fbpx .

نون | البيت العشوائي

عمار منلا حسن ۲۰۱۸/۰٤/۰٦

قال أحدهم للكاتبة الأمريكية آيمي بلوم عندما كانت طفلةً أن “كل ما قام به مايكل آنجلو (لخلق منحوتة دايفد) هو أخذ كتلة رخام وحذف كل ما هو ليس دايفد منها.” أخذت بلوم من هذه الجملة تعريفها للأدب والفن عمومًا، باعتباره عمليةً من الخلق والحذف، حتى قالت إن كتابة نص سردي هو عبارة عن أخذ العالم وحذف كل شيء منه سوى القصة التي نريد سردها. لكن هناك اختلاف بين النحت وباقي الأوساط الفنية  كالأدب والسينما مثلًا، يقول المخرج الألماني فرنر هيرتزوج: 'أرى صنَّاع أفلام شبَّانًا يأتون إلي بحماس ويقولون: لقد صورنا ٤٥٠ ساعة من المشاهد! يشعرني هذا بالاختناق. نحن لسنا جامعو قمامة، نحن صانعو أفلام!' من هذه الناحية، إذ لا يعاني النحات من تعلقٍ بكتل الرخام التي يقوم بحذفها، بينما يميل الكتاب والمخرجون مثلًا للتعلق بهذه الجملة أو ذلك المشهد الذين بذلوا جهدًا مهنيًا وإبداعيًا في إتقانه، لذلك باتت عملية الحذف في أوساط فنية مماثلة تعرف بمبدأ “اقتل أعزاءك.”

لا يمكن الاستماع إلى نون، ثاني ألبومات البيت العشوائي، دون التفكير بثنائية الخلق والحذف هذه، إذ أنه عمل يخلق بسخاء ويحذف بشحّ، مخلفًا فجوة قد تجعله منحوتة صوتية فظَّة الملامح، أو قد تكشف أن الموسيقى غير المصقولة بهذا المعنى قد تمتلك جمالياتها الخاصة.

الحل رومنسي … بس مش صح

تحدث المغني وعازف الجيتار في الفرقة، قيس رجا، عن أنه لاحظ خلال دراسته الموسيقى في الولايات المتحدة تقابلاً بين المجتمع الأمريكي الغربي، بميله الفردي المتمثل بالحلم الأمريكي، والمجتمعات الشرقية الأكثر دفئًا اجتماعيًا. يمكن أن يشي الألبوم في هذا السياق بديناميكية الفرقة، حيث نستشعر ميلًا نحو ديمقراطية إبداعية تجعل احترام الأعضاء لبعضهم البعض يفوق احترامهم للعمل.

إلى جانب هذه النقطة، وصف رجا أعمال الفرقة المبكرة على أنها نيو صوفية، وحمل ألبومهم الأوَّل ملامحَ صوفية عدّة بالفعل، من كلماته القريبة للفصاحة والمتطرقة للروحانيات، إلى الغناء الذي يعطي الأحرف العربية حقها، وأخيرًا والأهم، بنية الأغاني المعتمدة على ميل ارتجالي يتلاعب بسرعة الإيقاع محاكيًا مزاج الحضرات. الملفت في الصوفية أنه رغم الطابع الارتجالي العفوي الطاغي للحضرات، إلا أنها تحافظ على بنية، تأتي على شكل الانتقال المرتَّب والمنطقي من إحدى مراحل الحضرة إلى الأخرى. بالمقابل، ينطلق نون من الصوفية دون أن يبقى فيها، يتخلى عن البنية بشكلٍ تام في عدة أغانٍ، ويعبر إلى ما يبدو أنه نوع من الپوست-صوفية.

المشكلة الرئيسية في الألبوم هي أن هذا التخلي عن البنية لم يتفاعل بشكلٍ حسن مع ديناميكية الفرقة. تظهر المشكلة بوضوح في مسرح وطن، وهي أغنية قديمة للفرقة لم تصدر في ألبومهم الأوَّل. تبدو الأغنية كحجرة استوديو مفتوحة الباب. يدخل كل عضو في الفرقة بفكرة سولو أو إيقاع أو مقطع غنائي، بينما يدعمه أو يفسح له المجال باقي أعضاء الفرقة، حتى ينتهي من فكرته ويتلوه عضوٌ آخر. جاءت النتيجة كمثالٍ مقياسي لجلسة ارتجال Jamming Session، نوع الجلسات التي تسجلها الفرق لحفظ الأفكار التي خرجت خلالها، ثم تطويرها لاحقًا في أغاني، لكنها لا تشكِّل أغاني بحد ذاتها.

