.
“كل شيء بأوان“
مثل مصري
في ثمانينيات القرن العشرين في مصر، خلت الساحة فجأة من مطربيها الكبار، تحول كليشيه الفن الجميل، الذي لا يخلو من أسطرة للماضي، لأيديولوجية وحيدة للفن الرسمي السائد. وبدأ تشكل زمن سماع مختلف، “خريطة خلت فجأة من أسماء العظام في عالم الطرب التقليدي بموت الأسطوات حليم وثومة، وإن ظل المزاج السمعي لأجيالهما يبحث عن روائح الزمن الجميل كما يحب مهاويس نوستالجياته” بحسب عبارة هاني درويش، محاولات إعادة ما سبق ومحاولات الخروج عما سبق. كان هناك مستمعون آخرون بين البينين، غرباء صامتون، ينتظرون صوتًا مختلفًا يجدد دون أن يفرط، زار عمر فتحي وخفف فرحل سريعًا، وبقى عماد عبد الحليم على هامش المشهد، ولم يستطع هاني شاكر استنساخ عبد الحليم رغم كل محاولاته المستمرة حتى اليوم، وأتى جورج وسوف ليصبح راية الواقفين في أرض وسط ما بين عود سيد مكاوي وجيتار حميد الشاعري.
وسوف من أولئك الفنانين الذين لا تستطيع أن تلقاهم في بداياتهم أو بداياتك، تتقاطع خريطة زمانكم في نقطة وسط لتعيد اكتشاف ما سبقها على ضوء هذا اللقاء. لم تكن الثمانينيات التي ولدت فيها جميلة في وقتها رغم كل تدعاءات النوستالجيا اللاحقة، عناوين الجرائد الرئيسية وحدها كانت كفيلة للإصابة بالاكتئاب: اغتيال السادات (١٩٨١) حرب لبنان (١٩٨٢) حرب العراق وإيران (١٩٨٨-١٩٨٠)، وأحداث الأمن المركزي (١٩٨٦). كانت العناوين الثانوية لا تقل عبثًا: سوق عملة سري صوره محمد خان في أحلام هند وكاميليا، شركات توظيف أموال، قضية لوسي أرتين، أحمد رشدي وزير الداخلية بحكاياته الخيالية، منع عرض مسرحية عـ الرصيف، وسرقة ونش مترو الأنفاق. أما أغرب الحكايات التي حذرنا منها الأهل فهي حكاية العصابة التي تخطف الأطفال وتقتلهم لتطحن جماجمهم لخلطها مع الهيروين وأقراص الريڤو لصنع البيسة.
كان الغرابة والغربة الموضوعين الأساسيين في ثمانينيات القرن العشرين المصرية والعربية، غرابة الأحداث وغُربة الأهل. بداية من السبعينيات، زمن الانفتاح عند المثقفين قبل اكتشافهم كليشيه الغزو الوهابي، بدأت الهجرات الجماعية، هجرة المثقفين المعارضين للمنفى البيروتي قبل الحرب وهجرة الموسيقيين التي يحكي عنها إميل باسيلي، وهجرة العمال للخليج والأردن وليبيا وأوروبا، في ظل تلك الغربة جاء صوت وسوف، بداية من المواويل في حمص مرورًا بدمشق ولبنان حتى مهاجر العرب في أوروبا وأمريكا. التقى الصوت الناشئ مع المزاج الهارب من واقع يحبه ويحنّ إليه، والتقطه جيل ما بعد بليغ حمدي، مثل نور الملاح وشاكر الموجي وصلاح الشرنوبي، جيل جمع بين التلحين بلغة بليغ المعتمدة على ثيمات شعبية بسيطة وجُمل عِشَرِية يحبها السميعة ويحط من قيمتها المتخصصون، مع الاستفادة من تقنيات التسجيل والتوزيع الحديثة مثل مكساج التراكات المتعددة التي سمحت بملئ الأغنية بأصوات آلات كثيرة مقابل الخطين الرئيسين السابقين، صوت المطرب وعزف الفرقة.
جاء الشريط الأول، الهوى سلطان، والذي اكتشفه جيلي لاحقًا واعتقدنا لفترة أن جورج غناه وهو طفل، بعد سنوات من التمرس عبر الغناء في السهرات والصالات. يحتوي الشريط على أغانٍ تنتمي لللون المصري ولو أنتجها شوام. فالكلمات كلها بالعامية المصرية منطوقة بلكنة سورية ما عدا قول لي ولا تخبيش يا حبيبي التي تتلاقى مع جملة تراثية مصرية من أغاني الست قول لي ولا تخبيش يا زين. ليس من الصعب تحديد زمن الأغاني بمجرد سماعها فهي تنتمي لجيلها مع وجود دينٍ خفي لألحان بليغ يتجلى في جملة في مقدمة أغنية الحبايب (كلمات وألحان زهير عيساوي) مشابهة لجملة من مقدمة الحب كله التي لحنها بليغ لأم كلثوم.
