلى موسيقى بيتهوفن عمومًا. هذه ليست مبالغةً؛ فإن بيتهوفن قد طبّق تلقائيًا، وبدون إحالة إلى فلسفة هيجل، ديالكتيكَ هيجل. كما أن هيجل لم يُحِل إلا نادرًا إلى بيتهوفن، وفي محادثات شخصية كما ذكرنا، فإن بيتهوفن كذلك أحال إلى شكسبير، وجوته وشيللر وأساطير الإغريق، ونابليون بونابرت وإيجمونت التاريخي، وإلى المسيح، وإلى الله، وحتى إلى حبيباته، وحبيبات أصدقائه، وإلى أصدقائه، وإلى نبلاء النمسا، وعسكريي بريطانيا، ولم يُحِل مرةً واحدة إلى هيجل.
كيف توصل كل من الموسيقار والفيلسوف إلى الفكرة نفسها؟ ربما كانت إجابة هذا السؤال كامنة في نوع ما من روح العصر، أي فكرة عامة سائدة في فترة من الفترات في العقل الجمعي، تحرك أصحابَها على المستوى اللاشعوري. هو كذلك يتفق مع ديالكتيك هيجل بالمناسبة، الذي ينص على أن فكرةً ما في كل عصر سوف تتجلى في الدين، والفن والعلوم والفلسفة، والسياسة والمجتمع، وأنها ستتناقض داخليًا، وتنجب لنا نقائضَها، التي ستصنع روح عصر جديدة، وهكذا. باختصار سيسمع هيجل الديالكتيك حرفيًا، وسيراه بعين الخيال وهو ينشأ، ويرتقي، أمام ناظريه. ثم حين يتجسد أخيرًا المطلَق – بحسب هيجل – ليصير موضوعًا لتفكيرنا، فإنه يتحقق كنهاية أخيرة لحل كل التناقضات، هذه النهاية هي العمل الموسيقي بين أيدينا، سيتحقق كنهاية للتاريخ.
تعني الموسيقى كزمان تصورنا عن الموسيقى بما هي تطوُّر خالص. ربما رأى القارئ لأول وهلة أنه موضع جدير بهيجل فيلسوف التطور، لكن ما جعلنا لا ندرج هيجل في الموسيقى كزمان، وأدرجناه في الموسيقى كمكان، أن هيجل يتصور الموسيقى كنظام حركي-واعٍ. إنه حركي، ديناميكي، لكنه يتبع معادلة معينة، يمكن استقراؤها ذهنيًا وإسقاطُها على بعدين اثنين، ويمكن فهمه عقليًا. لكن الموسيقى كزمان يجب أن تتصور الموسيقى بما هي ديناميكية مستمرة عمياء، لا هدف لها إلا التطور، ولا تحقق فكرة معينة في حال تمامها. في هذا السياق الأخير سندرج فيلسوفين مهمين: ماركس فيلسوف التاريخ، وهيدجر فيلسوف الزمان.
تتمحور أهمية كارل ماركس حول قلبه للديالكتيك الهيجلي بالذات؛ فلولا هذه الخطوة، التي قام بها في نحو التاسعة والعشرين تقريبًا من العمر، ذات عمر نضج بيتهوفن تقريبًا قرابة الثلاثين، لما كانت له تلك الخطورة الكبرى في التاريخ البشري. ماركس بكل تأكيد – مهما صار خلافنا معه – هو أحد أهمّ الشخصيات المؤثِّرَة في التاريخ الإنساني الحديث والمعاصر. لقد أحدثت فلسفة ماركس انقلابًا هائلًا في العلوم الاجتماعية والإنسانية، وقسّمتها على محاور مختلفة إلى مثالي ومادي، ورومانسي وواقعي، في الفن والنقد الفني، والسياسة والاقتصاد والاجتماع، واللغة وفلسفة الدين. بل إن الفيلسوف الوحيد، الذي انتشرت فلسفته بمعدل انتشار الديانات واتساع انتشارها هو كارل ماركس كما تثبت الأرقام نفسها.
باختصار كان ديالكتيك هيجل ينص – كما أسلفنا – على أن التاريخ هو تجسد للوعي، وعي الإله، أو وعي الإنسان، فالتاريخ بحسبه صناعة للوعي. أما ديالكتيك ماركس، أو ما عُرف لاحقًا بالمادية الجدلية، والمادية التاريخية، فقال بالعكس: إن الوعي هو تَجرُّد التاريخ، إذا كان التاريخ عند هيجل هو تجسد الوعي. يعتقد ماركس أن شتى عناصر البنية الفوقية للمجتمع، ومنها الموسيقى، ما هي إلا تداعيات للصراع المادي، أي الاقتصادي-الاجتماعي. بالتالي فموسيقى بيتهوفن معبِّرَة عن عصرها، ونتيجة لهذا العصر تحديدًا. في نظر ماركس لا يمكن لبيتهوفن، الذي نعرفه الآن، أن يوجد في غير عصره، كما لا يمكن أن يوجد عصُره بدونه. بيتهوفن في نظر ماركس ليس عبقريًا متفردًا، وإنما الظرف التاريخي هو الذي كان استثنائيًا إبان الثورة الفرنسية وتداعياتها.
يعتقد ماركس في ما يسمَّى بالأذن الموسيقية، وتعني في اصطلاحه الحاسّة المركَّبَة، غير المقصورة على الأذن بمعناها التشريحي، التي “تمرنتْ” على نوع معين من الموسيقى، كالموسيقى الكلاسيكية مثلًا، ومن ثمَّ صارت تقدّر جماليات هذا الفن Marx, Karl & Fredrick Engels, On Literature & Art, A Selection of Writings, edited by Lee Baxandall & Stefan Morawski, introduction by Stefan Morawski, Telos Press, 1973, pp. 51-52.. ما يؤدي إلى الاعتقاد في أن الجمال ليس خاصية في الشيء نفسه، بل هو “علاقة معه”. علاقة مبنية بالأساس على نوع من النمو المادي، الحسّي، من جهة، مثلما يجد المستمع غير المدرب نوعًا من الضجيج، والضوضائية، في الموسيقى الكلاسيكية للوهلات الأولى. كما هي علاقة مؤسَّسة كذلك على نوع من المران الذهني، أي تلك المعلومات الأولية، التي يجب على المستمع المبتدئ أن يعرفها: ما الصيغة؟ ما الصوناتا؟ ما السيمفونية؟ ما آلات الأوركسترا عمومًا؟ … إلخ.
