fbpx .
كريطة الشتات الأغنية التونسية الوسالتية الموريسكيين الزحفة الهلالية معازف Araba Tunisian Song Diaspora Ma3azef

بكرتي شردت مع العزّابة | الشتات هويةً للأغنية التونسية

هيكل الحزقي ۲۰۲۱/۰٤/۱٦

من الصعب الحسم في سؤال الهوية المتعلق بالأغنية التونسية. تذهب بعض المصادر إلى أن أقدم نص غنائي يعود إلى زمن الزحفة الهلالية، مؤكدةً أنه لم يتبقَّ غير الأصول العربية للغناء في تونس حسن حسني عبد الوهاب، الموسيقى وآلات الطرب في القطر التونسي، صفحة ١١٥.. على صعيدٍ آخر، هناك من يرى أن التقارب بين البدويين والحضريين قد ساهم بشكلٍ كبير في تشكّل الأغنية التونسية الصادق الرزقي، الأغاني التونسية، صفحة ٤٤.، على امتداد حقباتٍ تاريخية مزقتها الحروب والصراعات وحركات النزوح، وأجّجتها النعرات القبلية. 

نظريًا، أصبحت تلك الحقبات وصراعاتها وهجراتها تاريخًا بعيدًا، لكن الواقع غير ذلك. رغم التقسيم الإداري في تونس الذي أجهز على التوزيع القبلي للبلاد منذ بدء الاحتلال الفرنسي سنة ١٨٨١ وتعزّز خلال مرحلة الاستقلال، بقي عطش الهوية الصغرى المرتبطة بالبداوة والانتماء القبلي أو العروشي ’العرش ذات جماعوية معنوية وقرابية تقوم على عصبة الالتحام ورابطة الدم الحقيقية أو المزعومة، والعرش جزء من الفريق والفريق جزء من الفخذ والفخذ من البطن والبطن من القبيلة.’ عبد الواحد المكني، المعادلة الصعبة، فشل حركة الاستنارة الحديثة في البلاد العربية، صفحة ٥٨. مُحرّكًا للتشكيلات القبلية التي عانت من ضيم التشتيت وقمع السلطة المركزية، ودفع نحو مزيدٍ من الحفر في تشكيلات الهوية التونسية، حيث تتقاطع سرديات الشتات والزحفات والهجرات، من الهلاليين إلى الموريسكيين والقبائل التي تمزّقت أوصالها بفعل عنف المركز. في هذه السرديات تكمن قصة الأغنية التونسية.

مع العزّابة وشتات أهل وسلات

سكن الوسالتية قديمًا جبل وسلات شمال غرب القيروان وسط البلاد التونسية. يحمل الوسالتية الجرح الأكبر في تاريخ القبائل التونسية، بعد تعرّضهم إلى التشتيت والتنكيل والإبعاد النهائي عن مسكنهم في الجبل. لا تزال مروياتهم الشفوية مرتبطة بشكل عضوي بالشتات والضياع وحلم العودة. تكثفت كل تلك العناصر، ربما بشكل غير مسبوق، في أغنية مع العزّابة التي أدتها صليحة في النصف الأول من القرن الماضي، وذكرها المؤرخ الصادق الرزقي في كتابه الأغاني التونسية عندما نسبها إلى إحدى نساء وسلات بعد الجلاء عن الجبل سنة ١٧٦٢. اكتنزت الأغنية بحمولة تاريخية وكاشفتنا عن الجروح الغائرة لشتات أهل وسلات، كما اختزلت الملامح الكبرى التي شكّلت هوية الأغنية التونسية.

بحسب المؤرّخ عبد الواحد المكني في كتاب شتات أهل وسلات بالبلاد التونسية: “يُطلق لفظ الشتات على كل مجموعة أصابها الشت والتفرق والتباعد بعد عصر من اللحمة والانصهار”، في تناقضٍ مجازي مع لفظ الوكّارة الذي كان يُطلق على قليلي الحركة والميّالين إلى الاستقرار في أرضٍ واحدة ومسكن ثابت. شُبِّهت مساكن الوسالتية بأعشاش النسور كونها عصيّة على الاختراق. يشير عبد الواحد المكني إلى أن الجبل، في حضارة المتوسط، كان دائمًا ملجأً ومعقلًا للحرية في مواجهة الغضب والتسلط والغطرسة في السهل، غير أنه سرعان ما يضيق بكثافة سكانه فتصعب الحياة فيه، لِيكون مصير الهجرة والشتات محتّمًا سواءٌ كان ذلك بالإرادة أو بالغصب.