قد تبدو مسرح وطن مبهرةً بازدحامها عند الاستماعات الأولى، كما قد تبلي حسنًا في الأداءات الحية حيث يرحب الجمهور بالاستعراضات الأدائية المطولة. لكن بعد السماعات الأولى لنسخة الألبوم، يدرك المستمع أن ازدحام الأفكار هذا يعجز مرةً تلو الأخرى عن تشكيل أغنية. قد توجد أغنية ما هناك، وسط الازدحام، لكننا لن نسمعها حتى تقوم الفرقة بإزالة “كل ما هو ليس الأغنية”. تتكرر المشكلة في أغانٍ كـ يا عليم، والتي كانت أفضل في نسختها الأصلية التي صدرت في ألبوم الفرقة الأوَّل، قبل أن يتم إرهاقها هنا بدقيقة ونصف إضافيتين من الارتجال والاستطراد الآلاتي. أما في كوجين، تتفاقم المشكلة لدرجة يغدو من الصعب معها الجزم بوجود أغنية داخل الكتلة غير المنحوتة التي نحصل عليها.

ليس كل ما يلمع وطنًا

اقتربت الفرقة في نون من صوت الروك الأردني الذي نراه خليطًا من استعارات من الروك المستقل والبديل من مطلع الألفينات، الهارد والبوست روك، البوب العربي الألفيناتي، وصوت ثالث محلي غير مصقول، لكنها ابتعدت في هذا الاقتراب عن الكثير من العناصر الشرقية التي شكلت الصوت المحمِّس لألبومها الأوَّل. تم استبدال أسطر الجيتار الإيقاعية التقليلية الهادئة بأخرى صاخبة وصايعة، ميزتها الوحيدة قدرتها الأكبر على ترقيص وهز رؤوس جمهور العروض الحية. تخلى قيس عن أسلوب غنائه المميز الذي يعرف توطين الملافظ العربية الصحيحة في بيئة الروك، والتفت بشكلٍ أكبر نحو الغناء الغرانجي. بينما بات قسم الإيقاع يفضل الطبول العنيفة السريعة على الدفوف والطبول المنتشية بهدوء.

إنتاجيًا، كان ألبوم الفرقة الأوَّل يعاني من فقرٍ صوتي مرده محدودية التوزيع من جهة، وعدم تضخيم صوت الآلات لملء المساحات الصوتية الفارغة من جهة أخرى. لكن عند سماع نون نكتشف أن هذه المشاكل كانت مسؤولةً بشكلٍ أو بآخر عن تمييز يا عليم، بالطريقة التي ميزت مشاكل مماثلة ألبوم بليتش لدى نيرڨانا. يضيع هذا التميُّز في نون الذي يحاول حل المشكلة بأخرى، ويستمر بتقربه من الروك الأردني. فمن ناحية تم تضخيم أصوات الآلات وإضافة تأثيرات للآلات والغناء، عندما كانت هذه الإضافات مناسبة وعندما لم تكن. ومن ناحية أخرى تم إتخام الألبوم بأصوات إلكترونية من السنثات إلى الأورجات، منحت الأغاني صوتًا إلكترونيًا راقصًا ميَّالًا للبوب، تناقض مع ما تبقى من الصوت الشرقي القديم.

تتضح مشاكل الإنتاج في أغنية كـ نيل، والتي ظهرت في الألبوم الأوَّل وتم إعادة تسجيلها وإنتاجها في نون. سمعنا هذه الأغنية بإنتاج مستعجَل بسبب ضيق الوقت في الاستوديو، وبإنتاج مصقول ومرتاح لكن مفتقر للذوق في الألبوم الجديد، ولا تزال النسخة القديمة أفضل على علَّاتها.

البيت العشوائي

المفارقة التي تنتظرنا عند سماع نون عدة مرات، هي أن الألبوم أكثر أعمال البيت العشوائي اتساقًا مع اسمهم حتى الآن. أغانيه متاهات بلا مخارج، وتجربة سماعه عشوائية بحق. صحيح أن الألبوم ضيَّع كثيرًا من صوت الفرقة الذي بدأ يتشكل مع إصدارها الأول، وجعلها اسمًا آخر في فهرس الروك الأردني، الفهرس الذي أرى أنه لا يجب على أي فرقة روك طموحة الاحتفاء بالانضمام إليه. وصحيح أن الألبوم هو صرح سلبي لعجز الفرقة عن نحت أعمالها، وبالتالي تخفيف أغانيها من الكثير من الفوائض التي كان يجب أن تترك للأداءات الحية. لكن يبقى احتمال أن تكون عشوائية الألبوم الراديكالية ذات قيمة تجريبية، فرصة لرؤية عمل خام بأقصى معاني الكلمة حرفيةً، وفرصة للتعرض للموسيقى بحالتها العفوية التلقائية قبل أي تدخل أو تحرير.

المزيـــد علــى معـــازف