إن السمع، كسواه من الحواس، يتعوّد تدريجيًا على المعطيات الحسية، حتى لو كانت مزعجة في البداية؛ كتعود أعيننا على الضوء الساطع بالتدريج بعد الإفاقة من غفوة. هنا يتدرب السمع على المستوى اللاشعوري على تجاهل درجة الصوت العالية في الموسيقى الكلاسيكية، ويبدأ في تمييز هذه الضوضاء أولًا إلى أصوات الآلات المنفردة، حتى لو كانت تعزف معًا، كما يبدأ في تمييز صيغة أو خطة معينة لتكرار جمل، أو ألحان بعينها. لكن هذا المستوى الحسي شبه البحت لا يكفي، حتى بالمعنى الأوسع لكلمة “حاسّة”. لا يكتمل وعي المستمع بالموسيقى الكلاسيكية إلا بعد معرفة حد أدنى من المعلومات عن نظرية الموسيقى، ومؤلف العمل وعصره، والأهم من كل ذلك معرفة صيغة العمل، والطبيعة الاشتقاقية في الموسيقى الكلاسيكية، التي هي خاصتها الأساسية التي تفرقها عما عداها من أصناف الموسيقى.
دون وعي بصيغة الصوناتا مثلًا سيتعثر المستمع في تمييز خطة بناء الحركات الأولى من أشكال السيمفونية، والرباعي الوتري، والصوناتا؛ ودون وعي بفكرة الاشتقاق اللحني، أو الإنماء، فلن يتمكن هذا المستمع من فهم قيمة أعمال يوهان سيباستيان باخ، وهايدن وموتسارت، وبيتهوفن وبرامز … إلخ، ولا تقدير الدور الذي لعبوه. دون معرفة مسبقة لدى المستمع بأسلوب هايدن سيظن أن موتسارت قد أبدع أسلوبه من العدم، ودون معرفة بأسلوب موتسارت لن يفهم أن بيتهوفن قد أبدع أسلوبه تقريبًا من العدم. بالفعل، بعد أكثر من عشرين عامًا من استماع كاتب هذه السطور إلى أعمال كل هؤلاء الأعلام، وأكثر منهم، لا يمكن له “الاستمتاع” بسيمفونية بيتهوفن الثالثة إيرويكا إلا مع استعادة ذاكرته لأواخر أعمال موتسارت، وكيف مثلت إيرويكا بيتهوفن نقلة نوعية حقيقية، يندر أن نجدها بهذا الوضوح والشمول في الفن.
إذًا يرتبط التلقي كذلك بمعرفة هذا الفن، الموسيقى الكلاسيكية في هذه الحال، ومعرفة بحال الفنون الأخرى. لم يحقق شكسبير مثلًا نقلة نوعية كالتي حققها بيتهوفن، وقد عاصره منافسه العتيد الغامض كريستوفر مارلو. كما لم يحقق ليوناردو دافنشي نقلة نوعية بشكل منفرد، وإنما قام بها فريق كامل من النهضويين. كذلك جوته لم يعمل منفردًا، ولم يكن مبدعًا إلى هذه الدرجة من الجذرية، وإنما سار في تيار كامل من الرومانسيين الألمان، هذا إلى درجة أن جوته نفسه اعترف بدهشته من القدرة الإبداعية لدى بيتهوفن. إذا طالع القارئ الفصل الذي كتبه ول وإيرل ديورانت في المجلد الأخير من قصة الحضارة: عصر نابليون عن بيتهوفن لاندهشَ من آراء جوته في بيتهوفن، وردود فعل بيتهوفن عليه Will & Ariel Durant, The Story of Civilization (11), Age of Napoleon, Simon and Schuster, New York, 1975.. ربما كان منافس بيتهوفن الوحيد، على الأقل في عصره، هو نابليون نفسه، بقدر ما أوقعه من أثر بالغ على المجتمع الأوروبي والشرق الأوسط وروسيا في بضع سنين.
خلاصة كل ما سبق هي أن تلقينا للفن في نظر الماركسية يستند إلى ركيزتين: المران الحسي من جهة، والإلمام بحد أدنى من المعرفة النظرية بالفن؛ وإذا كان هذا كذلك، فإن للمؤسسات الثقافية، والإعلام، والصحافة الفنية، ونقاد الفن، بل وللمؤسسات التعليمية والتربوية المدنية والدينية دورًا أساسيًا في تقديرنا للفنون. مثلًا قد نستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية بما هي “كلاسيكية” في تعريفها التاريخي، أي شبه قاصرة على طبقة النبلاء. إذ من المعروف أن الطبقة الأعلى تؤثر في الأدنى، وأن الحضارات المتفوقة تقود الحضارات الأقل تقدمًا، وتجعلها تابعة. إذا انطبق هذا على التلقي، فإنه ينطبق كذلك على الإبداع، لكن بدرجة مختلفة، وفي اتجاه عكسي؛ فالإبداع المتميز يرتبط في نظر الماركسيين برهافة غير عادية للحاسة المادية (الأذن الموسيقية في تعبير ماركس وإنجلز)، رهافة هي أكبر بكثير مما يتطلبه الحد الأدنى من التلقي الموصوف أعلاه. الفنان مطالَب أمام العالَم والتاريخ بأن يأتي بالجديد مع استيعاب متميز للقديم. هو كذلك يتأثر بمؤسسات المجتمع من النواحي المذكورة سلفًا، ثم يمارس هو نفسه تأثيره من خلال هذه المؤسسات. فمثلًا كانت أعمال بيتهوفن تدرَّس في أكاديميات الفنون في أوروبا أثناء حياته، وقد مارسَ هذا التعليم أثرًا في تلقيه.
بالإضافة إلى ذلك يتفاعل الفنان مع الجمهور بدرجات متفاوتة؛ طبقًا لمدى حساسية الفنان، وقدرته على توقع رد فعل جمهوره، بل وردود أفعال النقاد، وغيره من الفنانين في المجال نفسه، وخارج هذا المجال. يتفاوت الفنانون في هذه القدرة، منهم من يفهم سريعًا ما يطلبه الجمهور، ومنهم من لا يفهم ذلك إلا متأخرًا، ومنهم من يفهم ذلك لكنه لا يعيره اهتمامًا؛ وفي عمل احتفالي كبير أقرب إلى الإنتاج السينمائي كالسيمفونية مقارنة بموسيقى الحجرة مثلًا، لنا، وربما علينا، أن نتوقع اهتمامًا أكبر برأي المستمعين، لأن تذاكر حضورهم هي التي تمول الأوركسترا لتعزف هذا العمل.
لهذا السبب المادي قدم بيتهوفن فعلًا أولى ابتكاراته الأصيلة قبيل سن الثلاثين في موسيقى الحجرة أولًا، خاصة صوناتات البيانو؛ فإن الفشل فيها، بسبب جدة الإبداع، واغتراب الجمهور عنه للوهلة الأولى، لا يكون له عادةً عواقب وخيمة. لم يقدم بيتهوفن إبداعه الأصيل في مجال السيمفونية إلا بعد اطمئنانه إلى استقرار قناة معينة للتلقي الفني بينه وبين الجمهور. لهذا “نجحتْ” إيرويكا بمعايير النجاح في مجال السيمفونية آنذاك، فقد استحسنها الجمهور رغم غرابتها المبدئية، ورأى أنها تعبر عن روح عصر جديد. وجد الجمهور فيها ما يمكن التواصل معه من جمل لحنية رشيقة أنيقة جميلة، وما يمكن أن يتطلعوا إليه من تثويرٍ للموسيقى في سياق تداعيات الثورة الفرنسية والحروب النابليونية. باختصار ووضوح أكبر: وجد الجمهور فيها كلًا من هضم القديم، وتجاوزه، كحركة المشي، حين نقدم قدمًا ونؤخر أخرى، ثم العكس. ولهذا لم يكن من الممكن تقديم الجديد بنسبة مئة بالمئة، ولا التقليد الخالص كذلك. من ملامح التقليد في إيرويكا حضور اللحن القوي في الحركة الثانية مثلًا، وصيغة الصوناتا ثم الفوجه، وهي صيغ مستقرة حتى عصر بيتهوفن. لقد كان الجمهور “متمرنًا” حسيًا ونقديًا إلى الحد الأدنى الكافي لنجاحها.