تعود حكاية تشتيت الوسالتية إلى بواكير الزمن الأول للدولة الحسينية نسبةً إلى الحسينيين، سلالة حكمت تونس منذ سنة ١٧٠٥ إلى ١٩٥٧، والموافق لتاريخ إنهاء الملكية وإعلان النظام الجمهوري بعد الاستقلال. اشتُق الاسم من الحسين بن علي الذي انشق عن الدولة العثمانية مؤسسًا كيانًا خاصًا في تونس سُمي بالدولة الحسينية، وأُطلق على حكامها لقب البايات. منذ بدايات القرن الثامن عشر. اهتم الإخباريون والمؤرخون بسيَر الحكام الأوائل للدولة الحسينية، والحرب الأهلية التي اندلعت جراء الصراع الحسيني-الباشي، نسبةً إلى الحسين بن علي – مؤسس الدولة – وابن أخيه علي باشا. ثبّت الحسين ابن أخيه علي باشا وليًا للعرش بعد تقدمه في السن، وتعذُّر إنجابه لأولاد يخلفونه السلطة. لكن بعد اتخاذه لجارية جنوية (قادمة من جنوة) ولدت له طفلًا، تراجع الحسين عن تعيين ابن أخيه وسحب منه العرش لصالح ابنه. انتفض علي باشا ضد عمه، وأعلن الثورة مستعينًا ببعض القبائل؛ لكن بعد تيقّنه أن لا طاقة له بجنود الحسين تقهقر بصحبة ابنه يونس إلى جبل وسلات محتميًا بالوسالتية. جمع الحسين صفًا عتيدًا من القبائل الأخرى وشنّ الحرب على الجبل في سنة ١٧٢٨ ليشرد أهله وقراه لأول مرة ويتسبب بهروب علي باشا وابنه إلى الجزائر. رجع الباشيون إلى تونس سنة ١٧٣٥ واحتلوا العاصمة، قبل أن يعدموا الحسين باي سنة ١٧٤٠. عرفت الحرب طورها الانتقامي الأخير بدايةً من سنة ١٧٥٦، عندما جمع الحسينيون أنفسهم وأطاحوا بالصف الباشي والقبائل المتعاطفة معهم، وعلى رأسها الوسالتية، ونكّلوا بهم. كان الجلاء الأخير عن الجبل سنة ١٧٦٢، التي تزامنت مع فرار يونس بن علي باشا إلى الجزائر. أمر علي باي بِتشتيت أهل وسلات ومنعهم من العودة إلى الجبل، ما حوّلهم من “أقلية مشاغبة” إلى “أقليةٍ صامتة” مشرذمة، على حد تعبير المؤرخة لوسات فالنسي.

كان التشتيت عنيفًا ورافقه نزيف بشري عرقي لم تعرف تونس مثيلًا له في تاريخها. تضمن العنف ثلاثة مظاهر، القتل والأسر والنهب بلغ عدد القتلى حسب الروايات الشفوية الراجعة إلى القرن التاسع عشر قرابة ٥٠٠ قتيل، أُرسلت رؤوسهم إلى قصر الباي في الحاضرة (عبد الواحد المكني، شتات أهل وسلات بالبلاد التونسية، صفحة ٦٠). اقتيد الأسرى إلى العاصمة بشكلٍ مذل، وطِيفَ بهم أمام العامة مصفدين بالأغلال، كما جرى استغلالهم في الأعمال الشاقّة. تزامن التشتيت مع اشتداد حرارة الصيف، ومن نجا من الموت أثناء التقتيل والتخريب قضى نحبه عطشًا أو في مواجهة قطاع الطرق والقبائل العربية (أي القبائل ذات الأصل العربي. تنقسم القبائل في تونس إلى عربية وبربرية).، تكثّفت صورها بشكل بليغ في أغنية مع العزّابة: “نا بكرتي شردت مع العزابة / خشّت بلاد الشيح والقطاية”. وردت الأغنية على لسان أم تبكي فقدان ابنتها البكر، التي تركت جبل العزّ والنعيم لتذهب عنوة إلى بلاد الشيح والقطابة وهي نباتات صحراوية، المقصد من استعمالها في نص الأغنية وضع مقارنة تحسّرية مع البكر التي تركت جبل الخيرات لتتشرد في الصحاري التي كانت محسوبة على البدو.. يستدلّ عبد الواحد المكني بمقطع “شردت مع العزّابة” ليشير إلى اضطرار نساء وسلات إلى بيع أجسادهنّ، معللًا ذلك بقوله: “كان الحريم الوسلاتي رمزًا من رموز النكبة، فانجرّ على الكارثة التي حلّت بالجبل الثائر سَيْر بعض نساء وسلات في طريق الرذيلة: شردت مع العزّابة [جمع أعزب في العامية التونسية] – أو فرت مع الرعاة الصعاليك.” يتفق عبد الواحد المكني مع عبد الحميد لرقش الذي دعّم هذه القراءة في كتابه المشترك مع دلندة الأرقش، مهمشات في تاريخ الإسلام. ارتكز كلا المؤرخَين على رواية محمد الصغير بن يوسف الباجي الذي وصف في كتابه، المشرع الملكي في سلطنة أولاد علي تركي، تشريد الوسالتية ورحلتهم القاسية التي رافقتها المجاعة وفتك قطاع الطرق وسبي نسائهم، ما اضطرهم إلى بيع أبنائهم وبناتهم، قبل أن يكسب علي باشا جولته الانتقامية الأولى سنة ١٧٣٥ ويُرجعهم إلى الجبل.

