يا مصر قومي | الغناء الثوري المصري عبر قرن

يا مصر قومي | الغناء الثوري المصري عبر قرن
تحميل...

النص التالي ترجمة مختصرة لمحاضرة مشتركة للكاتبين ألقيت بالفرنسية في باريس عام ٢٠١٢ (يشي التاريخ بنبرة التفاؤل التي كانت سائدة آنذاك) ونشرت بالإنجليزية لاحقًا في كتاب Music, Power and Liberty. يتسنى اختصارها، وبالتالي إدخال بعض التحوير عليها، لعدم ضرورة الإطالة في تفاصيل مألوفة لدى الجمهور العربي.


في البدء كان التنبه إلى أن أغنية ثورية سبقت أو عاصرت كلاً من المراحل العاصفة الثلاث في مصر منذ العقد الثاني من القرن العشرين إلى اليوم. فالأغنية الثورية جزء من التقليد الغنائي الشعري المصري، دون أن ننسى المحاولات المعاصرة في الغناء المعترض على الوضع الاجتماعي والسياسي، إلا أن بالإمكان التعمق والإشارة إلى مساهمة التراث الموسيقي في هذه الأغنية الثورية وكيف تفاعلت مع الإسهام الشعري الثوري.

١٩١٨ ـ ١٩٢٣ | سيد درويش

شهدت المرحلة الأولى ظهور سيد درويش مع توأمه بديع خيري (على ألا ننسى المظلوم الآخر أمين صدقي) بالتزامن مع ثورة ١٩١٩. قبل سيد درويش كان الغناء الوطني مقتصرًا إما على المارشات العسكرية أو على قصائد المديح في الزعامات المغناة على أصول طرب عصر النهضة. حرر سيد درويش هذا الغناء من نبرته العسكرية وأدخل جملة موسيقية حيوية وقصيرة ثرية في مناخها المقامي وفي التلاعب المرح مع كلمات مكتوبة بالعامية، مميزاً بذلك أغنيته على الصُعُد الثلاث معًا عما سبقه.

شكّل استخدام سيد درويش للمسرح أساسًا لعمله ذي النبرة الانتقادية سياسيًا واجتماعيًا قطيعة مع النموذج الذي فرضته شركات الأسطوانات منذ مطلع القرن العشرين وحتى ظهور الإذاعة في الثلاثينيات، وإن شكل نجاحه المسرحي حجة تجارية أقنعت الشركات بالتسجيل له. فالمسرح كان الفن الطليعي آنذاك وكان يسمح بالتعبير عن أوضاع ومشاعر أوسع من انحصار الطرب الجمالي في المجال العاطفي. ولئن كان الشيخ سلامة حجازي طليعة من حاولوا المواءمة بين المسرح والغناء التقليدي المتقن، فإن اجتماع الفن المسرحي إلى التطورات السياسية والاجتماعية في مصر وبزوغ الشعور الوطني في أواخر القرن التاسع عشر وصولاً إلى ثورة ١٩١٩ ودور الحرب العالمية الأولى في تسريع هذه التفاعلات، سمح لعبقرية سيد درويش بأن تلمع وأن تستخدم الطقطوقة غالبًا كحامل للمشروع الثوري من خلال كلمات بديع خيري والمواقف المسرحية الساخرة المصورة لمختلف جوانب العيش في الريف والمدينة.

https://youtu.be/CizQ-RNdFOc

في مونولوج الكوكايين مثلاً، تتم إدانة استخدام المخدر. غير أن لاغرانج  عن مسرح سيد درويش “إن عبقرية مصر في الكاريكاتير لم تتجلى في الرسم أو الأدب أو النحت، بل في الموسيقى”.

جملة الشيخ سيد درويش وفية لإرثها المقامي، لأن انقطاعًا تامًا معها سيجعل حفظ واستملاك المستمعين للأغنية ولمضمونها مستحيلاً في زمن لم يكن فيه، سوى الأسطوانة، غير الذاكرة وسيطًا. كان إطارها المسرحي وحيويتها الإيقاعية أساسيين في انتشارها السريع، لا سيما وأن المسرح الغنائي كان يمثل التطور الحديث في حقل الغناء مختلفًا عن السائد والتقليدي، حسب ما قال داوود حسني في رده على تقرير كورت ساكس الذي تجاهل فيه كل الأنماط الموسيقية التي كان نادي الموسيقى الشرقية يرفضها آنذاك. والحق إن قطيعة موسيقى سيد درويش كانت مع التوجه الدوغمائي للنادي بقدر ما كانت مع الجماليات التي جمدتها تسجيلات شركات الأسطوانات.