حين يستمع ماركس إلى الحركة الأولى من إيرويكا، فإنه سيجد فيها الديالكتيك بالتأكيد، كما وجده هيجل منذ قليل. لكن الفارق أن هيجل قد أحال الديالكتيك إلى عالم الأفكار، أما ماركس فسوف يحيله إلى عالم المجتمَع. سيرى ماركس صورة نابليون في إيرويكا كما قدمتها البروباجندا النابليونية، وسيجد فيها فن البرجوازية. هي الملحوظة نفسها التي توقف عندها تولستوي فيما بعد بخصوص السيمفونية التاسعة في مقاله الشهير: ما الفن؟. إن تاسعة بيتهوفن تتغنَّى بالثورة الفرنسية البرجوازية في حركتها الرابعة، وقد حاولنا البرهنة على هذا الرأي في مقال سابق بعنوان لاهوت السيمفونية التاسعة. تغنى الألمان فعلًا بنشيد شيللر، الذي لحنه بيتهوفن للكورال والأصوات المنفردة في الحركة الرابعة، كنوع من تأييد الثورة الفرنسية والاحتفاء بها. يحيل النشيد إلى الإله في بعض المقاطع “فوق قبة النجوم مؤكدٌ أنه يوجد أبٌ حبيب”، بالإشارة إلى المسيح، لكن السياق إنساني، لا لاهوتي. يدور أغلب النشيد حول فكرة الإخاء والمساواة بين البشر، وهي قيم الثورة الفرنسية.
بينما وضع بيتهوفن سيمفونيته الثالثة، أولى سيمفونياته الناضجة، لمثال البطل، أو صورة نابليون الأولى المثالية، فإنه قد ألف تاسعته لتدور حول قيم الثورة نفسها، لا بطلها.
قد يرى ماركس في موسيقى بيتهوفن عمومًا تمثيلًا موسيقيًا للديالكتيك كما يمكن فهمه نظريًا، لكنه لن يتوقف عند ذلك الحد الذي توقف عنده هيجل. سوف يحيل ماركس العمل إلى ما خارجه من علاقات اجتماعية معقدة. سوف يفهمه في هذا السياق. عند ماركس لا يمكن أن يكتفي العمل الفني عمومًا بذاته، أو أن يحيل إلى نفسه. إذا كانت سيمفونية بيتهوفن الخامسة في نظر هيجل قادرة على خلق حالة القداسة بلا مقدَّس، فإنها في نظر ماركس تحيل بكل تأكيد إلى المقدَّس من خلال خلق حالة القداسة. لا توجد قداسة بلا مقدَّس في رأي ماركس. لدى ماركس تمارس الأفكار دورًا في المجتمع تمامًا كما تفعل الأدوات والمؤسسات. إنها “أشياء” ذات طبيعة خاصة في رأيه، وهي وسيلة للتحكم في سلوك المستهلِك، المستمِع في هذه الحالة، الذي هو مستهدَف منها.
إذا كانت إيرويكا تحيل إلى البطولة بلا بطل في نظر أدولف برنارد ماركس، فإنها تحيل إلى البطل من خلال البطولة في رأي كارل ماركس؛ ومن الصحيح أن رؤية ماركس تمارس نوعًا من نزع الأسطورة في الفن عن الأعمال والأبطال، وتطيح بعدد من مثلنا العليا، فإننا قد لا نتفق أبدًا، إنْ لم نتفقْ على أن هذا النزع يكشف لنا قارّةً مجهولة باطنة من الخفايا الاجتماعية، والاقتصادية والسياسية والدعائية، التي مارست دورًا في تكوين العمل، وتلقيه الجماهيري والنقدي، والتي تحركت غالبًا تحت سطح الثقافة والتاريخ.
لم يتوقف هيدجر وقفة تفصيلية عند الموسيقى عمومًا في نسقه الفلسفي الشاهق، الذي ربما يعد الأعقد في فترة الفلسفة المعاصرة (بدءًا من ١٩٠٠ ميلادية). لقد اعتبر هيدجر الشعرَ أرقى الفنون، مثَلَه في هذا كمثَل كانط وهيجل، والفارق أنه جعله ليس فقط أرقى فن، بل أرقى شكل ممكن من أشكال الوجود الإنساني نفسه. اللغة عند هيدجر هي التي تصنع كينونتنا، وبقدْر أصالتنا اللغوية قْدرُ وجودنا الأصيل. لنوضح ذلك في مثال بسيط نقول: فلنفرض أننا نحيا في القرن السابع عشر مثلًا، وأننا نشعر بتعكر مزاج يومي مستمرّ، فإننا نقول لكي نعبر عن ذلك: “أنا أشعر بالضيق بشكل مستمر”، ويكون الرد: “ممَ أنتَ متضايق؟”. أما لو أننا نحيا في أيامنا الحالية، في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، فإننا سنقول: “عندي اكتئاب”، ويكون الرد: “لا بد أن تبحث عن علاج، أو أن تزور طبيبًا نفسيًا”؛ فقبل تطوير مفهوم الاكتئاب لم نكن نبحث عن “علاج”، ولم نكن نشخّصه. هذا مثال بسيط لتأثير ابتكار المفاهيم، وتأثير الإبداع اللغوي على حياتنا، وهو تأثير عميق.
يرى هيدجر أن كينونتنا ككل تتحدد طبقًا للغة التي نستعملها على ذلك النحو؛ فإن الأمر غير قاصر على مفهوم أو اثنين، بل كل ما نستعمله للدلالة على تصورنا عن العالم هو الذي يحدد المُتَعَوْلِمَ بالعالم. في نظر هيدجر نحن نعيش في عالم من اختراعنا، لكنه ليس اختراعنا بالكامل، فالأشياء تفرض نفسها على الوعي، ثم ندخل معها في علاقة. الوجود إذًا عند هيدجر هو علاقة بين الوعي وبين موضوعاته. لذلك يمكن القول إن عالَمي يختلف عن عالَمكَ بقدْرٍ ما، وبشكلٍ ما. يمكن ذلك؛ لأن تصوري عن العالم يختلف عن تصوركَ ولو بقدر ضئيل، وغالبًا ما يكون بقدر كبير. السبب في ذلك هو تصوراتنا المختلفة، التي تحددها اللغة في هيئة المفاهيم.