خلافًا للمؤرخَين، ذهب عالم الاجتماع أحمد خواجة في كتاب الذاكرة الجماعية والتحولات الاجتماعية من مرآة الأغنية الشعبية إلى قراءة سوسيولوجية رمزية للأغنية، واعتبر أن البِكر التي شردت مع العزابة، هي الغنم التي ضاعت مع رعاة العزيب (قطعان الغنم أو الإبل التي ترعى بعيدًا عن أهلها بعد انقطاع لبنها) في الصحراء، ولا يمكن أن تكتسب الصورة طابعًا مباشرًا نستقرئه كشرود الفتيات البكر مع الفتيان. يرمز المغنى – حسب خواجة – إلى خضوع القبلية إلى الدولة، وما يرافقه من ذوبانٍ لهوية المجموعة وضربٍ لنظام قيمها. 

يمكننا ترجيح قراءة أخرى قد تبدو مناقضة: المعروف عن جبل وسلات تبنّي أغلب شيوخه للفقه الإباضي ينسب إلى منطقة بني ميزاب بالجزائر، ومن خصائصه الدنيوية - إلى جانب الدينية - تكليف الشبان بالتزام العزوبية والهجرة للمتاجرة.، ما يحيلنا إلى مصطلح العزابة الذي يشير في الإباضية إلى تنظيم اجتماعي ديني مرتبط بطقوس الورع والتعفف، وبالتالي يمكننا التخمين بأن تحسّر الأم المغنية في مع العزابة يشير إلى أن ابنتها البكر التي شردت مع العزابة، تشتتت ورحلت مع الصالحين من القوم الذين هتّكهم “العرب القتّالة” (من كلمات الأغنية، ويقصد بها القبائل العربية وفرسان الباي).

عدا عن معاناة الشتات والسبي المرتبطة بمأساة الجبل، احتوت الأغنية على إحالات سياسية تعكس التمزق القائم وقتها بين القبائل ذات الأصل البربري في مواجهة القبائل العربية. ينحدر الوسالتية من أصل بربري، وهم في نفس الوقت جبالية (يقسّم السكان في ذلك الوقت بين الوطّانة أي سكان القرى، والرحّالة أي البدو، بالإضافة إلى الجبالية سكان الجبل)، ما يجعلهم عرضةً لِمعاداة مزدوجة من القبائل ذات الأصل العربي وقوافل البدو الرحّالة، إذ لطالما ظلّت القبائل البربرية موصومةً بالثورة ضد السلطان العربي الحاكم، رمز الشرع والإسلام. كما سبق للوسالتية تحديدًا احتراف التمرد والثورة قبل انخراطهم في الفتنة الباشية-الحسينية لو اكتفينا بالقرنين السابع والثامن عشر، لتبيّن لنا احتضان الجبل لِأبي القاسم الشوك سنة ١٦٧٤ الذي هرب من بطش الدولة المرادية، ومن بعده مراد الثالث سنة ١٦٩٩ ثم علي باشا سنة ١٧٢٨.. تتضح الإشارات السياسية في المقطع الذي يحيل إلى أزمة الحامة التي سبقت تشتيت الوسالتية وماثلتها في العنف والدموية: “يا جبل وسلات وسع بالك / اللي جرا للحامة يجرالك”. تمرّد أهل الحامة وتعرضوا إلى التنكيل في عهد حمودة باشا المرادي في القرن السابع عشر، حتى حل الخراب على المدينة بأكملها.