روحي يا نسمة (كلمات ميشال جحا وألحان نور الملاح) هي الأكثر تعبيرًا عن غُربة الثمانينيات. الأغنية طويلة نسبيًا حسب تصنيفات زمنها (١٠ دقائق ونصف) تبدأ بمقدمة للكيبورد والوتريات مع حضور الإيقاع، وتتكون من مذهب وكوبليهين وإعادة للمذهب. الموضوع الرئيسي فيها هو الحنين للغائبين ومطالبة النسمة بإبلاغهم السلام وهي ثيمة كلاسيكية في الشعر العربي الفصيح والدارج، الحبايب الذين غبنا عنهم بإرادتنا “نعتب عليهم والحق علينا والشوق إليهم باين في عينينا ما احنا ابتدينا واحنا اللي هجرنا أهل الهوى“، الجملة التي يبلغ الغناء معها قمة سلطنته ليعود مع الإيقاع للتسليم الذي يرجع به للمذهب “لكن صابرين بالحب هايمين وهنبقى يا قلبي على طول عاشقين“. والأغنية بنت جيلها بكل ما يميزه، فهي مبنية على جملة بسيطة مألوفة وتكرر نفس التوزيعات الثمانيناتي مع حضور قوي للكيبورد والأكورديون والوتريات والإيقاع، وتشبه ألحان أخرى من نفس الفترة (مثل أنا عم بحلم التي غنتها ماجدة الرومي من ألحان نور الملاح).
كما كانت مسرحية عـ الرصيف الممنوعة تعبيرًا عن منتصف الثمانينيات، كانت مسرحية باللو تعبيرًا عن منتصف التسعينات، فهي قائمة على إعلاء قيمة الـ “ولا حاجة” حرفيًا، متحررة حتى من الموضوع، إفيه من أجل الإفيه. لكنها عبرت عن عالم التسعينيات في مصر، عالم ما بعد حرب الكويت وزلزال ١٩٩٢. اكتشف جيلي عالمه للمرة الأولى وحاول فهمه والعالم نفسه ينهار، ازدحمت شرائط الأخبار المتلفزة في تلك الفترة بأسماء لا نستطيع حتى نطقها، من البوسنة والهرسك والروس والشيشان ومن كل ذاك العالم المتفكك.
قبل المسرحية بعامين أنتج جورج وسوف كلام الناس (١٩٩٤)، أول فيديو كليب مصور له. وقتها كانت مصادر السمع محدودة، إما الكاسيت وإما الراديو وإما التلفزيون، وكان الكليب وسيلة انتشار لجمهور أوسع خاصةً والإذاعة المصرية كانت تواضب بوقتها على إذاعة أغانٍ جديدة غير موجودة ضمن التيار السائد mainstream. أحدث شريط كلام الناس انتشارًا سريعًا في مصر استدعى أن يضمه أشرف عبد الباقي لإفيه ضمن مشهد ساخر في المسرحية، “المطرب اللي شغال ساعاتي اللي بيقول كلام الناس لا بيقدم ولا بيأخر.“
كانت ليلة اكتشاف وسوف ليلة صيفية في إجازة الصف الأول الثانوي سنة ١٩٩٧. كان صوت وسوف قد تحول عن الهوى سلطان واكتسب تلك النبرة الخشنة التي سيعرف بها فيما بعد. ولا بد قبل الاستماع إلى هذا الصوت الأجش من علامات بلوغ، منها تدخين السجائر ومنها الكيف. فكان جيلي من مراهقي التسعينيات يكتشفون البانجو والسجائر الفَرط بنفس لذة اسكتشاف الاستمناء، وكنت أجاهد وقتها لتحويل مظهري الخارجي من مظهر النِرَدة تعريب nerds ونِرَدة على وزن قِرَدة الدحاحين في العربية المصرية دحّ يدح دحًا فهو دحّاح وجمعها دحاحون ودحيح وجمعها دحيحة، أي ذاكر الكتب مذاكرة شديدة حتى فشخها. إلى منظر الطلبة العاديين، وهو المشروع الذي أفشله عاملان، نظارتي الطبية أولاهما وثانيهما القسم العلمي ونظام الثانوية العامة. كنا نحاول أن نخرج من الإطار فيقول لنا النظام “كونوا نِرَدة مُعقدين“، فكان الاستماع لجورج أحد سمات ذلك الهروب من النمط المفروض علينا. في سيارة اللادا التي يقودها أحد الزملاء الأكبر سنًا، في الشوارع الخلفية المحصورة بين شارع الميرغني وشارع صلاح سالم في ضاحية مصر الجديدة، غير بعيدين عن قصر البارون الذي كان محور الحديث قبل شهور من تلك الليلة في أساطير قضية عبدة الشيطان، كانت سحب دخان البانجو، المخدر الشعبي الأكثر انتشارًا وقتها، تملأ السيارة، وكنا قد استهلكنا شرائط الكاسيت السائدة وحان وقت التغيير ليتناسب مع هدوء ما بعد الكيف.