في حالة الشعر، هو الرحم المتجدد للغة. في الشعر نعيد بناء اللغة، أو كما يصف ذلك الشكلانيون الروس: الشعر هو تشويهٌ ممنهَجٌ للغة. إنه تشويه متعمَّد منظَّم بآليات معينة لخلق لغة جديدة. الهدف من ذلك هو فتح مساحات بكْرٍ جديدة في الوعي والشعور للتعبير عما هو جديد من تصوراتنا عن الوجود. لا معنًى لشِعر لا يكتشف شيئًا بالمعنى الواسع لكلمة اكتشاف. قد يكون ذلك الاكتشاف بسيطًا يوميًا، كأثر غيمة عابرة في السماء، كما كتب وديع سعادة مثلًا، وقد يكون اكتشافًا جذريًا بحيث لا تكفي الدماء للتعويض عن الدماء، وبحيث لا يعوض الدم سوى العدم، كما كتب أمل دنقل في “لا تصالح”. قد يكون كشفًا عن طريق تصوير، أو اختيار موضوع لم يتوقف إزاءه التقليد الشعري، وقد يكون حفرًا في اللغة نفسها بشكل مباشر، وإعادة نظمها، وصرف موادّها، كما نجد في شعر عفيفي مطر مثلًا. على هذا النحو فإن الشاعر مسئول عن اللغة، وطالما كان الشعراء هم المسؤولون عن اللغة، فإنهم بحسب هيدجر صُنّاع العالَم على الحقيقة.
بقدر ما يمكن اعتبار الموسيقى لغةً بقدْر دورها، الذي تؤديه في إعادة خلق العالَم. لقد كتب كثيرون، إلى درجة تفوق الحصر في مقامنا الحالي، عن العلاقة بين الموسيقى واللغة، وإلى أي حد يمكن اعتبارها لغة. خلاصة ذلك أن للموسيقى بعض أدوات اللغة؛ فهي تكتَب على هيئة المدونة الموسيقية، وهي تتمتع بعلامات دالّة، لها مدلول في الواقع، كسرعة العزف، ونوعه، وطول الوحدة الإيقاعية … إلخ، لكن كل ذلك تعليمات للعازف نفسه كي يؤدي المقطوعة الموسيقية، لا الموسيقى نفسها. قد لخص أدورنو هذه العلاقة بين الموسيقى واللغة في اللغة والموسيقى والتأليف في عبارة موجزة: “لكي تفسِّر اللغةَ عليكَ أن تَفهمها، أمّا لكي تفسرَ الموسيقى فعليك أن تؤديها.”
لا يمكن عقد علاقة سببية بين الموسيقى واللغة فيما اطلعنا عليه من أبحاث في هذا الموضوع، على كثرة المحاولات فيه. كل ما يمكن أن نصل إليه هو عدد من التشابهات، التي لا تعني التطابق في الوظيفة والآليات وموضوع التعبير على كل حال. لكن الظاهرة التي يتوقف إزاءها أدورنو هي الموسيقى الرومانسية بدءًا من بيتهوفن، وربما بيتهوفن بالذات. ذكرنا فيما سبق كيف اعتبر أدولف ماركس سيمفونية بيتهوفن الثالثة بما هي تعبّر لأول مرة في تاريخ الموسيقى المعروف عن فكرة موضوعية. كذلك اللغة تعبر عن الأفكار الموضوعية، ولهذا يرى أدورنو – دون إحالة إلى أدولف ماركس – أن الموسيقى منذ بدايات الرومانسية قد اقتربت من وظيفة اللغة، واتجهت بعد قرون من التلاعب الشكلي إلى التعبير عن أفكار. هذه نقطة.
يعرف العازفون كيف أن بيتهوفن قد أصاب المقامات في مؤلفاته بكل درجات الأورام الخبيثة؛ فإنه يكفي أن ننظر إلى مدونات أعماله لنطالع كل هذه التحويلات المقامية الكثيفة. كانت لهذا علة؛ فإن بيتهوفن كان يعتمد على الجملة الموسيقية أكثر من اللحن المكتمل؛ وذلك بهدف أن يتمكن من التركيب والتفكيك إلى الحد الأقصى دون أن يضحّي بالجملة اللحنية. ولأنه كان يعتمد على وحدات صغرى، هي الجمَل، فقد تكاثرت تحويلاته المقامية إلى حدٍّ أزعجَ العازفينَ في عصره. لقد كان التحويل المقامي دائمًا جانبًا أصيلًا في التأليف، لكن نظرًا لأن موسيقيي ما قبل بيتهوفن قد اعتمدوا على الجسد الكامل للحن، فلم تكن تحويلاتهم المقامية بهذا التكاثر السرطاني. لكن هذه الظاهرة نفسها – ظاهرة التكاثر النسبي للتحويلات عند بيتهوفن – قد أنتجت ظاهرةً جديدة متفردةً. لقد صنع بيتهوفن بالتناقض المقامي الدائم نغمًا متوترًا جديدًا، يعبّر عن مناطق جديدة في الشعور. شعر الناس بهذه الظاهرة، شعروا أنها موسيقى “جديدة”، وذات موضوع جديد بشكل ما، لكن أغلبهم لم يفهم سببها. حين نستمع مثلًا إلى افتتاحية إيجمونت بعدما نطيل الاستماع إلى افتتاحيات موتسارت مثلًا، فإننا نجد في أنفسنا مشاعرَ جديدة. هنا توقفت الموسيقى عن محاكاة المشاعر الموجودة، وبدأت في خلق مشاعر كانت من قبلها معدومة. هذه نقطة ثانية.
من النقطتين: اتجاه الموسيقى أولًا بدءًا من بيتهوفن في رأي أدورنو إلى التعبير عن الأفكار كما تفعل اللغةُ، واتجاهها ثانيًا بدءًا من بيتهوفن أيضًا إلى اقتحام مناطق بكْرٍ في الشعور، يمكن القول إن موسيقى بيتهوفن قد استطاعت بشكل ما، وربما بشكل غير مقصود، أن تؤدي وظيفة الشعر في إعادة خلق العالَم كما اعتقدَ هيدجر. لقد صارت الموسيقى على يد بيتهوفن أقرب إلى اللغة من جهة موضوع التعبير، كما صارت أقرب إلى الشعر تحديدًا في قدرته على اكتشاف تصورات أصيلة جديدة. الفارق الأساسي أن الشعر يعبّر عن موضوعه على وجه التعيين؛ فهو قادر مثلًا على التعبير عن اليومي والعابر في مواقف بسيطة عينية، يحددها زمان ومكان معينان، أما الموسيقى فلا تعبر عن موضوعها إلا على نحو التجريد، ولا يمكن لها أن تنقل لنا بذاتها دون مصاحبة كلمات أو برنامج مقروء موقفًا ما بمعنى كلمة موقف.