على صعيد آخر، يجدر الإشارة إلى الدور التحريفي الذي لعبته الرشيدية إبان تأسيسها، من خلال العبث بالنص الأصلي. يشير الشاعر الجليدي العويني ضمن مقاله نصوص أغاني صليحة: المنطلقات، المضامين والموازين مقالات عن صليحة، مركز الموسيقى العربية والمتوسطية، صفحة ٤٣.، إلى دور الرشيدية والإذاعة في نزع كل ما يُدين الحسينيين من الأغنية: “عزّز تأسيس الإذاعة هذا الخيار في انتقاء المفردات، لأن المحطة الوليدة كانت تحتاج أغانٍ تحترم أعراف وأخلاق مستمعيها والرشيدية كانت المموّن الأول في هذا المجال؛ وقد سعى الشعراء إلى إجراء تغييرات حتى على الأغاني التراثية، ففي بكرتي شردت مع العزابة مثلًا تحول البيت الأصلي من ’يا سايقين الابل يا جمّالة / تونس بعيدة والعرب قتّالة’، إلى ’تونس عزيزة والعرب رجّالة’”. عبث مقص الرشيدية بكلمات الأغنية التي أرّخت بدون مواراة لدموية الدولة الحسينية، في تملّق لروايات التاريخ المغلوطة التي دوّنها القريبون من سلطة البايليك (نسبةً إلى البايات). شمل الأمر عدة أغانٍ جرى طمرها أو وصمها بالخليعة، تأكيدًا لمشروع الرشيدية الوليد القاضي بتطهير الأغاني التونسية، وتجريد مضامينها من إشارات قد تدين تاريخ المملكة الحسينية وقتها. كيف لا والرشيدية التي أُسست سنة ١٩٣٤ تحت حكم البايات – وإن كان صوريًا زمن الاستعمار الفرنسي – قد سُمّيت تيمّنًا باسم محمد الرشيد باي، ابن الحسين بن علي وأحد الفاعلين في الفتنة الحسينية-الباشية.

إلى جانب قيمتها التاريخية، تحمل مع العزابة أيضًا أهمية موسيقية. تسللت الأغنية من الموروث البدوي الريفي إلى الذاكرة الغنائية الحضرية بفضل الشيخ أحمد الوافي (١٨٥٠ – ١٩٢١)، الذي بثّ روحًا جديدة في الموسيقى التونسية منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. أدخل الوافي مجموعةً من الأغاني البدوية على الفرق الموسيقية الحضرية، مثل بخنوق بنت المحاميد التي تميزت باحتوائها نوعين من الألحان، تونسي في صوت العرضاوي، وليبي تعبيرًا عن وجود قبيلة المحاميد بين البلدين؛ ونا وجمالي فريدة ونا بكرتي شردت مع العزابة وساق نجعك ساق، بالإضافة إلى أغنية الشاعر أحمد الدريدي يا حمد يا خويا. رغم منشأها المرتبط بجبل وسلات، أُدّيت مع العزابة في طابع العرضاوي المنسوب إلى منطقة الأعراض في الجنوب التونسي. فرّغت صليحة في أدائها للأغنية قدرًا من الشجن بدت معه وكأنها تحاكي مأساتها الشخصية، وهي الفتاة الريفية القادمة من قرية نبر الحدودية مع الجزائر إلى العاصمة بحثًا عن حياة أيسر. 

اعتمدت صليحة على الأسلوب الطرابلسي الشائع في الغناء التونسي، والمرتبط بدوره بشتاتٍ آخر، قَدِمَ مع قوافل الليبيين الذين هربوا إلى تونس خلال فترات متعاقبة من التاريخ. ينطلق الغناء في الأسلوب الطرابلسي من آخر كلمة أو عبارة في شطر البيت ثم يُستأنف من البداية. لا يزال الأسلوب منتشرًا إلى اليوم وخاصة في الغناء البدوي، مثل غناء الأديب (الذي يتقمص فيه المؤدّي دور المغني وملقي الشعر البدوي) في الجنوب التونسي أو ما يُسمّى بصوت العرضاوي.

