علاقة تطوّر المكان بالموسيقى

كتابةرامي أبادير - September 27, 2014

في المقالين السابقين، قمت بتناول علاقة بعض العوامل الخارجيّة وتأثيرها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على تطوّر الموسيقى. ففي المقال الأول تناقضات الموسيقى المستقلّة، ناقشت تساؤلات حول آليّات الإنتاج وتناقضات الموسيقى المستقلة وتفكيك مفهوم الاستقلال. أما المقال الثاني الموسيقى المسجّلة وسعيها إلى الكمال” (الذي نشر على جزئين: الأوّل، والثاني)، فتناول علاقة التكنولوجيا بتطوّر الموسيقى، طارحاً أسئلةً حول قدرة الموسيقى المسجلة على نقل صوت قاعة العرض ومطابقة صوت الموسيقى الحيّة.

ولاستكمال الحديث عن العوامل الخارجيّة التي ساعدت وتساعد على تطور الموسيقى، سيتناول هذا المقال علاقة ذلك بصوتيّات الأماكن، بالإضافة إلى تفاعل الفنان معها بطريقة واعية أو غير واعية وقدرته على التأقلم معها، لتظهر نتيجة هذا التفاعل من خلال المنتج الفني.

علاقة الموسيقى بالأماكن المفتوحة

من الممكن الاستدلال على تأقلم الموسيقيّ مع البيئة المتاحة له من خلال الموسيقى التي نشأت في الأماكن المفتوحة، مثل الموسيقى الأفريقيّة. فعلى اختلاف الموسيقى الأفريقيّة من منطقة إلى أخرى، إلا أنّه يغلب عليها الطابع الإيقاعي المركّب والمعقد (Polyrhythmic)، وهو نتاج الأماكن المفتوحة. إذ يمكن تمييز كل طبقة إيقاعيّة على حدى من دون حدوث تشوّه بالموسيقى. يستحيل تواجد هذه السمة في الكنائس والقاعات ذات الترددات العالية (سيذكر ذلك لاحقًا)، وهذا ما يفسر قلّة استخدام الآلات الإيقاعيّة في تلك الأماكن إذا استثنينا بداية انتشار الآلات الإيقاعيّة في آواخر القرن التاسع عشر وفي الموسيقى الحديثة والمعاصرة، بعد التلاعب بصوتيّات أماكن العزف. كما أدى الافتقار إلى مكبرات للصوت بالمساحات المفتوحة بأفريقيا، علاوة على الجانب الاجتماعي، إلى زيادة عدد الموسيقيين المشاركين في الجلسة أو المناسبة الموسيقيّة كوسيلة لتضخيم الصوت. ومن ثم نشأت إيقاعات أكثر تركيبًا لا مثيل لها في الموسيقى الأوروبيّة. أما من حيث الآلات الوترية الأصيلة، فدورها محدود مقارنةً بالآلات الإيقاعيّة، وهذا أمر طبيعي إذا قمنا بمقارنة مستوى صوت الآلات الوتريّة بالآلات الإيقاعيّة في الأماكن المفتوحة. ولكن هذه ليست قاعدة عامةً، إذ تغيّر هذا الشكل وواكبت الكثير من البلاد والمناطق الأفريقيّة حركة التطور، لتستعين بآلات أخرى وبمكبرات الصوت. ومع ذلك يبقى الجزء الخاص بالتركيب الإيقاعي متأصلاً.

من ناحية أخرى، يمكن رصد مثال آخر من التأقلم من خلال موسيقى الحلق التي تمارس ببعض المناطق في منغوليا وبجمهوريّة توفا المستقلة. فبسبب طبيعة الجو القاسية وتنوع تضاريس المكان، ووجود مناطق مكبِّرة أو مردّدة للصوت، وندرة الآلات الموسيقيّة التي قد ترجع إلى ندرة الموارد في هذه البيئة شبه المعزولة، قام المغنيون بتطوير أسلوب فريد بالغناء من الحلق عن طريق أربع طرق مختلفة. من بين هذه الطرق إصدار صوت أشبه بالصفير ذو موجات حادة وعالية عن طريق إبراز النغمات التوافقية (Harmonics). ولذا فإن اعتماد هؤلاء الموسيقيين على الآلة محدود وغير أساسي.