مع ذلك تقترب موسيقى بيتهوفن أكثر من الشعر الأصيل حين ندرك أنها كذلك عبّرت عن موضوعاتها المجردة، البطولة مثلًا في إيرويكا، أو القدر في السيمفونية الخامسة، أو الإنسانية في السيمفونية التاسعة، بشكل مختلف عما كان سابقًا، وعما صار لاحقًا. مثلًا نجد أن فكرة البطولة عند بيتهوفن في إيرويكا لا تخلو من عنصر الفداء قطّ. قارن مثلًا هذا العمل بأعمال بطولية أخرى لاحقة على بيتهوفن في سياق الرومانسية المتأخرة، وما بعد الرومانسية، وستجد أن تلك الأعمال التالية، كمؤلفات تشايكوفسكي وفاجنر ورحمانينوف، وسيبيليوس وريتشارد شتراوس وكارل أورف، كلها قد ركّزت على عنصر القوة الصاعقة والكفاح، لكنها لم تقدم عنصر الفداء والاستشهاد في النسيج نفسه. أكثر من ذلك: إن بطولة إيرويكا تتكون من عناصر أساسية لا تقوم بدونها: القوة، الفداء، الألم، الفروسية، والبراءة. هذا العنصر الأخير، البراءة، عنصر لافت للنظر حقًا في سياق التعبير عن البطولة؛ فنحن عادةً لا نعتقد أن البطل بريء كالأطفال. لكن بيتهوفن قدم فعلًا عدة إنماءات للحن الأساسي في الحركة الأولى لا يمكن أن تفضي إلا إلى هذا المعنى، كما يمكن للقارئ أن يعود إلى لحن الابن في كودا الحركة الأولى المذكورة سابقًا في العرض التحليلي.
البطولة عند بيتهوفن يجب أن تكون ناصعة البياض، يجب أن تكون بريئة ربما إلى درجة السذاجة أحيانًا. ليس هذا وحسب، أي ليس عنصر البراءة وحده هو الإضافة، بل كذلك العلاقات الداخلية بينه وبين عناصر البطولة الأخرى. حين تُضاف البراءة إلى الفروسية، بما تتضمنه الأخيرة من أناقة، وتضحية، وثبات على المبدأ، تصنع لنا تناقضًا فريدًا بين الطفولة والنضج. هذا التناقض هو ما ينجم عن النغم المتوتر سابق الذكر. إن موسيقى بيتهوفن عمومًا، وخاصة مرحلة الشباب والنضج بين ١٨٠٣ و١٨١٢ تقريبًا، لا تكاد تخلو من هذا التناقض بين مشاعر وأفكار مندمجة في أطروحة مركبة جديدة، تشعرنا بمشاعر متناقضة جديدة، وتخلق لدينا تصورات أصيلة. يمكن تمثيل ذلك – على سذاجة المثل – بأول فنان فكّر في خلط الأحمر مع الأزرق ليتكون لديه لونُ البنفسج للمرة الأولى في سياق فنه. كذلك خلط بيتهوفن المشاعر، ونظَمها في نسيج واحد، ليصنع منها مزيجًا جديدًا.
ولا يمكن فهم كينونة الإنسان في رأي هيدجر إلا في سياق الزمان. لقد اعتبرَ هيدجر الزمانَ السياقَ التأويلي للكينونة. في مسار الزمان، مسار الصيرورة، تنفضّ كينونة الإنسان الفرد أمامنا كالزهرة التي تتفتح. استعمل هيدجر فعلًا تعبير الانفضاض الألماني (Entfaltung) في مؤلفه الأساسي الكينونة والزمان. الفرق بينه وبين من سبقه من الفلاسفة إلى بحث هذه الظاهرة، ظاهرة الكينونة الإنسانية، أن سابقيه قد فكروا في الإنسان عمومًا، لا الإنسان الفرد. حين نقول “الإنسان عمومًا” فنحن أولًا نتحدث عن كائن تخيلي، فما نراه ونختبره هم الأفراد، لا الإنسان الكلّيّ، ونحن نتحدث ثانيًا عن ظاهرة سرمدية لا يجري عليها التحوّلُ خارج الزمان أو فوقه.
حين يطالع هيدجر، كما فعل مع الشعراء الألمان، موسيقى بيتهوفن، فإنه سيحاول استكناه كينونته الفردية من خلال أعماله. سيتصور هيدجر من خلال إيرويكا بيتهوفنَ نفسَه، لا نابليون بونابرت. إن بونابرت لم يكن البطل الذي اعتقده بيتهوفن. لقد خان الثورة، واستغلّها لمنفعته الشخصية. لم يكن بيتهوفن يعرف بونابرت شخصيًا، ولم يقابله، ولم يؤلف له بعد وفاته مارشًا جنائزيًا كالذي ألفه له أثناء حياته. ذلك هو المارش الجنائزي، الذي يعتبره روبرت مندل في سيمفونية إيرويكا أفضلَ ما وضع في الموسيقى الجنائزية على الإطلاق. لقد قام بيتهوفن بصوغ تصور مثالي لا وجودَ عينيًا له من خلال السيمفونية. لقد صنع – مع مدّ هيدجر على استقامته – تصورًا عن كينونة إنسانية مثالية تتألف من عناصر البطولة المذكورة أعلاه، وتنفضّ أمامنا في زمان إنماءات السيمفونية الغزيرة المبتكَرة، تتفتح في الزمان الموسيقيّ.
نحن لا نصنع تصورات مثالية لا نريد أن نكونها، وإلا ما كانت في اعتبارنا مثالية. من هنا نستنتج أن هيدجر يكتشف في إيرويكا بيتهوفن كما تخيل بيتهوفنُ نفسَه بنفسه، وربما كما حاول أن يكون بطلًا بريئًا في سيمفونيته الخامسة فيما بعد في صراعه مع القدر. إذا كان بيتهوفن في نظر كارل ماركس نتاج البروباجندا النابليونية، فإنه في رأي هيدجر هو نابليون نفسه، كما تخيله، وكما تمنى أن يكون، أو يصير.
تعني الموسيقى ككيان ذلك التصور عن الموسيقى باعتبارها كائنًا مضافًا إلى العالَم ذا طبيعة خاصة، تفرقه عن بقية الموجودات. كان هذا التصور بعيدًا عن منال أغلب الفلاسفة بطبيعة الحال؛ لأن افتراض طبيعة خاصة للموسيقى بما هي كائن، وليست بما هي فِعلٌ لكائنٍ، أي ليست بما هي صنيعة الإنسان، يتطلب بحثًا أساسيًا في فلسفة الوجود. فعلًا لا يمكن في هذا السياق سوى أن نعد على أصابع اليد الواحدة.
أول من سنتعرض لهم بالترتيب التاريخي هو الفيلسوف العربي أبو يوسف يعقوب بن إسحق الكندي. كنا قد تعرضنا للكندي بالتفصيل، في كل مؤلفاته الموسيقية المتبقية والمحققة، في مقال فلسفة الموسيقى العربية. لذلك لن نكرر كل ما قيل فيه. أهم ما يخص سياقنا من جهة الكندي هو اعتباره للموسيقى كوسيط للتأليف بين النفس، أو الروح، من جهة، وبين عناصر المادة المعروفة في طبيعيات العصر الوسيط من جهة أخرى: الماء، والهواء، والتراب، والنار، والأثير. بهذه الفكرة يمكن تأويل نظرة الكندي للموسيقى بما هي مادة مختلفة، أو وسيط بين الروح، والجسد، أو باصطلاح أكثر حداثة وسيط بين المادة والطاقة.