عدا عن أغنية مع العزابة، نجد آثارًا شعرية ارتبطت بقصص شتات أهل وسلات وتناقلتها الذاكرة الشفوية:

“صيد الخنق بات يلهاث / على لبوته فارقاته 

  كندر في جبل وسلات / في مجردة جاوباته” (صيد الخنق: أسد الفجوج / كندر: تأوه وأصدر صوتًا يشبه الأنين)

تخلّد هذه الأبيات قصة حب تمزقت أوصالها، بين الفارس المشبّه بالأسد الذي حفيت قدماه بحثًا عن حبيبته في جبل وسلات، وسُمع أنين وجعه من بعيد ليُرجع له الصدى صوت حبيبته القادم من صفاف نهر مجردة. تتواتر صورة الأسد الذي يعترض الفارس الهائم بين الفجوج والجبال في الذاكرة الشعبية، ولعل ملحمة طرق الصيد طرق الصيد عبارة عن قصة محكية بالشبّابة - أي القصبة أو الناي - تصور معركة ضارية دارت بين رجل وأسد اعترضه في بعض الفجاج أو الفرات. أحمد الخصخوصي، من مغاني الشعر الشعب التونسي، صفحة ٧٣. الغنائية أبرز تجلياتها. تجد تلك الصورة جذورها في الخيال الشعري عند العرب قديمًا، فقد ذكر بديع الزمان الهمذاني في المقامة البِشريّة عن حادثة بشر بن عوانة العبدي، الذي صارع الأسد في طريقه إلى خزاعة، وأتى البحتري في عهد المتوكل على وصف نزال الفتح بن خاقان مع الأسد. تسللت تلك الصور الشعرية العربية القديمة إلى الشعر الشعبي التونسي، بعد أن وصلت إلى بلاد المغرب الكبير خلال القرن الحادي عشر زحفة عربية عظيمة لم يشهد مثلها التاريخ من قبل، غيّرت من شكل المنطقة وأكسبتها بداوة لازمتها إلى زمن غير بعيد.

الموريسكيون والزحفة الهلالية

استقر أغلب الهلاليين في الأرياف والبوادي التونسية وجاؤوا بقطعان كبيرة من الإبل، وأدى انتشارهم في البلاد إلى تراجع للحياة الزراعية المستقرة. تحدث المؤرخون عن تلك الزحفة بالكثير من الغلظة، فنعتها كل من ابن خلدون وحسن حسني عبد الوهاب بِالكارثة الكبرى، واستعمل ابن الخطيب معجم السبي والخراب والهتك لتوصيفها. جاء الهلاليون بثقافة خشنة قوامها القبيلة والبداوة وحب الحرية ونزعة الاستقلال عن أيّ حكم دولي مركزي. تميز محمد المرزوقي عن الجميع ومنح شتات الزحفة امتياز نشر الشعر الشعبي أو الملحون في تونس، وتغيير شكل اللهجات المتداولة وابتكار موازين وقوالب جديدة للشعر، فيما نسب إليهم أقدم نص غنائي وصل تونس. 

يربط المؤرخ التونسي عثمان الكعاك في كتابه الشيخ أحمد الوافي بين تشابه الملحون التونسي الذي قدم مع أعراب بني هلال وسليم مع أنماط شعرية عربية: “لكن هذا الفن الملحون التونسي هو عين الفن الكويتي واليمني والعراقي واللبناني والنجدي والحضرمي، في الوزن والعروض والموضوع وحتى الألفاظ. مع أننا نعلم أن اليمنيين (قضاعة، هذيل، سلول، عامر) والكويتيين (بني مطير) لم يأتوا في زحفة الهلاليين وإنما في الفتح الأول.” يدعم المرزوقي في تناوله للأدب الشعبي هذا التقارب، ويؤكد على محافظة الشعر الشعبي في تونس على الصور الشعرية المعروفة في الشعر العربي القديم، لا سيما الجاهلي، وذلك لتقارب مناخ الجنوب التونسي مع مناخ الجزيرة العربية، والاشتراك في نفس الأساطير تقريبًا.

تقاطع الشعر الشعبي البدوي الذي قدم به شتات الزحفة مع الأزجال الحضرية التي جلبها الموريسكيون أو الأندلسيون إلى تونس، عبر هجرات متباعدة حتى تاريخ طردهم من إسبانيا خلال العقد الأول من القرن السابع عشر؛ وفيما استقر أغلب القادمين من بني هلال وسليم في مناطق الجنوب والوسط، لم يبتعد الموريسكيون عن مناطق الشمال التونسي، نظرًا إلى تقارب المناخ والطبيعة هناك مع موطنهم الأصلي. أورد عبد الواحد المكني بناءً على بعض الروايات الشفوية حادثةً جمعت بين الوسالتية والموريسكيين، وقعت عندما استقر الوافدون من وسلات سنة ١٧٦٢ على مشارف تستور في مكان يعرف بِالمندرة، حيث ظلوا هناك بضعة أيام إلى أن اتصل بهم أندلسيو تستور وطلبوا منهم مساكنتهم باعتبارهم يشتركون في نفس المصير، أي مصير التشتيت: “الإثنين ضياف”.