أمثلة لغناء الحلق

يظهر هذا التأقلم مع المساحات المفتوحة أيضًا من خلال فرق موسيقى الكلزمروالفرق الشعبيّة الصغيرة التي تستعين بآلة التوبا بدلًا من آلة الكونترباص لإصدار صوت الباص. إذ أن مستوى صوت آلة التوبا أعلى من آلة الكونترباص، وبذلك يستطيع بقية العازفون والمستمعون الإنصات إلى صوت الباص.

التأقلم مع صوتيات الكنائس

ومن نفس المنطلق يمكن رصد تطور بعض من معالم الموسيقى الكلاسيكيّة التي نشأت بالأساس في الأماكن المغلقة، من خلال شكل بناء الكنائس والقاعات وتصميمها وصوتيّاتها. نرى ذلك في أسلوب الغناء الغريغوري، وعلاقته بالكاتدرائيّات المصممة على الطراز القوطي. يتميّز الصوت في تلك الأماكن بترددات ذات وقت طويل نتيجة لتكوينها المعماري. ويعتبر التردد (Reverberation) عاملاً من العوامل الرئيسيّة المؤثرة على الموسيقى وصوتها داخل المساحات المختلفة. يمكن تعريف التردّد بالصوت الذي يصل إلى الأذن بعد انعكاسه على سطح ما بالقاعة، وهو ما يميّز صوت القاعة. إذ تنتقل النغمة الموسيقيّة لدى إصدارها داخل الكاتدرائيّة عبر الفراغ بطريقة مباشرة إلى الأذن وبطريقة غير مباشرة بعد انعكاسها على السقف العالي والتجويفات التي تحتويها، ليستمر الصوت المنعكس في المكان في هذه الحالة لمدة تتراوح من ثلاث إلى أربع ثوانٍ حتى تختفي نغمة الصوت. كما أن الصوت الذي يصل إلى الأذن بطريقة غير مباشرة بعد انعكاسه يصل متأخرًا بزمن قد يصل إلى 0.1 ثانية، وهو ما يعرف بزمن تأخر الصوت (delay time) (إذا زاد زمن التأخر عن 0.1 ثانية فإنه يتحول إلى صدى صوت“). أدّى ذلك إلى نشأة موسيقى ذات إيقاع بطيء ومونوفيني (1) محصور بين نغمات قليلة لا يشوبها أي تغيير مفاجئ في السرعة أو في السلّم الموسيقى، وذلك كي لا تتداخل النغمات ببعضها البعض بسبب زمن التردد الطويل. يفسر ذلك انعدام وجود آلات إيقاعيّة في هذه الأماكن، وبالتبعيّة في هذا النوع من الموسيقى.

شرح للتردد

تغيّر صوت الدرامز من مكان إلى مكان بسبب التردد

غناء غريغوري

ومع اختلاف تصميم القاعات وعمارتها وصوتياتها التي تتسم بزمن تردد وزمن تأخر أقصر، نشأت أشكال موسيقية أكثر تعقيدًا مثل الموسيقى في عصر النهضة. فعلى سبيل المثال، قام مونتيفيردي في عمله المعروف بـ Blessed Virgin بزيادة عدد أعضاء الكورال وإعادة توزيع أماكنهم وأماكن الآلات الموسيقيّة بكاتدرائية سان مارك بفينيسيا. وأسفر هذا عن موسيقى متعددة النغمات (Polyphonic) ذات تقنيات مستحدثة وإيقاع سريع في أجزاء كثيرة. ووقد سبقه في هذا التأقلم الواعي مع عمارة الكاتدرائية، ووجود ديناميكيّة بين العمارة والموسيقى، آدريان ويليارت وتلاميذه آندريا جابريلي وجيوفانو غابريلي.