يقول إدْ هاريس في فيلم نَسخ بيتهوفن: “إن الإنسان لا يصل إلى الله بعقله، بل إن أمعاءه تلتف، وتلتف، حتى تصل إلى السماء.” بالفعل جرى اعتبار موسيقى بيتهوفن دنيوية من قبل الكثيرين، ومن أشهرهم هرمان هيسه في مقدمة لعبة الكريات الزجاجية. هي ليست دنيوية فقط بمعنى علمانية، بمعنى كونها تعبر عن الأرض أكثر مما تطمح إلى السماء، بل كذلك باعتبارها معبرة عن القبح، والمأساة، والتناقض الأصلي في الأشياء، بعد أن كانت موسيقى هايدن وجلوك وموتسارت وسالييري تتغنّى بالنعمة، والحب، والألوهة، والجمال. كان لقب موتسارت هو آماديوس، أي المحبوب من الإله، أما لقب بيتهوفن فكان الوَحْش؛ والفارق واضح.
لكن ما جعل لموسيقى بيتهوفن قيمة روحية بعد كل هذا، وبرغم كل هذا، هو أنها لم تتجاهل الضعف والقبح، والنقص الأصلي في الإنسان. لقد وجّهَ بيتهوفن الموسيقى لأول مرة لتدور حول شخصية تاريخية معاصرة، نابليون بونابرت، وهي مغامرة؛ فأنْ تعبّر عن المسيح السرمدي أسهل كثيرًا من أن تعبر عن بونابرت. السبب هو أن رَهْن الموسيقى بالمحدود، المتعين، الناقص، ينطوي على خطورة أساسية، هي توظيف المجرد اللا محدود، أي الموسيقى الخالصة، في مجال التعبير عن المتعين المحدود. فإذا انحرف هذا المحدود، أو اختلفت آراؤنا بصدده، وهو وارد بحكم كونه محدودًا في الأصل، فإن الموسيقى تفقد موضوعها. حدث هذا فعلًا بالنسبة لإيرويكا؛ فقد انحرف بونابرت عن مسار الثورة، وخاب أمل بيتهوفن فيه، فاضطر لشطب اسمه، وكاد يمزق السيمفونية كلها، ثم اكتفى بتغيير عنوانها كما هي القصة المعروفة.
مع كل ذلك نجحت هذه السيمفونية في تحقيق خاصية مميزة، هي أنها صارت هي نفسها شهادة تاريخية، غاصت في أحشاء التاريخ، وارتفعت بها، عن طريق مثل البطولة الأعلى، نحو سماء إنسانية. لعل الكندي يجد في مثل هذا العمل صلة بين ما تحت فلك القمر، وما فوق فلك القمر. لعلها في اعتباره تكون هي نفسها فلك القمر (الملك جبريل في اصطلاح فلاسفة الإسلام)، ذلك الذي يشرق على الناس بالمعرفة، التي يستمدها من الأفلاك العليا. بيتهوفن في هذه السيمفونية، وفي أغلب أعماله الناضجة، وبناء على ما سبق، وسيط بين الجسد على نقصانه وقبحه، وبين الروح، بين الأرض بمادتها الثقيلة المعتمة، وبين السماء بأثيرها اللطيف الشفيف.
تحدثنا كذلك في المقالات السابقة المشار إليها في متن المقالة الحالية، وهوامشها، عن فلسفة شوبنهور في الموسيقى. يمكن القول إن شوبنهور هو مؤسس فلسفة الموسيقى كما نعرفها اليوم. يتساءل كثير من الناس: لماذا لم تظهر فلسفة في الموسيقى بالمعنى الدقيق، وبالنحو المسهب قبل شوبنهور في القرن التاسع عشر؟ لماذا لم يهتم بها كانط أو هيجل أنفسهما؟ ربما كان هذا السؤال هو إضافة هذا المقال بصدد شوبنهور. الواقع أن السؤال محدود جدًا؛ فلماذا لم يهتم بها كذلك أفلاطون أو أرسطو أو أفلوطين، وجعلوها في قاع الفنون؟
الحقيقة أن الموسيقى نفسها عند الإغريق، ثم في العصر الوسيط، وحتى القرن السابع عشر الميلادي، لم تكن منفصلة إلا لمامًا عن الشعر. كان تعريف الموسيقى نفسه مختلفًا؛ فالموسيقى لدى الإغريق هي الغناء ببساطة. لدرجة أن الخط الأفلاطوني-الأرسطي-الأفلوطيني استبعد موسيقى الآلات من الموسيقى العقلية (musica intellectualis)، أي التي تتمتع بوظيفة روحية أو تربوية. لا نعرف على نحو دقيق، كافٍ للحكم، أية معلومات ذات قيمة عن موسيقى الإغريق إلى اليوم، ولا كيف كانت تؤدَّى، وهل كانت لها أشكال؟ غالبًا لا؛ وإلا نقلها لنا النقاد القدماء، والموسيقيون، والفلاسفة. بالتالي كان الفكر الموسيقي عمومًا منذ بدايات الفلسفة الموثَّقَة في القرن السادس قبل الميلاد في أوروبا، وحتى القرن السابع عشر الميلادي، يدور حول التفاعل بين الصوت البشري والآلة الموسيقية، ومضمون الشعر المغنَّى. وإذا دار حول موسيقى الآلات افتراضًا فكان يدور حول الإيقاع، الذي هو أهم ما في الموسيقى بالنسبة لأفلاطون وأرسطو وأفلوطين، وذلك لتحقيق الانضباط عند الأوَّلَيْنِ، والتناغم مع إيقاع الكون عند الثالث.
لم تتطور موسيقى الآلات بشكل مستقل عن الشعر إلا في القرن السابع عشر، حين خرجت من شرنقة الكنيسة، وتحولت إلى لسان مستقل للتعبير عن الأفكار والمشاعر، دون حاجة إلى المضمون الشعري. بالتالي فقد وصلت موسيقى الآلات الناضجة فعلًا إلى كانط، وهيجل: الكونشرتو، والسيمفونية، والصوناتا، والرباعي، وهي أهم الأشكال أصلًا في الموسيقى الخالصة. لكن لدى كل من كانط وهيجل احتل الشعر المرتبة الأولى بين الفنون لسبب بسيط؛ هو قدرته على التعيين، تعيين المعنى، أما الموسيقى الخالصة فهي تفتح الباب لكل تأويل. ما يمكن تلخيصه تحت: الموسيقى فن شكلي بحت بلا مضمون؛ وهي المسلمة التي قام عليها كل الفكر الموسيقي من أفلاطون حتى هيجل مع التتبع المسحي.