يشترك الموريسكيون مع الوسالتية في المحنة، وإلى وقت قريب، ظلت بعض العائلات الموريسكية محتفظة بمفاتيح ديار أجدادها في الأندلس للذكرى، بعد تلاشي أمل العودة أحمد الحمروني، دراسات وقراءات أندلسية موريسكية، صفحة ٧٨.. اندمج الموريسكيون بشكل سريع مع المحليين، وكانت لهم إضافات مرموقة في مجال الفلاحة والمعمار والمطبخ، إلى جانب المخزون الموسيقي والغنائي الذي قدم معهم وتوطّن على مراحل: “أما عن موسيقى القرون الوسطى – أعني موسيقى الأندلس المعروفة بالمالوف، فقد وردت على تونس على أيدي أمية بن عبد العزيز بن أبي الصلت، الشاعر الصنهاجي، وكان ذلك في أواخر القرن الحادي عشر عند قدوم الرعيل الأول من مهاجري الأندلس. ألّف لنا أمية بن عبد العزيز كتاب الموسيقى الكبير لخصوص المغرب. جاءت بعد ذلك الموسيقى الأندلسية في دفعة ثانية في القرن الثالث عشر، عند سقوط إشبيلية التي كانت عاصمة الفن؛ وعرفنا أحوال ذلك من مقدمة ابن خلدون وما كتب عن محمد الظريف في المجلات التونسية. جاء المالوف مرة ثالثة عند سقوط غرناطة سنة ١٤٩٢، في نفس الوقت الذي جاءت فيه الموشحات والبشارف التركية مع الجيش التركي.” عثمان الكعاك، الشيخ أحمد الوافي، صفحة ٢٥.

على عكس البشارف والموسيقى التركية القادمة مع العثمانيين إلى تونس، احتلت أغاني الشتات والتهجيرات الكبرى مكانة متميزة لدى العامة، في حين بقيت الموسيقى التركية حكرًا على السلاطين والعسكر والطواقم النحاسية المرافقة للمواكب الرسمية للبلاط الحاكم، دون أن يكون لها انتشار فعلي بين العامة. تذكر المرويات الشفوية وكتب التاريخ عن اكتساح المالوف والملحون للفضاءات العامة وتحولها إلى موسيقات شعبية، وإن تميز المالوف بحظوته لدى البلدية والميسورين. تكثّف ذلك في تونس العاصمة التي جمعت الشعر البدوي الهلالي والحضري الأندلسي.

الشتات هويةً للأغنية التونسية

تعاظمت حركات النزوح في تونس مع انتشار الأوبئة وتفاقم الأوضاع الاجتماعية في الأرياف. تذكر سير الترحال القديمة عن مرافقة رحلة الانتقال من مكان إلى آخر، بحثًا عن العمل والكلأ بالنسبة للبدو والنازحين من الأرياف، بالغناء. في مسرحية الكريطة لفرقة المغرب العربي سنة ١٩٧٤، تظهر العائلة المكونة من الأب وأبنائه القادمين من ريفٍ بعيد إلى تونس العاصمة بحثًا عن العمل، وهم يغنون تراثًا منتشرًا في الغرب التونسي ارتبط بالهجرة والرحيل: “يا طويرة ماك تعلّيت / ثمّش ما ريت” (يسأل المغني الطويرة، مؤنث تصغير طير، عن حبيبه الغائب). للكريطة رمزية اقترنت بالترحال والشتات، ولعل مثال علي الحرازي كان الأكثر دلالة. قديمًا كانت العائلات والتجمعات القبلية تتشتت قسرًا بفعل الأوضاع الاجتماعية أو البيئية. تصاحب عملية الترحّل ارتجالات غنائية طويلة، وعادة ما تكون على شكل ملاليات طويلة ’عبارة عن أصوات فردية غالبًا ما ترددها المرأة، وهي من حيث اللغة مصدر مشتق من المقاطع الأولى التي تبتدئ بها مثل هذه الأغاني كقولهم: ’يا لالا عود قرنفل’؛ وقد اقتدّوا من ذلك صيغة فعل فقالوا: المرأة تلالي أي تغني. هذا النوع من الأغاني هو الملالية التي يمكن اعتبارها نوعًا من أنواع الموال البدوي، إذ يُستهَل هو أيضًا بلون من ألوان الليالي، حيث يتردد حرف اللام الذي يعدّ من الناحية الصوتية من الوقفيّات نصف الرنانة، التي تضفي على صوت المغنية تنغيمًا ملحوظًا.’ نعيمة غانمي وأحمد الخصخوصي، أغاني النساء في بر الهمامة، صفحة ٦٧.، نظرًا إلى سهولة قافيتها وسلاسة إيقاعها وإمكانية تطويعه للسرد. يجري من خلال تلك الغنائيات الطويلة إما التوثيق للرحلة، أو استحضار بطولات وقصص غابرة مرتبطة بالموطن الأصلي لتلك العائلات، فيما تتحول في غالب الأحيان إلى حواريات يكثر فيها التندّر بين أفراد العائلة الكبيرة، للتخفيف من عبء الرحلة وطول الطريق.