جزء من Blessed Virgin

باخ وموسيقى الحجرة

في أوائل القرن الثامن عشر، قام باخ بكتابة العديد من أعماله في كنيسة أصغر حجمًا من الكنائس القوطيّة ذات السقف الأقل ارتفاعًا وزمن التردّد الأقصر. ساعد المكان على تضخيم صوت الأرغن، وأتاح إمكانية التنقل بين سلالم مختلفة والاعتماد على نغمات سريعة متتالية، وإبداعه في شكل الفوغا الأكثر تعقيدًا (والذي يعتبره المؤرخون والنقاد تقنية في الكتابة وليس شكلًا موسيقيًا). كما انعكس ذلك على أعماله اللاحقة مثل كونشرتو براندنبرغ وتنويعات غولدبرغ ومعظم موسيقاه المبنيّة على موسيقى الحجرة، حيث أبدع في التناغم (Harmony) والتقابل الموسيقيّ (Counterpoint) (2). ينقلنا الكلام عن باخ إلى موسيقى الحجرة التي انتشرت في عصر الباروك. تتطلب موسيقى الحجرة مهارات مختلفة في التأليف مقارنةً بالأشكال الموسيقيّة الأخرى، وهي مبنيّة بشكل أساسي على التقابل الموسيقيّ، حيث تعتمد على فريق صغير مكون من أربع إلى ست آلات يقومون بعزف نغمات موحدة مع إضافة تنويعات عليها من آلة إلى أخرى، بالإضافة إلى وجود فارق في زمن عزف كل آلة ليخلقوا شكل جديد أكثر تعقيدًا. بعدها قام هايدن بتطوير تقنيات كتابة موسيقى الحجرة. ومن هنا نستنتج أن صوتيات المكان والغرف الأكثر حميميّة التي أتيحت للموسيقيين بقصور النبلاء ساعدت على العزف بهذا الشكل. فكل هذه التقنيات لم تكن لتظهر في كاتدرائيّة صممت على الطراز القوطي. وتأكيدًا على فكرة تأقلم الموسيقيين مع القاعات والمساحات المختلفة، فإن موسيقى العمل غير المكتمل فن الفوغالباخ، على سبيل المثال، يمكن تأويلها (Interpretation) من خلال آلة ذات مفاتيح أو برباعي وتريات أو بأوركسترا صغيرة أو كبيرة، حسب القاعة وصوتياتها.

مقطع من فن الفوجايظهر بوضوح فكرة الكاونتربوينت

السوناتا والسيرينيد

من ناحية أخرى فإن الكثير من الأعمال التي كتبها موتسارت وتُلعب الآن في القاعات الكبيرة هى في الأصل موسيقى حجرة. فلو كانت قد أتيحت له قاعات أكبر حجمًا كان قطعًا سيقوم بتوزيع وإعادة تأليف هذه الموسيقى بطريقة مختلفة، كسيمفونياته ومعزوفات الأوبرا التي كتبها في السنوات العشرة الأخيرة له على سبيل المثالومن أشكال موسيقى الحجرة السوناتا، التي نشأت في عصر الباروك، وتعتمد على ثلاث أو أربع حركات وعلى آلة وترية وآلة متعددة النغمات (كالهاربسيكورد أو البيانو) في معظم الأحيان. ويمكن تفسير قلة آلاتها وهدوء موسيقاها النسبي وتنويعاتها ودينامكيتها والتنقل بين السلالمبالأخص في الحركة الثانيةمن خلال المكان الصغير نسبيًا التي تعزف فيه. لا نستطيع أن نغفل أن انهيار الطبقات الأرستقراطيّة وفسادها والحراك الاجتماعي في القرن التاسع عشر أدّى إلى تغير موسيقى الحجرة وصور الموسيقى الأخرى وبالأخص أماكن عزفها (انتشار الفالس على سبيل المثال). أما بالنسبة لشكل السيرينيد، فيمكن فهم طبيعته الخفيفة والراقصة مقارنةً بالأشكال الموسيقية الأخرى من خلال نشأة موسيقاه. حيث جاءت موسيقى السيرينيد عن طريق موسيقيي الشارع الذين تم دعوتهم للعزف في مجالس الطبقات الأعلى لملائمة مجالسهم الليليّة والحميميّة.

سيرينيد لشوبرت

قاعة بايرويت

مع تطور مواد البناء والعمارة، أصبح من الممكن إنشاء مسارح وقاعات ذات سقف عريض، ومن ثم زاد حجم القاعات وقدرة استيعابها للجمهور، كما ساعد ذلك على انتشار شكل الأوبرا. ومن أمثلة القاعات التي صممت من أجل استيعاب موسيقى بعينها قاعة بايرويتالتي صممت لتناسب موسيقى فاغنر. وترتب على ذلك زيادة عدد قسم النحاسيات ووجود موسيقى أكثر فخامة بفضل حجم أوركسترا أكبر تمت إعادة توزيع أعضائها بشكل مختلف عن ما هو متعارف عليه. يمكن القول إن بايرويت من أوائل القاعات التي صممت بشكل واعٍ لتتماشى مع موسيقى فاغنر، وهو النهج الذي سار عليه الموسيقيون الحداثيون، أي تصميم قاعة خصيصًا تناسب موسيقاهم بدلًا من أن تتأقلم موسيقاهم وتتطور حسب القاعة. فلو كان فاغنر مضطراً للعزف في قاعة ذات خصائص مختلفة لنتج عنها تجربة مختلفة وصوت آخر، وكان ذلك من شأنه أن يجعل فاغنر يفكر بأسلوب مختلف أثناء تأليف موسيقاه.