لم تنشأ فلسفة يافعة للموسيقى بهدم هذه المسلمة، بل باستكشاف طاقتها على يدي هانسْلِك وشوبنهور: الإطار الفارغ المتحرك يعبّر عما لا يمكن التعبير عنه، ولهذا يبدو بلا تعيين. لم يستطع هانسلك، الذي كان ناقدًا لا فيلسوفًا، التوصلَ إلى ماهية هذا الذي لا يمكن التعبير عنه، تلك الماهية التي توصل لها شوبنهور: حركة الإرادة البحتة، بلا مُراد. هكذا ولدت فلسفة الموسيقى بشق بطن هذه المسلمة، واكتشاف أغوارها، على يدي قيصر الفلسفة الألمانية: شوبنهور.
قد ينزع البعض إلى الاعتقاد الخاطئ في أن شوبنهور قصد إلى أن الموسيقى تعبّر “عن” الإرادة، مثلما عبرت إيرويكا عن فكرة البطولة؛ وهو اعتقاد غير دقيق البتة. لم يعتقد شوبنهور أن عملًا موسيقيًا معينًا يعبر عن الإرادة، كما عبرت إيرويكا بعينها عن البطولة. لقد رأى شوبنهور أن الموسيقى ككل، أيّ موسيقى، هي الصورة المباشرة للإرادة، وأن الإرادة هي جوهر هذا الوجود، من الجمادات، مرورًا بأولى الكائنات، ووصولًا في النهاية إلى الإنسان نفسه، حتى وجدت تعبيرها المباشر عن نفسها في الموسيقى من خلال الإنسان. إذًا فالإنسان عند شوبنهور ليس هو الذي يوظف الموسيقى لتعبر عن الإرادة العمياء، بل الإرادة هي التي توظفه لتعبر عن نفسها بالموسيقى.
الفكرة هنا أن حركة اللحن صعودًا وهبوطًا على المقام، وما يتركب من هاتين الحركتين من أنماط لا نهاية لها تقريبًا من الحركة، تحاكي حركة الإرادة في القبول، والرفض، والشهوة، والزهد. هي فكرة ذات وجاهة إذا حاولنا تخيلها مع أي لحن؛ وهي فكرة مبتكرة حقًا، ربما سبقه إليها غيره. يعتبر أفلاطون وأرسطو مثلًا الموسيقى فعلًا معبرة عن حركة الإرادة، ومن هنا دورها التربوي في تهذيب تلك الإرادة. كان تميُّز شوبنهور في تحويله لهذه الفكرة لتكون وحدها منظورًا لتفسير الوجود الحي وغير الحي. عن طريق هذا المنظور، مذهب شوبنهور المتكامل، اكتسبت الموسيقى فجأة في سياق المثالية الألمانية، وفي سياق الفلسفة عمومًا، مكانة عليا، لم تتوصل إليها من قبل في أي مذهب. لقد صارت الموسيقى تجليًا مسموعًا لقانون الوجود صراحة دون تأويل عند شوبنهور.
إذا كانت موسيقى هايدن وموتسارت تتحرك كالساعة في بنية دائرية، بحيث تعيد نفسها، فإن موسيقى بيتهوفن لا هدف لها فعلًا إلا التطور. إن شيئًا في موسيقى بيتهوفن لا يستعاد كما هو أبدًا. لهذا قلنا فيما سبق بخصوص هيجل وماركس إن نمط بيتهوفن جدلي، تطوري، لا يستعيد شيئًا كما كان، ولا يخلق شيئًا من العدم. لهذا، وبرغم اهتمام شوبنهور الأكبر نسبيًا بموتسارت، فإن موسيقى بيتهوفن ربما كانت المعبرة إلى حد أكبر عن حركة تلك الإرادة؛ ففيها الشدّ، والدفع، والصدام، والتوافق، وتسعى ككل نحو أقصى مراحل التطور.
حين نسمع الحركة الأولى من إيرويكا فإننا كما ذكرنا سابقًا لا نجد تمام الجملة الأولى إلا في نهاية الحركة، حين تتخذ أخيرًا شكل اللحن المصطلح عليه. إنها قصة تطور اللحن، لكنه ليس تغيرًا عشوائيًا، إنه يريد ذاته، يريد اكتماله، وكماله. ربما سمع شوبنهور الإرادة وهي تتكلم من خلال هذه الموسيقى، كما رأى فيها هيجل الجدل أمام عينيه.
تتلمذ نيتشه، كما هو معروف، على يد شوبنهور فلسفيًا، ومنه اقتبسَ فكرة الدور الجوهري للإرادة العمياء في الوجود. لكن الفرق بينهما أن نيتشه استعمل هذه الفكرة لنقض الفلسفة العقلية، وهدمها، منذ سقراط إلى هيجل. يعتقد نيتشه في قوتين أساسيتين محركتين في العالم: الإرادة، والعقل، وأن السبب في انحدار الغرب هو ميل الحضارة إلى العقل، أي إلى فرضية كون الحقيقة بالضرورة معقولة، ومتسقة منطقيًا، وهو ما أدى في رأيه إلى إهمالنا لدور إرادة الحياة فينا، والتي يحكمها قانون الانتخاب التاريخي. لهذا اتصل نيتشه بدون قصد منه بالحركات الفاشية، وأشهرها طبعًا النازية. حتى الرئيس المصري الأسبق أنور السادات قد قال ذات مرة – والمصدر هو سيرة حياتي لعبد الرحمن بدوي – إنه ما كان ليحقق انتصار ١٩٧٣، المتمثل أساسًا في عبور القناة، لو لم يقرأ كتاب نيتشه لعبد الرحمن بدوي. وصِلة أنور السادات بعملاء النازية في مصر في عهد الرايخ الثالث معروفة على أية حال. المقصود أن فلسفة نيتشه قد رفعت دور الإرادة على العقل، ولم تجعلها كإرادة شوبنهور عمياء، بل بصيرة، ومركز إبصارها مسلَّط طيلة الوقت والتاريخ على القوة وحدها.
في بيتهوفن طابع همجي أكيد، لكنه ليس ظاهرًا للعيان مع كل قادة الأوركسترا. ربما كان هربرت فون كارايان من القديرين على إبراز ذلك الطابع. كما قرأت مرة تعليقًا مثيرًا للانتباه عن قسم التفاعل في الحركة الثالثة من إيرويكا، يقول إن بهذا القسم حركة همجية تنافس طقوس الربيع لسترافنسكي، وهو باليه موضوع أصلًا ليصور طقوس الخصوبة البدائية. هذه الهمجية، وربما الوحشية البهيمية، التي يتعرض لها بطل بيتهوفن في كفاحه التراجيدي في إيرويكا هي حلقة من حلقات الصلة المهمة مع فلسفة نيتشه. في الواقع سيجد المستمع المخضرم لبيتهوفن فيه تلقائيًا صراع الإرادات، والتلهّف على تحقيق النصر، ورفع رايته على أعلى المواقع. لكن ما سيعيق نيتشه عن تحقيق فلسفته في بيتهوفن هي مُثل بيتهوفن الجمهورية نفسها، والتي لم يتخلَّ عنها حتى السيمفونية التاسعة كما قلنا، وحتى مماته. في رأي نيتشه لا يمكن أن تكون هناك مثُل عليا فوق الطبيعة، أو فوق التاريخ، وإنما هو صراع لا ينتهي إلا بانتصار طرف وحيد في النهاية، دون أية غاية خُلُقية، أو سياسية. باختصار يتعارض فكر نيتشه بشدة مع فكرة نهاية محددة للتاريخ، أو حتمية معينة له يمكن تعقلها، كما فعل هيجل وماركس من قبل.