كانت مصر التسعينيات تسبح في حالة موسيقى الموجة الشبابية في الإذاعة والتلفزيون وكانت تغرق في توزيعات حميد الشاعري ومقلديه حتى يخيل للسامع إن كل الأغاني هي نفس الأغنية، أو كما قال لنا أحد باعة الكاسيت ذات يوم عندما سألناه عن اسم المغني الدائر شريطه في الكاسيت “مش عارف والله أهو صوت“. دخل جيلي زمن المراهقة فأخذ يبحث عن صوت مختلف عما يسمع ليلاً نهاراً، وكان جورج وسوف غير مستهلك في الراديو والتلفزيون فشكل صوتًا مختلفًا عن السائد. أخرج الصديق الأكبر شريط كلام الناس ووضعه بالكاسيت، كان صوت وسوف الأجش الهادئ النبرات مناسبًا لظلام تلك الليلة الصيفية وبحة صوتنا المنهك من كثرة التدخين، منعني إفيه أشرف عبد الباقي عن كلام الناس من الإنصات لها، لكن لو يواعدني الهوى (كلمات عزت الجندي وألحان شاكر الموجي) واعدت هوىً حقيقيًا في نفسي حتى صارت نشيدي غير الرسمي لإعلان بداية أي حالة حُب، كما اعتدنا تسمية بوادر الإعجاب قبل أن يسميها الجيل التالي لنا كراشًا.
كانت الأغنية في تلك الليلة أنسب لحالة مراهق يبحث عن صوت مختلف يناسب حالة الانبساط المختلفة، أنسب للهدوء الليلي في الشوارع الخلفية، وسأكتشف فيما بعد حين يتمرس سمعي اختلافها عن أغنية كلام الناس وبياعين الهوى من نفس الشريط. فهي أغنية تمانيناتي بتوزيعها الهادئ وعدم استخدام أصوات الكورال النسائية الحادة، ما سلطنّي وقتها ولا يزال هي جملة “بس فين الحب يا قلبي وفين” التي تتكرر كثيرًا لتكون قفلة المذهب والكوبليه، “بس فين الحُب يا قلبي” تعبير عن غُربة مثلما كانت روحي يا نسمة، غُربة مراهق يبحث عن حب كما كنت وقتها، وغُربة آباء إثنين من الأصدقاء الموجودين في نفس السيارة.
كانت جامعتي من جامعات الأقاليم وهو الاسم الذي يطلقه القاهريون والاسكندريون على جامعات المحافظات، وكانت المدينة الجامعية بوتقة انصهار لكافة الأمزجة الموسيقية، “مثل المواقف الكبرى بكل محافظة يلتقي السائقون من مختلف المناطق، الصعيد أو الدلتا أو مرسى مطروح وسيناء“، لو استعرت عبارة شارل عقل في مقاله عن وسوف. في تلك السنوات استمعت لكل ما يمكن الاستماع له، بداية من محمد وردي السوداني حتى الراي الجزائري. كانت فيروز وقتها هي بطلة المشهد السمعي الشخصي طوال سنواتي الجامعية، كانت هي وأم كلثوم معادلًا لنضج مختلف عن نضج المراهقة، لكن استعادة أغاني جورج وسوف كانت أكثر خفة من أغاني فيروز، حتى لو سمع زميلي في المسكن كلمات أغنية حبيتك بالصيف “مرقة الغريبة” بدلًا “مرقت الغريبة“، كانت فيروز أكثر وقارًا وكان استماعها طقسيًا مما يجعلها مضادة للقلش. أما أبو وديع فكان واحد صاحبنا، نسمع أغانيه ونقلش عليها ونحن نذاكر في ليالي الامتحان. ولا أذكر كم مرة غنينا سابق ولاحق بنفس لحن صابر وراضي، كان صوته في تلك السنوات الأولى من الألفية قد أتم تحوله إلى مرحلة الصوت الخشن، وهو لم ينكر ذلك أو يخفيه واستمر في كسر وقار الأغاني بإدخال أصوات غريبة لا هي آهات ولا هي ضحكات، في يوم الوداع (من شريط زمن العجايب ٢٠٠١) وفي حبيت ارمي الشبك (من شريط إنت غيرهم ٢٠٠٢) وفي سلف دين (شريط سلف دين ٢٠٠٣) يكرر جورج نفس الصوت “يا اللي إنت مالكش قلب هيهيهي مالكش قلب“، وهو صوت عفوي يكسر وقار الأغنية التقليدية ويجعلها أكثر قربًا للمستمع.