وهكذا يلعب المكان دوراً كبيراً في خواص الموسيقى قد تصل في تأثيرها إلى تشكيل نوع جديد من الموسيقى. وقد تشكل هذه الخواص عامل جذب لمن أتى من خلفية مختلفة، مثل في حالة إيغور سترافينسكي وبيلا بارتوك في القرن العشرين. إذ اعتمد الإثنان في الكثير من موسيقاهم على الموسيقى الفلكلورية ذات الخصائص المختلفة التي تلعب بالشوارع والأماكن المفتوحة ودمجها بموسيقاهم. وهكذا كان للمكان دور مباشر في نشأة الموسيقى الفلكلورية وتأقلم عازفيها مع المساحة المتاحة لهم، ودور غير مباشر لكونه عنصر ملهم ومهم لموسيقى سترافينسكي وبارتوك.

فيديو توضيحي لتصميم قاعة بايرويت

تطوّر المكان وعلاقته بقائد الأوركسترا

مع وجود قاعات أكبر حجمًا، وبالتالي زيادة عدد أفراد الأوركسترا، ظهرت تقنيات جديدة في عزف الآلة بجانب تطور الآلة نفسها وأثر ذلك في إبراز عنصر هام بالأوركسترا وهو قائد الأوركسترا. فقد أصبح دوره ضروريًا لضبط إيقاع وميزان المقطوعة، والأهم من ذلك ديناميكيتها. فكل قسم من أقسام الأوركسترا معزول عن القسم الآخر، وبالتالي من الصعب أن يسمع عازف الكمان عازف الترومبيت، مثلًا، بشكل واضح أثناء عزفهما في نفس اللحظة. وحتى إن حدث ذلك فيجب مراعاة تردد صوت الآلات بالقاعة. ولذلك يقوم قائد الأوركسترا بدور المنظم ودور سماعات المونيتور الموجودة بالموسيقى الحديثة، التي تتيح لكل عضو بالفريق الاستماع إلى بقية الأعضاء.

علاقة الموسيقيين الحداثيين بالمكان

اهتم الموسيقيون والمعماريون الحداثيون بدراسة الصوتيات بشكل أكثر تخصصًا في القرن العشرين. حيث كان التركيز في أعمال الكثير من الموسيقيين مبنيًا على علاقة الصوت وطبيعته بالمكان وكيفية انتشاره به وسرعته واتجاهه وكسر حدود القاعة. قد يتسع هذا الموضوع لمقال آخر، لكن في هذا السياق نجد أن لموسيقيين مثل يانيس زيناكس وشتوكهاوزن ولويجي نونو وإدجار فاريز إسهام كبير ودراسات وأعمال موسيقية ساعدت التكنولوجيا في إبرازها. يتجسد ذلك في واحد من أهم أعمال أوليفييه ميسيان وهو Et Exspecto Resurrectionem Mortuorum الذي أُلف خصيصًا حسب وصفه من أجل الأماكن الواسعة والمفتوحة والكنائس ذات التردد والرنين العالي“. ولعل جناح فيليبس الذي صممه زيناكس والمعماري لوكوربوزييه من أجل عرض قصيدة إلكترونيةلفاريز، خير مثال على تصميم مكان مخصص لمقطوعة معينة ليصل إلى التجربة الصوتية الكاملة التي يسعى إليها من خلال شكل الجناح. ذلك بالإضافة إلى إعادة توزيع العازفين بالقاعة أو الغرفة للحصول على صوت جديد مثل في عملNomos Gamma الذي يجلس فيه الموسيقيون بين الجمهور. هذا بالإضافة إلى أعمال أخرى بحثت في كيفية انتشار الصوت بالمكان، وهى أعمال اعتمدت على وضع مكبرات الصوت بشكل وتكوين هندسي معين بالغرفة لإيجاد علاقة بين طريقة البصر والتقاط الصورة وبين سماع الأصوات بعد انعكاسها على الحوائط والسقف، إذ تتعرف الأذن على هذا الشكل الهندسي مثلما تتعرف عليه العين. يعتبر ذلك استغلال وإضافة لشكل الغرفة والمكان عبر التحكم بالتكنولوجيا المتمثلة في مكبرات الصوت. يظهر ذلك من خلال أعمال مثل Hibiki Hana Ma وPolytopes. ولشتوكهاوزن ولويجي نونو ومورتون فيلدمان أعمال في نفس السياق، كلها تحاول البحث عن العلاقة بين الموسيقى المكان.