هكذا اصطدمت الأطروحة النيتشوية بعد تمثلها في النازية، مع الأطروحة الماركسية بعد تطبيقها في الاتحاد السوفييتي حديث التأسيس. اصطدمت الإرادة بالعقل في أشد معارك التاريخ دموية، معركة ستالينجراد؛ وقد فاز العقل في النهاية. لكن كيف تمثل ذلك الصراع موسيقيًا؟ إن الموسيقيين البطوليين الفاشيين مثل ريتشارد شتراوس، وكارل أورف، وفاجنر (الذي كان معاديًا للسامية)، ويان سيبيليوس، والذين تقلدوا مناصب مهمة في ألمانيا النازية، كانوا أقرب بالتأكيد من بيتهوفن إلى التعبير عن الفكر الفاشي، والفكر النيتشوي؛ وذلك كما ذكرنا آنفًا بسبب التركيز لديهم على عنصر القوة والصراع، وهي مفاهيم نيتشوية راسخة. في المقابل كان موسيقار الاتحاد السوفييتي، موسيقار الماركسية الأول أثناء الحرب العالمية الثانية، هو ديمتري شوستاكوفيتش. وضع شوستاكوفيتش سيمفونياته لتخلد ذلك الصراع الدامي كسيمفونية ليننجراد وسيمفونية ستالينجراد، الذي تحول إلى صراع موسيقي حقيقي، وانتخاب موسيقي-تاريخي، بينما كان الرايخ الثالث يحتفي بأعمال كارل أورف.
كما انتصرت الماركسية على النازية، انتصر شوستاكوفيتش على كارل أورف وفريقه من الفاشيين. ونلاحظ هنا أن من احتفى بموسيقى بيتهوفن، في خضم كل هذا الصراع الدامي، كان الحلفاء، الذين كانوا يذيعون سيمفونية بيتهوفن الخامسة دلالة على قرب الخلاص، وضرورة المواجهة. السبب بالطبع هو مثل بيتهوفن السياسية العليا، مُثل الثورة الفرنسية الليبرالية، والتي توافقت تلقائيًا مع أيديولوجيا الحلفاء العامة.
مع ذلك كله يحتاج نيتشه، مثلما يحتاج شوبنهور أيضًا، أن يعيد الاستماع لبيتهوفن بأذن جديدة. يحتاج كل منهما أن يستبصر تلك الطاقة المكبوتة، والتي يعبر عنها بالطبقات المنخفضة غالبًا: الطبل الكبير، والباص، والتشيلّو، خصوصًا. تلك الطاقة التي توشك دائمًا على التفجّر، فمن خواص بيتهوفن الأساسية هو التوزيع الكامل المتوازن على كل آلات الأوركسترا، فنادرًا ما تصمت آلة واحدة من الآلات في أعماله. ربما وجد كلٌّ من شوبنهور ونيتشه في أوركسترا بيتهوفن إلهًا يقفز مِن كل آلَة.
لماذا يجب على الفيلسوف أن يستمع إلى بيتهوفن أيًا ما كان مذهبُه؟ إن موسيقى بيتهوفن هي إحدى أهم العمارات التي أنشأها البشر إلى جوار نسق هيجل، والمعابد الفرعونية، والعمارة الإسلامية، والقوطية، ونظرية النسبية، وغيرها من التراكيب المعقدة المهولة، التي تصيب من يقترب منها بالرهبة، ويشعر بأنه لا يمكن أن يحيط بها بنظرة واحدة. كما كان القرآن بالنسبة للشعر قبل الإسلام وبعده نصًا فائقًا، أي النص الذي لا يمكن الحكم عليه بلاغيًا، أو فهمه بالكامل، بمنهجية واحدة أبدًا، فإن موسيقى بيتهوفن بقدر ما احتوته من معمار بالغ التعقيد من جهة، وعالي الانسيابية والتلقائية من جهة ثانية، ومتنوع التجارب من جهة ثالثة، فقد صارت من مصادر حركات تجديدية متنوعة، ومختلفة إلى حد التناقض: خرج من معطف بيتهوفن شوبرت، وشومان وبرامز وفاجنر، وتشايكوفسكي وليست وشوستاكوفيتش، وغيرهم. لم يُحِط أيٌّ منهم بمعمار بيتهوفن بكامله بنظرة واحدة، ولا استطاع أن يحاكيه، فقد كان بيتهوفن الأصلَ، الذي تفوق على كل من حاولوا محاكاته راجع مقال بيتهوفن الصمد على معازف، الفقرة: ١٠- كان أفضل مِن كل مَن قلّدوه.. بهذا صار بيتهوفن موسيقى فائقة، ذات أبعاد أكبر من استيعابنا الكامل لها بنظرة واحدة، وتشتمل في ذاتها على مذاهب موسيقية متنوعة ومتضادة في وحدة واحدة.
الفلسفة معمار نظري، وأقدر الفلاسفة على التأثير في التاريخ كانوا إما بُناة معمار كهيجل وماركس، أو هادمي معمار كنيتشه. إن موسيقى بيتهوفن تدرب عقل الفيلسوف على البناء المُشَيَّد، وعلى تلقائية التعقيد، وعلى طول النفَس، وعلى الكمال البنائي، وعلى التخطيط بعيد المدى. كان أفلاطون يؤمن أن الإيقاع أهم خواص الموسيقى بسبب قدرته على غرس طبيعة النظام في عقل النشء على المستوى اللاشعوري كما قال في الجمهورية والقوانين. بالمثل يعمل بيتهوفن على المستوى اللا شعوري عند الفيلسوف؛ يغرس فيه آليات التوفيق بين النقائض في نسيج واحد، والقدرة على التأليف بين الأفكار والنظريات والمفاهيم، ويستحضر فيه صورة النظام المحكَم، مهما تكاثرت تفاصيله، ومهما تضخمت أحجار بنائه، فهو في النهاية محكوم بخطة صارمة، لا تضحي بالجمال في سبيل النظام، ولا تتميع، وتتناثر، في سبيل تواصل أسرع مع المستمع.
إن بيتهوفن مثال على المعماريّ، الذي عرف كيف يصل إلى جمهوره، لكنه لم يسع إلى ذلك كهدف أوّل. وعلى الموسيقار والفيلسوف كليهما أن يخوضا هذا الاختبار؛ فمن يسعَ إلى الجمهور سعيًا كاملًا سيفقد آثاره الباقية بعد رحيل الجمهور، ومن يفقد آثاره، يفقد التاريخَ.