في سنوات الجامعة تلك اكتشفت جورج الكلثومي، كان جيلي يرغب في الاستماع إلى أغاني الست، زمن الفن الجميل كما يردد الكليشيه السائد، مع التحرر من وقار البدلة الرسمية والفساتين المنشية التي تظهر في حفلاتها المصورة. وكان صوت وسوف مدخلنا إلى الست، فوسوف في غنائه لأغاني الست يحقق ما يمكن تسميته دمقرطة democratization الطرب بحيث يوحي لأي سميع إنه يمتلك تلك الأغنية ويستطيع أن يغنيها مهما كان صوته أجش وخشن.
في حفلات جورج وسوف يتحرر السامع من وقار الستينيات الزائف وينخرط في فعل الانبساط، والطرب مرادف للانبساط، وهو مصطلح عام يعبر عن الفرح والنشوة والطرب وكذلك السكر. “فلان مبسوط شوية” كانت تستخدم في العامية المصرية قديمًا لتعني إنه شارب كاسين، في أغلب حفلات سلطان الطرب يحضر الرقص كمزيد من التعبير عن الانبساط والتحرر من تقاليد السماع الكلاسيكية، سواء رقصت إحدى الحاضرات أو راقصة محترفة، فالرقص تعبير جسد الأنثى عن طربها بالمَغنى. يعيد الرقص للغناء الغزل السحري بين الخصر والحنجرة، فالخصر يطرب للحنجرة ويثيرها بالمعنى الفني والحسي للكلمة، حتى لو كان حضور الرقص مبررًا لدى الطبقات المحافظة لنعت هذا اللون من الغناء بالكباريهاتي. لكن تلك حقيقته، فهو غناء ابن صالات، يتحرر من قيود الآداء المدرسي في الحفلات الرسمية.
والسائقون كالمبسوطين في علاقتهم بالليل. غير أن المبسوطين لهم صُحبة وسائقو الليل بلا صُحبة سوى الزبائن العابرين، من هنا يحتاجون إلى أنيس، والطرب عندهم مرادف للأنس، والأنس مرادف للكيف كذلك، واستطاع جورج مع آخرين احتلال تلك المساحة عبر غنائه واللون الذي يقدمه، اللون الذي يُثَبِت الوقت عند إثارة الحنين لزمن لم يعد موجودًا ويخلط الحزن بالفرح، ذلك الشجن الذي ينشد به جورج “الحب شاطر ولا له خواطر” (كلمات عبد الرحمن سيد الأهل وألحان شاكر الموجي) ليتبعها بجملة مرحة في اللزم الموسيقية، وهو مزج مماثل لما نجده في أغنيات حسن الأسمر وأحمد عدوية، وهما من أنيسي سائقي الليل، وهو مزج ابن الحياة نفسها لذا يجد صداه لدى السميعة.
الأمر الجميل في صوت جورج وسوف إنه تجري عليه عوامل الزمن ويشيخ، وجه أبو وديع نفسه يتغير ليصبح إنسانًا طبيعيًا، شابًا ثم رجلًا ثم شيخًا، على عكس مغنيين آخرين لا تصيبهم عوامل الزمن كأنهم كائنات لا زمنية. وفي بدايات الألفية استبدل جورج الصوت الجميل بالآداء الجميل المتحرر. غرض الأغنية الوسوفية لا يخرج عن أغراض الغناء التقليدي من إثارة الطرب. في السنوات الأخيرة لا أستمع كثيرًا لأغنياته ولا يمكن تصنيفي كوسوفي، لكن أغنيات وسوف تستدعي نفس الحالة دومًا كأن الزمن توقف عندها، صوته يشيخ لكن حالة السلطنة لا تشيخ. أتى جورج وسوف في موعده ليعبر عن شيء كان جيلي يبحث عنه، ليغني عن الغربة والشجن والحنين لزمن لم يعد موجودًا وربما لم يوجد أبدًا. كثيرًا ما أشعر أن أبناء الثمانينيات كلهم أبناء غربة ولو لم يغتربوا. كذلك ظلّ غناء جورج وسوف غريبًا يغني لأجيال الغربة، يغني لنا نحن الذين انتظرنا عودة الغائبين بفارغ الصبر، من أجل هدايا الطفولة وجينزات المراهقة وسجائر وكحول الشباب وآيفونات ما بعد الحداثة.