مقطع من Et Exspecto Resurrectionem Mortuorum لمسيان

محاكاة لصوت قصيدة إلكترونيةبجناح فيليبس

مكبرات الصوت والعزل والقاعات

وفي حديثنا عن مكبرات الصوت، لا نستطيع أن نغفل دورها في تغيير شكل الموسيقى الكلاسيكية الحديثة. قد تعتبر مكبرات الصوت عيبًا من وجهة نظر الكثير من المعماريين والموسيقيين، إذ أن القاعة المثالية لا تحتاج إلى مكبرات، لكن نوعاً مثل الموسيقى التقليلية (Minimal)، كموسيقى تيري رايلي وستيف رايش، اعتمد بشكل أساسي على مكبرات الصوت، بل إن ذلك ساعد رايش في الإبداع في موسيقاه. فقد مكنه المايكروفون والمكبرات، بحسب كلامه، من الاستغناء عن شكل الأوركسترا الكلاسيكي، وأصبح يعتمد على أجزاء موسيقيّة مسجلة بشكل مسبق (pre-recorded). من ناحية أخرى يمكننا استنتاج أن موسيقى رايش، التي تعتمد بشكل أساسي على قسم المطارق (mallets section)، من الصعب أن تُعزف بقاعة ضخمة تتمتع بزمن تردد عالي، ومن الأفضل أن تعزف بقاعات صغيرة أو قاعات ذات جدران وصوتيات تمتصّ للصوت ولا تعكسه بشكل كبير. من هنا يأتي دور المعماريين للحصول على شكل وصوتيات القاعة الأمثل لملائمة أكبر عدد ممكن من الأنواع الموسيقية. كما ظهرت تكنولوجيات حديثة كأنظمة امتصاص الصوت والتحكم في التردد تساعد على التحكم بالقاعة الواحدة لملائمة أنواع موسيقية مختلفة؛ من الموسيقى الكلاسيكية إلى الروك الذي يعتمد على زمن تردد وزمن تأخر منخفض، بالأخص في مدى الموجات المنخفض. ونظرًا لاعتماد موسيقى الروك والبوب والراقصة أكثر على جودة مكبرات الصوت والأنظمة الصوتية، فإن العزل مهم في هذه الحالة لاحتواء هذه الموسيقى. ومع ذلك فهذه ليست قاعدة عامة، ففي موسيقى الروك المسجلة في الثمانينيّات بالغوا في استخدام مؤثر التردد، إلى درجة جعلت إعادة إنتاج نفس الصوت الذي تم تسجيله وطرحه بالألبوم تتطلب العزف في مساحات شاسعة كالملاعب الرياضية.



ستيف رايش واعتماده على المايكروفون مكبرات الصوت والتكنولوجيا

المكان ودوره في الارتجال

ومن موسيقى الروك ننتقل إلى الموسيقى الجماهيريّة. ثمة علاقة براغماتيّة بين الارتجال والعزف المنفرد في موسيقى الجاز وبين المكان. إذا كانت موسيقى الجاز تعزف حين انتشرت في الحانات والبارات، وفي أماكن يقبل عليها المستمعون للرقص والحديث والتفاعل الاجتماعي. وبحسب سكوت جوبلين، يعد أحد أسباب الارتجال والعزف المنفرد في الجاز والإطالة في العزف أن يستطيع الراقصون والمستمعون بالبار التفاعل مع الموسيقى لوقت أطول وحتى لا يفقد المكان ديناميكيته. ومع الوقت، وصلت موسيقى الجاز إلى قاعات الموسيقى الكلاسيكية وزاد عدد العازفين بالفريق الواحد. ولكني أتصور أن هذا النوع من الموسيقى يفقد روحه حين يعزف بتلك القاعات، فلم ينشأ الجاز لم ينشأ بالأساس ليلائم طبيعة وصوت هذه الأماكن.