١٩٦٧ ـ ١٩٧٧ | الشيخ إمام

بين هزيمة ٦٧ وانتفاضة الخبز في ٧٧ تولى الشيخ إمام مع شعرائه، وأبرزهم أحمد فؤاد نجم، موضوع الأغنية الثورية مندرجين، بحسب فريديريك لاغرانج إلى أن التقليد لا ينحصر في المحافظة على ما فات، بل يهضم الجديد ويؤقلمه مع القواعد القديمة، في حين يقترح جان دورينغ[Mtooltip description=” Quelque chose se passe. Le sens de la tradition dans l’Orient musical 1994″ /] تمييزًا بين نوعين من التقاليد: تقاليد المحاكاة والتكرار، والتقاليد الرفيعة التي تمنح المتدرب عليها، إلى جانب النماذج المحفوظة، المعرفة اللازمة لإعادة صياغة هذه الأعمال ولإنتاج الجديد المتوافق مع النماذج الموروثة والقواعد الضمنية بحيث يضاف هذا الجديد باستمرار إلى الموروث.

من المعلوم إن المفاجأة باجتراح غير المتوقع والحرية ضمن القواعد الجمالية الناظمة من شروط الموسيقى التقليدية في مصر. بهذا مثلاً تم تطوير الأغاني البسيطة إلى أدوار معقدة البنية والجمل. بهذا أيضاً نشأ الفن الثوري. فبدلاً من تكرار الدعوة السطحية إلى الثورة، كان الإنتاج الموسيقي الثوري متكئاً على قواعد جمالية واضحة وعلى مضمون شعري يهدف إلى صياغة نموذج جديد متمرد على مختلف السلطات، السياسية والمؤسساتية وكذلك النقدية والاقتصادية. أي أن المفارقة تكمن في أن على الإنتاج الثوري أن يقطع مع النماذج السائدة دون أن يتسبب في حيرة ونفور المستمع الذي يتوجه إليه.

في المحصلة، وعلى مدى قرن من الزمان، كان للغناء الثوري في مصر وجوه متعددة باختلاف الشخصيات ومحيطها. فكان سيد درويش على تماس مع الأدوار، لكنه أنتج كمًّا ضخمًا من الأغنيات والميلوديات القصيرة سهلة الحفظ. أما الشيخ إمام فأنشأ جمالية مبتعدة عن مثال الفرق الضخمة ذات الطابع الغربي شكلاً، عائدًا نحو الارتجال. واعتمد شاهين على غناء المجاميع، أما سعيد فعاد إلى تقنية غناء المشايخ، في مواجهة مغني البوب مثل عمرو دياب وتامر حسني وأضرابهما.

الأغنية الثورية في حالة تشكلٍ مستمر من خلال إطار التراث ومن خلال قطيعة مثلثة: سياسية وجمالية وتقنية (بمعنى استخدام وسائط تقنية غير مسبوقة بديلًا من الخضوع لسيطرة نموذج اقتصادي للإنتاج الموسيقي). من خلال الابتعاد عن دائرة السلطة السياسية، يجد هؤلاء الفنانون أنفسهم معزولين أيضًا عن دوائر الإنتاج الاقتصادي والانتشار المدعوم على وسائل الإعلام الكبيرة، فيلجؤون إلى مساحات غير محتكرة في وقتهم، كالمسرح لدى سيد درويش، والكاسيت عند الشيخ إمام، واليوتيوب والفيسبوك في حالتي شاهين وسعيد. وسيط الانتشار  يؤثر بطبيعة الحال على طبيعة المنتج وخصائصه.

لكن خلف هذه القطيعة المثلثة هنالك استمرار في الانتماء إلى تقليد موسيقي، كلاسيكي وشعبي وديني ودنيوي، سمح لهذا الإنتاج بأن يصل إلى جمهور، التفاعل معه، هو الهدف الأساسي للأغنيات الثورية.

اشترك في النشرة الإخبارية لدينا

المزيد من معازف