عند الوصول إلى المدينة، ينتشر الوافدون وقوافل النزوح في أحزمةٍ سكنية حول المجال الحضري للعاصمة، أو يستقرون في أرباض المدينة العتيقة وتحت جدرانها. يتحدث أحمد خواجة عن انتشار نوع من الغناء البدوي يسمى الحيطي، كان يُنشد ويردد بين حيطان المدينة وأسوارها. اقتصر الحيطي في أغلب الأحيان على ترديد النصوص القديمة لفحول الشعراء الشعبيين، في نبرة استرجاعية حنينية تكشف عن الرغبة في الرجوع إلى الحياة القديمة والهروب من قسوة المدينة. مُنع هذا النوع من الغناء من اكتساح المقاهي وفضاءات المدينة، وبقي يُردَّد بين الجدران وفي أعراس المجموعات المتشتتة الصغيرة، كممارسة طقوسية تسترجع رموز الذاكرة الجماعية. 

لو تعمقنا أكثر في مفهوم الشتات ودلالاته، لشمل المسح التاريخي والأنثروبولوجي موسيقات أخرى إلى جانب المالوف والشعر الملحون. يمكننا توسيع الحديث ليشمل السطمبالي التي قدمت إلى تونس من عمق القارة مع الأفارقة، محمّلين بتاريخ من العبودية. كما لم يقتصر إرث الشتات الغنائي على المواضيع الدنيوية المتعلقة بأحداث نكبة الترحّل القسري، وارتبط في جزء منه بطقوس التصوّف وهروب بعض العلامات الصوفية من مواطنها الأصلية في المغرب أو ليبيا أو أفريقيا جنوب الصحراء للاستقرار في تونس. تشير سلوى حفيظ في كتابها الرقص في الثقافة الإسلامية إلى ازدهار الطرق الصوفية كالعيساوية والسلامية والشاذلية، وتأثر أشكال الرقص والتخمّر فيها بمنشأها الأصلي. ساهم توطّن أولئك القادمين في بعض المناطق واحتكاكهم بالقبائل والسكان المحليين، بمزج الإيقاعات والألحان والتقاليد المتنوعة مع خصوصيات الموسيقى المحلية التي كان لليهود دورٌ في تشكيل جانب مهم من هويتها الإيقاعية والأدائية واللحنية، بجانب بقية مكونات الشتات التي انصهرت في التركيبة المجتمعية التونسية. 

ينقسم اليهود في تونس إلى قسمين: اليهود التوانسة، أصيلي البلد، واليهود القرانة نسبةً إلى مدينة ليفورنو الإيطالية التي قدم منها العديد خلال القرن السابع عشر تزامنًا مع طرد المسلمين من الأندلس. انتشر اليهود في أغلب المناطق التونسية وتعاظم تواجدهم في العاصمة. يقدّر بعض الرحالة الأوروبيين عددهم خلال أواسط القرن ١٩ بحوالي الأربعين ألف هنري دونات، إيالة تونس، صفحة ٢١١.. يشير المختار المستيسر في كتابه نشأة الرشيدية إلى أن اليهود القرانة سيطروا على نيابات دور الفونوجراف وشركات الأسطوانات الحاملة لأغانٍ شرقية. من ثم استحوذ عدد كبير منهم على مهنة تسجيل وتوزيع أسطوانات الأغاني المحلية الشعبية، ما ساهم سريعًا في تغيير الذائقة الفنية الشبابية في البلاد، واعتمدوا في ذلك أساسًا على أقلية اليهود التوانسة الذين احتكروا الرقص والغناء في الأفراح والمناسبات منذ عقود، نظرًا إلى بيئتهم الاجتماعية الفقيرة والمتحررة. 