التكنولوجيا والمكان الافتراضي

كما ذكرنا من قبل، يؤدي التطور التكنولوجي (أجهزة التشغيل) إلى نقلة في ارتباط الموسيقى بأماكن العرض. وعن طريق التكنولوجيا أيضًا بات من الممكن التلاعب بالمكان من خلال المؤثرات الصوتية التي تختزل شكل القاعة في جهاز مؤثرات صغير أو برنامج رقمي، مثل مؤثر التردد والمرشح وغيرها من المؤثرات، ليظهر صوت القاعة من خلال الموسيقى المسجلة خالقةً مكان افتراضي. ولكن بالرغم من هذا، يظهر صوت الفريق في نهاية الأمر في العرض الحي مختلفًا عن الصوت المسجل بسبب اختلاف صوتيات قاعة العرض. لذلك عند عرض موسيقى حية تعتمد على المؤثرات، يجب إعادة ضبط تلك المؤثرات لتلائم مكان العرض، إلا في حالة العرض بمكان جيد العزل. وبالتالي، ففي الأعمال الفنية (مثل المعارض) التي تعتمد على أجزاء مسجلة في عروضها يجب أيضًا ضبط مؤثراتها أثناء عملية التسجيل لتلائم المكان. وبنفس المنطق فإن المؤثرات الصوتية الذي لعبت دوراً في خلق مكان افتراضي ساعدت على ظهور أنواع موسيقية بعينها مثل الإندستريال روكالذي يحاكي صوت الأماكن الصناعية. كما قام براين إينو بتأليف موسيقى لتحاكي أماكن بعينها وتلائمها عن طريق هذه المؤثرات وإمكانيات التكنولوجيا.

إلغاء بُعد المكان

استكمالًا للحديث عن التكنولوجيا وعلاقتها بالمكان الافتراضي الذي تخلقه المؤثرات، يمكن إيجاد رابط قوي بين أجهزة التشغيل الخاصة كالووكمان والآي بود وبين المكان. تخلق هذه الأجهزة تخلق تجربة خاصة تجعل المستمع هو المستمع الوحيد للموسيقى المسجلة التي تعد محاولة لنقل الموسيقى الحية. وبذلك يصير جهاز التشغيل والسمّاعات هو العرض الحي والقاعة الافتراضية في نفس الوقت، ولا يتدخل صوت المكان المحيط بصوتياته وتفاصيله وشوائبه الذي تُسمع فيه الموسيقى، حيث أن السماعات تعزل صوت المكان المحيط ليبقى فقط صوت الموسيقى المسجلة الذي تُسمع من خلال السماعات. بذلك يمكننا القول إن جهاز مثل الآي بود نجح كليةً في إلغاء بعد المكان الحقيقي. قد تلعب الغرفة المعزولة عزلًا جيدًا نفس الدور ولكنها في النهاية مقيدة بمساحة ما وبأشخاص آخرين. لكن جهاز الآي البود يكسر تلك المساحة تمامًا ليتحول إلى مكان وقاعة متنقلة، فيستغني المستمع عن القاعة الحقيقية المتمثلة في الأوبرا أو المسرح أو بيته ويلغي عنصر المكان.

في نهاية الأمر، ترتبط العملية الإبداعية لدى الموسيقي بعوامل عدة؛ بدءًا من تجربة الفنان الشخصية وتفاعله مع الأحداث الاجتماعية والاقتصادية المحيطة، وصولًا إلى عوامل مثل التكنولوجيا والمكان، وقد يكون ذلك التأثر بشكل واع أو غير واع. في الماضي كانت المرحلة الإبداعية تبدأ بفكرة أو مجموعة من الأفكار لدى الموسيقي الذي يقوم بانتقاء بعضها مع الأخذ في الاعتبار المكان الذي ستُعرض فيه تلك المقطوعة. وحتى زمننا هذا، يؤثر المكان، الحقيقي أو الافتراضي، في العملية الإبداعية وتلقينا لها.

الهوامش

(1) مونوفوني

(2) كونترابنكت (Counterpoint) وجود خطي لحن أو أكثر بالتوازي بشكل منسجم، وهو أسلوب فترة الباروك أي القرن السابع عشر في أوروبا.

المصادر

Acoustical Society of America (ASA): New technology modifies music hall acoustics http://www.sciencedaily.com/releases/2013/05/130530152856.htm