ابتدع اليهود حيل الغناء وأدخلوا أساليبًا جديدة مثل الفرانكو-آراب، فيما سيطر الغناء الماجن والخليع على تسجيلاتهم وحفلاتهم، ولعل أبرزها ما أورده محمد بورقعة في مجلة الثريا (السنة الثانية، العدد ٤، ١٩٤٥) مثل يا زقطيّة، البنات في البازارت والحب في الزناقي، ليمون الغزلان، يا محلى جمع البنات. أثارت تلك التقاليد الغنائية المتحررة حفيظة العديد، ومنهم الجيل المؤسس للرشيدية تجلى ذلك بشكل بارز في محاضرة محمد الأصرم التي ألقاها في المسرح البلدي سنة ١٩٣٤ - نفس السنة التي تأسست خلالها الرشيدية: ’أيحسن بنا أيها الأمجاد أن تبرز في هذه البلاد قطع غنائية يقال لها شعبية، مثل لا حول الله وشيري حبيتك التي هي عبارة عن خليط من الألفاظ العربية الدارجة والإفرنجية، زيادة على دعارة ألفاظها وخروجها عن دائرة الأدب والكرامة مثل بوشمّة زنزر ومثل ما صابني بردقانة.’ محمد الأصرم، شذرات متفرقة في الموسيقى، فتحي زغندة، صفحة ٦٩.. حرّر اليهود الأغنية التونسية الحضرية دنيويًا، مدفوعين في أغلب الأحيان بِإباحية مقصودة كان الهدف منها السخرية من المسلمين. 

على صعيد آخر، أحدث اليهود القادمون من طرابلس تطويرات مهمة على شكل الموسيقى والتخت المصاحب، فحبيبة مسيكة على سبيل المثال استعانت ببعض فناني طرابلس اليهود الذين لجأوا إلى تونس ضمن حركات الهجرة الطرابلسية الكبرى، وأشهرهم الأخوان برامينو ورحمين بردعة وميمون الجبالي وأخوه ديدو، وتخلّت عن جوق المالوف القديم من عازفي طار ورباب وعود عربي، لتعوضهم بالدربوكة والأورغن، كما كان البشير بن فحيمة، معلّم صليحة الأول، صاحب الدور الأبرز في تثبيت انتشار اللون الطرابلسي في الغناء عندما استقر في تونس قادمًا من ليبيا. 

مثلما أشارت بِكْر العزّابة إلى شتات أهل وسلات، دلّ بوسعدية إحدى الرموز الرئيسية في ثقافة السطمبالي. تحيل قصة بوسعدية إلى راقص زنجي مترحّل يرتدي أسبال جلود الماعز والغنم، ويضع فوق رأسه تاجًا من الدف البحرية وريش طير. يجوب بوسعدية المدن والقرى بحثًا عن ابنته التي بيعت في سوق النخاسة، وهو يغني ويترنم ويعزف على الشقاشق في استعادة رمزية لمسيرة العبيد السود من موطنهم الأصلي إلى شمال أفريقيا. على رحلة الضياع الطويلة للزنجي القادم من أعماق الصحراء الإفريقية إلى شمال القارة، واختزلت الجازية التغريبة الهلالية. حملت شخصيات الشتات في الذاكرة الشعبية ثروةً غنائية وموسيقية رمزية، كما تفرّدت أغنية مع العزابة بشحنة تاريخية تغريبيّة مضاعفة، إذ جمّعت في الآن ذاته بين مختلف أطياف الشتات رمزيًا. إضافةً إلى ارتباطها التاريخي بتغريبة أهل وسلات عن جبلهم ونظمها على الطريقة الشعرية الشعبية التي قدم بها بنو هلال وسليم، ارتبط أداء مع العزابة بالطريقة الطرابلسية التي قدمت إلى تونس من خلال حملات التهجير القسري لليبيين من بلادهم بسبب الاحتلال الإيطالي، كما يُنسب الفضل إلى أحد أحفاد الموريسكيين الهاربين من إسبانيا، الشيخ أحمد الوافي، لإخراجها من الذاكرة الشفوية التراثية قبل اندثارها وترسيمها ضمن المغاني الحضرية. من الإجحاف القول إن الأغنية التونسية كانت خرّيجة طيّعة لِمدرسة رشيدة أو حجرًا مهذبًا صقلته أزاميل المشارقة إما من خلال ازدهار سوق الأسطوانات في بداية القرن العشرين، أو بفعل قدوم وجوه فنية مؤثرة من مصر والشام بالإضافة إلى انتعاش المسرح الغنائي في تونس.، فهي أيضًا أغنية شتات وزحفة وخيمة وحيطان مدينة.

المزيـــد علــى معـــازف